ا ص2 -ص19الأخلاق في القرآن الجزء الأوّل اُصول المسائل الأخلاقيّة آية الله العُظمى الشّيخ ناصر مكارم الشيرازي بالتعاون مجموعة من الفضلاء [ 2 ] الاهداء: إلى الذين عشقوا القرآن الكريم إلى رواد ماء الحياة من هذا الينبوع الصافي إلى الذين يريدون أن يفهموا القرآن ويعملوا به بمساعدة مجموعة من الفضلاء 1 - محمد جعفر الامامي 2 - محمد رضا الاشتياني 3 - محمد إحساني فر 4 - محمد جواد أرسطا 5 - إبراهيم البهادري 6 - سعيد داودي 7 - أحمد القدسي [ 5 ] المقدمة المقدمّة: لا يخفى أنّ المسائل الأخلاقيّة، تخطى بأهميّة كبيرة في كلّ زمان، ولكنّ في عصرنا الحاضر، إكتسبت أهمية خاصة، وذلك: 1 ـ إنّ قوى الإنحراف و عناصر الشرّ و الفساد، قد إزدادت في هذا العصر، أكثر من جميع العصور السّالفة، فإذا كان التّحرك في الماضي في خطّ الباطل و الإنحراف، يكلّف الإنسان مبلغاً من المال، أو شيئاً من الجهد، ففي هذا الزّمان و بسبب التّقدم العلمي والتّطور الحضاري، أصبحت أدوات الفساد في متناول الجميع، هذا من جهة: 2 ـ ومن جهة اُخرى، إنّنا نعيش في هذا العصر ضخامة المقاييس، فبينما كانت المقاييس والموازين محدودةً في الماضي، و بتبع ذلك نرى محدوديّة المفاسد الإجتماعية والأخلاقيّة، فإنّ القتل في هذا الزّمان بسبب أسلحة الدّمار الشّامل، والفساد الأخلاقي بسبب انتشار أشرطة الفيديو والسّينما الخليعة، وكذلك ما يفرزه "الأنترنيت" من معلومات فاسدة، و يضعها في متناول الجميع، كلّ ذلك يحكي عن إنفجار في دائرة الفساد و الإنحراف، و كسر القوالب الضّيقة الّتي كانت تحدد قوى الباطل في الماضي، ليسري إلى خارج الحدود، و يصل إلى أقصى بقعة في العالم. وإذا كان إنتاج المواد المخدّرة في السّابق، ينحصر بقرية أو منطقة محدودة، و لا يتجاوز ضرره سوى المناطق المجاورة، فاليوم نرى أنّ الابتلاء بمرض الإدمان، و من خلال عمليّة التّهريب الواسعة لعصابات الموت، قد غطى أجواء العالم أجمع. 3 ـ ومن جهة ثالثة، أنّنا نشاهد توسّعاً هائلاً في العلوم النّافعة لِلبشر، في مختلف جوانب الحياة في علوم الطّب و الفضاء، و الإتصالات والمواصلات وأمثال ذلك، و كذلك الحال في [ 6 ] العلوم الشّيطانية ووسائل الفساد و الإنحراف، حيث تطورت بشكل مذهل، الى حد إنّ القوى الشيطانيّة التي تقف وراء إنتاج أدوات الإفساد الإجتماعي، يتوصلون إلى تحقيق أهدافهم بطرق ملتوية كثيرة و يسيرة، و مثل هذه الظّروف و الأجواء تحتم علينا الإهتمام بالمسائل الأخلاقية أكثر من أيّ وقت مضى، وإلاّ فعلينا أن نتوقّع الكارثة، أو الكوارث التي تشلّ في الناس إرادة المواجهة، و تحولهم إلى كيانات مهزوزة أمام حالات الخطر. و يجب على العلماء الواعين و المفكّرين المخلصين، أن يتحركوا من موقع التّكاتف فيما بينهم، لتعميق الأخلاق في قلوب الناس، و تفعيل عناصر الخير في وجدانهم، والإنتباه إلى الخطر المحيط بالأخلاق، بحيث إنّ البعض أنكر فائدتها من الأساس، أو ذهب إلى أنّها غير ضروريّة، والبعض الآخر تعامل معها من موقع المصلحة و البرُ اجماتية، للوصول إلى مطامعه السّياسية. -- ولحسن الحظ فإنّنا كمسلمين، نمتلك مصدراً عظيماً للمعارف الأخلاقيّة، و هو القرآن الكريم، الذي لا يُدانيه أيّ مصدر ديني آخر في العالم. ورغم أنّ العلماء والمفسّرين، قد تناولوا البحوث القرآنية في دائرة الأخلاق، بالبحث والدّراسة، إلاّ أنّ هذه الأبحاث و الدراسات جاءت متفرقة و لا تفي بالغرض، ولهذا إفتقرت السّاحة الثقافية و التّفسيرية، إلى كتاب أو كُتب لدراسة هذا الموضوع، بالإستيحاء من الآيات القرآنية، فكان هذا الكتاب الذي بين أيديكم و بإسم: (الأخلاق في القرآن)، إستجابة عمليّةً لِهذه الحاجة الماسّة في حركة الواقع الثّقافي و الدّيني، لسدّ هذه الثّغرة في صرح البناء الثقافي والحضاري للإسلام. وجاء هذا الكتاب، بعد بحوث و دراسات في التّفسير الموضوعي للقرآن الكريم شملت المعارف والعقائد الإسلاميّة في دورته الاُولى، و لتكون الدّورة الثّانية، مختصّةً ببحوث الأخلاق الإسلاميّة في القرآن الكريم. وبحمد الله فقد إنتهينا من هذه الأبحاث الأخلاقية في ثلاث أجزاء، تناول الجزء الأوّل منها، دراسة المسائل الأخلاقيّة الكليّة في دائرة الأخلاق، و هذا هو الكتاب الذي بين أيديكم، [ 7 ] حيث يمكن الإستفادة منه بعنوان كتاب درسي للرّاغبين، ويتكفل الجزء الثاني و الثالث، ببيان تفاصيل هذه المسائل الكليّةً و جزئيّاتها ومصاديقها. نأمل أن تكون هذه الأبحاث الأخلاقية، المستوحاة من أجواء القرآن الكريم، خطوة اُخرى على طريق حلّ المشاكل الأخلاقيّة و الثقافيّة للإنسان، في حركة الحياة والواقع الإجتماعي، ونسأل الله تعالى أن ينظر إليها بنظرة القبول، و يجعلها ذخيرةً لنا يوم لا ينفع مالٌ و لا بنون، ونرجو من الاُخوة أن يتفضلوا علينا بإرشادنا إلى موضع النّقص إن وجد. والحمد لله ربّ العالمين ربيع الأول 1419 هـ . ق [ 8 ] [ 9 ] الأخلاق في القرآن / الجزء الاوّل 1/ أهميّة الأبحاث الأخلاقية 1 أهميّة الأبحاث الأخلاقيّة تنويه: هذا البحث يعدّ من أهم الأبحاث القرآنيّة، ويعتبر من أهمّ أهداف الأنبياء كذلك، إذ لولا الأخلاق، لما فهم الناس الدّين و لَما إستقامت دنياهم: و كما قال الشّاعر: وإنما الاُمم الأخلاق ما بَقيتْ *** فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذَهبوا فلا يُعتبر الإنسان إنساناً إلاّ باخلاقه، و إلاّ سوف يصبح حيواناً ضارياً كاسراً، يحطّم و يكتسح كلّ شيء، وخصوصاً و هو يتمتّع بالذّكاء الخارق، فيثير الحروب الطّاحنة، لغرض الوصول لأهدافه الماديّة غير المشروعة، ولأجل أن يبيع سلاحه الفتّاك، يزرع بذور الفُرقة و النّفاق ويقتل الأبرياء! نعم، يمكن أن يكون متمدّناً في الظّاهر، إلاّ أنّه لا يقوم له شيء، و لا يميّز الحلال من الحرام، ولا يفرّق بين الظّلم و العدل، و لا الظّالم و المظلوم! بعد هذه الإشارة نعرّج على القرآن الكريم لنستوحي من آياته الكريمة التالية، تلك الحقيقة: 1 ـ (هُوَ الَّذي بَعَثَ في الاُمّيينَ رَسُولا مِنْهُم يَتلُوا عَلَيْهِمْ آيـاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ [ 10 ] الْكِتـابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كـانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال مُبين )(1). 2 ـ (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمؤْمِنينَ اِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيـاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتـابَ وَالْحِكْمَةَ وَ إِنْ كـانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال مُبين )(2). 3 ـ (كَمـا أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيـاتِنـا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتـابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مـا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ )(3). 4 ـ (رَبَّنـا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيـاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتـابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزيزُ الْحَكِيمُ )(4). 5 ـ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاهـا * وَقَدْ خـابَ مَنْ دَسّاها )(5). 6 ـ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى * وَذَكَرَ اسْمَ ربِّهِ فَصَلّى )(6). 7 ـ (وَلَقَدْ آتَيْنـا لُقْمـانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلّهِ )(7). الآيات الأربع الأُول: تقرّر حقيقةً واحدةً، ألا و هي، أنّ إحدى الأهداف المهمّة، لبعثة النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، هو تزكية النّفوس و تربيّة الإنسان، و بلورة الأخلاق الحسنة، في واقعه الوجداني، بحيث يمكن أن يقال: إنّ تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة التي أشارت إليها الآية المباركة الاُولى، يعُد مقدمة لمسألة تزكية النّفوس وتربية الإنسان، والذي بدوره يشكّل الغاية الأساسيّة لعلم الأخلاق. ولأجل ذلك يمكن تعليل تقدم كلمة: "التزكية"، على: "التعليم"، في الآيات الثلاث، من حيث إنّ "التّزكية" هي الهدف والغاية النهائيّة، وإن كان "التّعليم" من الناحية العمليّة مقدمٌ عليها. 1. سورة الجُمعة، الآية 2. 2. سورة آل عمران، الآية 164. 3. سورة البقرة، الآية 151. 4. سورة البقره، الآية 129. 5. سورة الشّمس: الآيات 9 و 10. 6. سورة الأعلى: الآيات 14 و 15. 7. سورة لقمان، الآية 12. [ 11 ] وإن نظرنا "للآية الرابعة": من بحثنا هذا، و تقديمها لكلمة التّعليم على التّزكية، فهي ناظرةٌ إلى المسألة من حيث الترتب العملي الطبيعي لها، بإعتبار أنّ التّعليم مقدمةٌ "للتربية و التّزكية". ولهذا نرى أنّ الآيات الأربع الاُولى، كلّ منها تنظر إلى المسألة من منظارها الخاص. وليس بعيداً إحتمال رأيٌ آخر، من التّفسير في الآيات المباركة الأربع، وهو أنّ الغرض، من التّقديم و التّأخير الحاصل لهذين الكلمتين: (التّربية والتعليم)، بإعتبار أنّ إحداها تؤثّر في الاُخرى، يعني كما أنّ التعليم الصّحيح يكون سبباً في الصّعود بالأخلاق، و تزكية النّفوس، تكون تزكية النفوس هي الاُخرى مؤثّرة في رفع المستوى العلمي، لأنّ الإنسان بوصوله للحقيقة العلميّة، يكون قد تطهر من "العناد" و"الكِبر" و "التّعصب الأعمى"، حيث تكون الأخيرة مانع من التّقدم العلمي، ومعها سوف يُران على قلبه على حد تعبير القرآن الكريم، ولن يرى الحقيقة كما هي في الواقع. ويمكن الإشارة الى نكات اُخرى في الآيات الكريمة الأربعُ: الآية الاُولى: تشير إلى أنّ بعث رسول يُعلِّم الأخلاق، هي من علامات حضور الباري تعالى في واقع الإنسان لتفعيل عناصر الخير في وجدانه، و أنَّ النقطة المعاكسة (للتربية والتعليم) هي الضّلال المبين، فهي تبين مدى إهتمام القرآن الكريم بالسلوك الأخلاقي للإنسان في حركة الحياة. الآية الثّانية: نجد فيها أن إرسال رسول يُزكيهم و يُعلّمهم الكتاب و الحكمة، هي من المنن و المواهب الإلهيّة العظيمة، التي منّ الله بها علينا، وهي دليل آخر على أهميّة الأخلاق. الآية الثّالثة: وهي الآية التي نزلت بعد آيات تغيير القبلة، من القدس الشّريف إلى الكعبة المشرّفة، حيث عُدَّ هذا التغيير من النّعم الإلهيّة الكبرى، وأنّ هذه النعمة هي كإرسال الرسول للتعليم والتّزكية وتعليم الإنسان اُموراً لم يكن يعلمها ولن يتمكن من الوصول إليها إلاّ عن طريق الوحي الإلهي(1). 1. ففي جملة: (ويعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون )، إشارةً إلى أنّ الوصول إلى هذا العلم، لا يمكن الاّ بالوَحي. [ 12 ] الآية الرّابعة: تتحدث عن أنّ إبراهيم الخليل(عليه السلام)، و بعد إكماله لبناء الكعبة، طلب من الباري تعالى: أن يخلق من ذريّته اُمّةً مسلمةً; و أن يبعث فيهم رسولا من ذريّته، ليزكّيهم في دائرة التربية الأخلاقيّة، و يعلّمهم الكتاب والحكمة. الآية الخامسة: نجد أن القرآن الكريم، وبعد ذكر أحدَ عشرَ قَسَماً مهماً، وهي من أطول الأقسام في القرآن، - قسماً بالشّمس و القمر و النّجوم و النفس الإنسانية -، و بعد ذلك قال: (قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها ). وهذا التأكيد المتكرّر و الشّديد في هذه الآيات، يدلّ على أنّ القرآن الكريم، يولّي أهميّةً بالغةً لمسألة الأخلاق، و أنّ التّزكية هي الهدف الأهم للإنسان، و تكمن فيها كلّ القيم الإنسانيّة، بحيث تكون نجاة الإنسان بها. ونفس المعنى أعلاه ورد في: "الآية السّادسة"، و اللّطيف فيها أَنّ ذكر التّزكية جاء قبل الصلاة، و ذكر الله تعالى، إذ لولا التّزكية و صفاء الرّوح لا يكون للصّلاة معنى، و لا لذكر الله. وجاء في "الآية الأخيرة"، ذكر لُقمان الحكيم، حيث عبّر عن علم الأخلاق بالحكمة، فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنـا لُقْمـانَ الْحِكْمَةَ أَنِ آشْكُرْ لِلّهِ ). وبالنّظر للآيات الشّريفة، نرى أنّ خصوصيّة: "لقمان الحكيم"، هي تربية النّفوس والأخلاق، ومنها يتّضح أنّ المقصود من الحكمة هنا، هو الحكمة العمليّة و تعاليمها المؤدّية إليها، و بعبارة اُخرى يعني: "التّعليم" لأجل "التّربية". ويجب الإنتباه و كما ذكرنا مراراً، إلى أنّ أصل معنى "الحكمة" هو لجام الفرس، وبعدها أطلقت على كلّ شيء رادع، و بإعتبار أنّ العلوم والفضائل الأخلاقيّة، تردع الإنسان عن الرّذائل فأطلقت عليها هذهِ الكلمة. -- النّتيجة: نستوحي من هذهِ الآيات، الإهتمام الكبير للقرآن الكريم بالمسائل الأخلاقيّة وتهذيب [ 13 ] النفوس، بإعتبارها مسألةً أساسيّةً، تنشأ منها وتبتني عليها جميع الأحكام والقوانين الإسلاميّة، فهي بمثابة القاعدة الرّصينة و البناء التحتي، الذي يقوم عليه صرح الشّريعة الإسلاميّة. نعم إنّ التّكامل الأخلاقي للفرد و المجتمع، هو أهم الأهداف التي تعتمد عليه جميع الأديان السّماوية، إذ هو أساس كلّ صلاح في المجتمع، و وسيلة رادعة لمحاربة كلّ أنواع الفساد و الإنحراف، في واقع الإنسان و المجتمع البشري في حركة الحياة. والآن نعطف نظرنا إلى الروايات الإسلاميّة، لنرى أهميّة هذه المسألة فيها: أهميّة الأخلاق في الرّوايات الإسلاميّة: لقد أولت الأحاديث الشّريفة لهذه المسألة أهمية بالغةً سواء كانت في الروايات الواردة عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، أم عن طريق الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)، ونورد بعضاً منها: 1 ـ الحديث المعروف عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "إِنّما بُعثتُ لأُتمَمَ مكارمَ الأخلاقِ"(1). وجاء في حديث آخر: "إنّما بُعثتُ لأُتمَمَ حُسنَ الأخلاقِ"(2). وجاء في آخر: "بُعثتُ بمكارمِ الأخلاقِ ومحاسِنها"(3). ونرى أن كلمة "إنّما" تفيد الحصر، يعني أنّ كلّ أهداف بعثة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، تتلخص في التّكامل الأخلاقي. 2 ـ وجاء في حديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، حيث قال: "لَو كُنّا لا نَرجو جنّةً ولا ناراً ولا ثواباً ولا عِقاباً، لكان يَنبغي لَنا أن نُطالِبَ بِمكارمِ الأخلاقِ فإنّها ممّا تَدُلُّ على سبيلِ النجاحِ"(4). 1. كنز العمّال: ج 3، ص 16، ح 52175 . 2. المصدر السابق، ح 5218. 3. بحار الأنوار: ج 66، ص 405. 4. مستدرك الوسائل، ج 2، ص 283 الطبعة القديمة. [ 14 ] يبيّن لنا هذا الحديث أهمية الأخلاق وفضائلها، إذ هي ليست سبباً في النجاة في الاُخرى فقط، بل هي سبب لصلاح الدّنيا أيضاً، (وسنتناول هذا البحث مفصّلا في القريب العاجل إن شاء الله تعالى). 3 ـ الحديث الآخر الذي ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، حيث قال: "جَعَلَ اللهُ سُبحانَهُ مكارمَ الأخلاقِ صِلةً بينه وبين عبادِهِ فحسب أَحدِكُم أَن يتمسّكَ بخُلق مُتَّصل باللهِ"(1). و بعبارة اُخرى: أنّ الباري تعالى هو المعلم الأكبر للأخلاق، و هو مربّي النّفوس، ومصدر لكلّ الفضائل، والقرب منه تعالى لا يتمّ إلاّ بالتّحلي بالأخلاق الإلهيّة. وعلى هذا نرى أنّ كلّ فضيلة يتحلى بها الإنسان، تؤدي إلى تعميق العلاقة بينهوبين ربّه، و تقربه من الذّات المقدّسة أكثر فأكثر. وحياة المعصومين(عليهم السلام) كلّها تبيّن هذهِ المسألة، فإنّهم كانوا دائماً يدعون إلى الأخلاق، و التّحلي بالفضائل، و هم القُدوة الحسنة في سلوك هذا الطريق، وسنتطرق في المستقبل إلى نماذج من أخلاقيّاتهم(عليهم السلام)، ويكفي شرفاً للرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أنّ الله تعالى نعته في سورة القَلم: (وإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيْم ).(2) إشارات مهمة: 1 ـ تعريف علم الأخلاق أخلاق جمع خُلق (على وزن قُفل)، و خُلُق على وزن اُفُق، وعلى حد تعبير الرّاغب في كتابه المفردات، أنّ هاتين الكلمتين ترجعان إلى أصل واحد، و هو "خلق" بمعنى الهيئة والشّكل الذي يراه الإنسان بعينه، والخُلق بمعنى القوى و السّجايا الذاتية للإنسان. ولذا يمكن القول بأنّ: "الأخلاق هي مجموعة الكمالات المعنويّة و السّجايا الباطنيّة 1. تنبيه الخواطر، ص 362. 2. سورة القلم، الآية 4. [ 15 ] للإنسان"، و قال بعض العلماء: إنّ الأخلاق أحياناً تُطلق على العمل و السّلوك، الذي ينشأ من الملكات النفسانية للإنسان أيضاً، (فالأولى الأخلاق الصفاتية والثانية السلوكيّة). ويمكن تعريف الأخلاق من آثارها الخارجيّة أيضاً، حيث يصدر أحياناً من الإنسان فعل إعتباطي ولكن عندما يتكرّر ذلك العمل منه: (مثل البخل وعدم مساعدة الآخرين)، يكون دليلاً على أنّ ذلك الفعل يمدّ جذوره في أعماق روح ذلك الإنسان، تلك الجذور تسمى بالخُلق والأخلاق. وفي ذلك قال "ابن مِسكَوَيه"، في كتاب "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق": إنّ الخُلق هو تلك الحالة النفسانيّة التي تدعو الإنسان، لأفعال لا تحتاج إلى تفكّر و تدبّر"(1). وهو نفس ما إشار إليه المرحوم الفيض الكاشاني في كتاب "الحقائق"، حيث يقول: "إعلم أنّ الخُلق هو عبارة عن هيئة قائمة في النفس، تصدر منها الأفعال بسهولة من دون الحاجة إلى تدبّر وتفكّر"(2). وعليه قسمّوا الأخلاق إلى قسمين: الملكات التي تنبع منها الأعمال و السّلوكيات الحسنة وتسمى "الفضائل"، واُخرى تكون مصدراً للأعمال والسلوكيات السّيئة و تسمى الرذائل. ومن هنا يمكن أن نعرّف علم الأخلاق بأنّه: "علمً يُبحَث فيه عن المَلكات و الصّفات الحسنة والسيئة وآثارها وجذورها". وبعبارة اُخرى: "علمٌ يُبحَث فيه عن اُسس إكتساب هذهِ الصفات الحسنة، و طُرق محاربة الصّفات السّيئة، و آثارها على الفرد والمجتمع". طبعاً وكما ذكرنا سابقاً، يُطلق على الأعمال و الأفعال النّابعة من هذهِ الصفات أحياناً "الأخلاق"، فمثلا الشّخص الذي يعيش في حالة من الغضب والحدّة دائماً، يقال عنه بأنّه ذو أخلاق رديئة، وبالعكس عندما يكون الشّخص كريماً، فيقولون أنّ الشّخص الفلاني يتحلى بأخلاق طيِّبة، وفي الحقيقة أن هذين الإثنين هما عِلّة ومعلول للآخر، بحيث، يطلق إسم أحداهما على الآخر. 1. تهذيب الأخلاق، ص 51. 2. الحقائق، ص 54. [ 16 ] وعرّف بعض الغربيين الأخلاق بما يُوافق تعاريفنا لها، فمثلا في كتاب: "فلسفة الأخلاق"، لشخص يدعى (جكسون)، و هو أحد فلاسفة الغرب، عرّف الأخلاق فيه بقوله: (علمُ الأخلاق عبارةٌ عن التّحقيق في سلوك الإنسان على الصورة التي ينبغي أن يكون عليها)(1). وللبعض مثل "فولكيه"، رأي آخر في المسألة، حيث عرّفوا علم الأخلاق بأنّه: (مجموعة قوانين السّلوك التي يستطيع الإنسان بواسطتها أن يصل إلى هدفه)(2). هذا هو كلام اُناس لا يعيرون للقيم الإنسانيّة أهميّة، والمهم عندهم الوصول إلى الهدف كيفما كان وكيفما إتّفق، إذ الأخلاق عندهم ليست إلاّ وسيلةً تُمكّن الإنسان من الوصول إلى الهدف!. -- 2 ـ علاقة الأخلاق بالفلسفة الفلسفة في معناها ومفهومها الكلي، تعني: معرفة العالم بما لدى الإنسان من قدرة، وبهذا المعنى يمكن أن تدخل جميع العلوم تحت هذا المفهوم الكلّي، بحيث نرى في الأعصار السّابقة والقديمة، عندما كانت العلوم محصورةً و معدودةً كانت الفلسفة تلقي الضوء عليها جميعاً، والفيلسوف كان له الباع الطويل في جميع العلوم، وفي ذلك الوقت قسّمت الفلسفة إلى قسمين: أ ـ الاُمور التي لا دخل للإنسان فيها، و التي تستوعب جميع العالم، عدا أفعال الإنسان. ب ـ الاُمور التي تنضوي تحت إختيار الإنسان وله دخل فيها، يعني أفعال الإنسان. فالقسم الأول يسمّى بالحكمة النظريّة، وتقسم إلى ثلاثة أقسام: الفلسفة الاولى أو الحكمة الالهيّة: وهي التي تتناول الأحكام الكلية للوجود والمبدأ والمعاد. 2 ـ الطّبيعيات: وفيها أقسام مختلفة. 1. فلسفة أخلاق، ص 9. 2. الأخلاق النظريّة، ص 10. [ 17 ] 3 ـ الرّياضيات: وهي أيضاً لها فروع متعددة. وأما التي تتعلق بأفعال الإنسان، فتسمى بالحكمة العمليّة، وهي بدورها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 ـ الأخلاق والأفعال: التي تكون سبباً في سعادة أو ضلال الإنسان، و تكون جذورها ومصدرها النفس الإنسانيّة. 2 ـ تدبير المنزل: وكل ما يتعلق بالعائلة. 3 ـ سياسة وتدبير المدن: والتي تتناول طرق إدارة المجتمعات البشرية. و هكذا فقد أفردوا للأخلاق حقلها الخاص بها، في مقابل (تدبير البيت) و(سياسة المدن). وعليه يمكن القول بأنّ علم الأخلاق هو فرع من: "الفلسفة العملية" أو "الحكمة العمليّة". ولكنّ تعدد العلوم في عصرنا الحاضر دعى للفصل بينها، و غالباً ما تأتي الفلسفة والحكمة، و الفلسفة بمعنى الحكمة النظريّة من نوعها الأوّل، وهي الاُمور التي تتعلق بالعالم والكون وكذلك المبدأ والمعاد. ويوجد اختلاف بين الفلاسفة، في أيّهما أفضل: الحكمة النظريّة أم الحكمة العمليّة، فقسم إدّعى الأفضلية للاُولى، وقسم آخر إدّعى الأفضلية لِلثانية، وعند التّدقيق في مدّعاهم نرى، أنّ الإثنين على حق و هذا ليس بحثنا الآن. وسنتعرض لعلاقة الأخلاق بالفلسفة، في موارد اُخرى في المستقبل، إن شاء الله تعالى. 3 ـ علاقة الأخلاق بالعِرفان أمّا بالنسبة لعلاقة (الأخلاق) بـ (العرفان) و (السير و السلوك إلى الله); فيمكن القول أنّ العرفان أكثر ما ينظر للمعارف الإلهيّة، ولكن ليس عن طريق العلم و الإستدلال، بل عن طريق الشّهود الباطني، بمعنى أنّ قلب الإنسان يجب أن يكون كالمرآة الصافية، لدرجة يستطيع فيها أن يرى الحقيقة لتزول عنه الحُجب، وليرى بقلبه الذّات الإلهيّة و أسمائه و صفاته، ومنها يصل إلى العشق الإلهي الحق. [ 18 ] وبما أنّ علم الأخلاق، له اليد الطُولى في المساعدة على دفع ورفع الرذائل، و التي هي بمثابة الحُجب على القلوب، فمن البديهي أن تكون الأخلاق من اُسس ومقدمات العرفان الإلهى. وأما "السّير والسّلوك إلى الله"، والذي يكون هدفه النّهائي هو معرفة الله والقرب منه، فهو في الحقيقة مجموعة من "العرفان" و"الأخلاق"، فما كان من "السّير والسّلوك الباطني"، فهو نوع من "العرفان"، الذي يوصل الإنسان يوماً بعد يوم للذات الإلهيّة، ويرفع عن قلبه الحجب والأدران، ويمهد الطّريق إليه; وما كان من "السّير و السّلوك الخارجي": فهو نفس الأخلاق التي تهدف لتهذيب النفوس، و ليس فقط لأجل الحياة الماديّة المرفّهة. -- 4 ـ علاقة العلم بالأخلاق بالنّسبة للآيات السّابقة و كما ذكرنا أنّ القرآن الكريم، أتى بـ: "تعليم الكتاب والحكمة" إلى جانب: "التزكية والتّهذيب الأخلاقي"، فتارةً يقدِّم "التّزكية" على "التّعليم"، و اُخرىُ يقدِّم "التعليم" على التزكية، و هو أمر يُبيّن مدى العلاقة الوثيقة التي تربط بين الإثنين. وهذا يعني أنّ الإنسان، عندما ينفتح على المعرفة، و تكون لديه خبرةٌ بالأعمال الحسنة والسيئة، ويعرف عواقب "الفضيلة" و"الرذيلة"، فممّا لا شك فيه أنّها ستؤثر في تربيته، بحيث يمكن القول أنّ كثيراً من الرذائل ناتجة من عدم الإطّلاع والفهم. ومن ذلك يمكن القول; أنَّه إذا ما إستطعنا أن ننهض بالمستوى العلمي للأفراد، وبعبارة اُخرى: إذا أمكننا نشر الثقافة بين الناس، فستحل الفضائل مكان الرّذائل، وإن كان هذا الأمر ليس كليّاً. ومع الأسف الشديد، نرى أنّ البعض بالغوا فيها لدرجة الإفراط والتّفريط. فبعض إتّبعوا الحكيم سُقراط اليوناني، حيث كان يعتقد بأنّ العلم والحكمة هي منشأ الأخلاق الحميدة، والرّذائل الأخلاقيّة منشؤها الجهل، ولذلك فإنّه كان يعتقد أيضاً أنّه ولأجل محاربة الفساد و الرّذائل الأخلاقية وإحلال الفضائل الأخلاقية محلّها، يجب العمل على رفع المستوى العلمي للمجتمع، و بالتّالي تتساوى (الفضيلة) مع (المعرفة). [ 19 ] هؤلاء يدّعون أنّه لا يوجد إنسان يتجه نحو الرّذيلة وهو على علم بها، وإذا ما شخّصَ الإنسان الفضيلة فسوف لن يتركها، ولذلك يتوجّب علينا كسب العلم، ومعرفة الخير وتمييزه من الشر لنا و لغيرنا، كي تزرع في نفوسنا بذور الفضائل الأخلاقية!. وفي المقابل يوجد من ينفي هذهِ العلاقة بين الإثنين بالكامل، لأنّ العلم والذكاء للإنسان المجرم سيكون عاملا مساعداً له في إرتكاب جرائم أخطر، وعلى حدّ تعبير المثل الذي يقول: (إذا كان مع اللص مصباحاً فانه سوف ينتفي البضائع الجيدة). ولكن الحق و الإنصاف أنّه ليس بإمكاننا نفي تأثير العلم بالكامل، و لا نفي معلولية أحداهما للاخر. والشّاهد على ذلك المُثل الحيّة التي نراها في المجتمع، فكثيراً ما شاهدنا اُناساً كانوا يفعلون الرذائل، و عندما أدركوا قبح فعالهم ونتائجها السيئة، أقلعوا عنها و إتجهوا نحو الفضائل، ووجدنا هذا الأمر حتى في وقتنا الحاضر هذا. وفي المقابل نعرف أشخاصاً عندهم المعرفة التامة بالخير والشرّ، ولكنهم يُصرّون على الشرّ و هو متأصل في نفوسهم. و كلّ ذلك لأنّ الإنسان لديه بُعدان: بعد العلم و الادراك و بُعد عملي، وهو الميول والغرائز والشّهوات، و لأجل ذلك فساعةً يميل الى هذا، و ساعةً يُرجحُ ذلك. والذي يقول بأحد القولين، فانه يفترض أنّ الإنسان فيه بُعدٌ واحد لا أكثر، ويغفل عن وجود البعد الآخر. ونشير هنا إلى الآيات القرآنية التي وردت في هذا الباب، و التي أكدت على التّأثير المتبادل بين عُنصر الجهل وسوء العمل، قال تعالى: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهالَة ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَاِنَّهُ غَفُورٌ رَحيمٌ; )(1). ويوجد شبيه لهذا المعنى في سورة النساء: الآية (17)، وسورة النحل: الآية (119). ومن البديهي أنّ الجهل المذكور ليس هو الجهل المطلق الذي لا يوائم التوبة، بل هو مرتبةٌ من مراتب الجهل، فإذا إرتفع فسوف يهتدي الإنسان بعدها للطّريق القويم. ا ص20 - ص35 1. سورة الأنعام، الآية 54. [ 20 ] وذكرنا في الجزء الأول من دورة نفحات القرآن أنّ الجهل هو السبب لكثير من الضلالات، فهو - الجهل - سبب للكفر وإشاعة الفساد والتعصب والعناد والتقليد الأعمى والفُرقة وسوء الظّن والجسارة و قلّة الأدب، و في واحدة يمكن القول، أنّ الجهل عامل لإفساد كثير من القِيم(1). ومن جهة اُخرى تُصرِّح الآيات الشريفة بوجود حالة العناد في الإنسان، مع علمه بأنّه يتحرك في طريق الظّلم والطغيان، مثل آل فرعون، حيث يتحدث عنهم القرآن الكريم: (وَجَحَدُوا بِهـا وَاسْتَيْقَنَتْهـا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً )(2). وكذلك ما ورد بالنسبة إلى بعض أهل الكتاب، كما قال الباري تعالى: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )(3). وورد هذا المعنى في ما بعدها من الآيات(4). وقد يكون المراد من الآية هو موضوع الكَذب، ولكنّه أيضاً يؤيّد مدّعانا، لأنّ قبح الكذب حكم به العقل و الشّرع، وهو من الاُمور الواضحة التي لا تخفى على أحد. فالحقائق والتجارب أثبتت، أنّ المعرفة والعلم بنتائج الأخلاق الرذيلة على الفرد والمجتمع، يمكنه أن يكون في كثير من الموارد، عاملا مهماً في ردع الإنسان عن غيّه و الرّجوع إلى ساحة الصّواب، ولكن ومن جهة اُخرى، أيضاً نجد أنّ هناك من يعرف الرّذيلة حقَّ معرفتها; ولكنه يُصرّ عليها ويعاند على سلوك طريق الإنحراف، والطريقة الوسطى في الحقيقة هي الجادّة وتنطبق على الواقع أكثر. -- 1. نفحات القرآن، الدّورة الاولى، ج 1 ص 86 ـ 98. 2. سورة النّمل، الآية 14. 3. آل عمران، الآية 75. 4. سورة آل عمران، الآية 78. [ 21 ] 5 ـ هل أن الأخلاق قابلة للتغيير؟ إنّ مصير علم الأخلاق وكلّ الأبحاث الأخلاقية، يتوقف على الإجابة عن هذا السؤال، إذ لولا قابليتها للتغيير لأصبحت كلّ برامج الأنبياء التربويّة و الكتب السماويّة، و وضع القوانين و العقوبات الرّادعة، لا فائدة و لا معنى لها. فنفس وجود تلك البرامج التربويّة وتعاليم الكتب السماويّة، و وضع القَوانين في المجتمعات البشريّة، هو خير دليل على قابليّة التغيير في الملكات والسلوكيّات الأخلاقيّة لدى الإنسان، وهذه الحقيقة لا يعتمدها الأنبياء(عليهم السلام)فحسب، بل هي مقبولةٌ لدى جميع العقلاء في العالم. والأَعجبْ من هذا، و الغريب فيه; أنَّ علماء الأخلاق والفلاسفة ألّفوا الكتب الكثيرة حول هذا السؤال: "هل أنّ الأخلاق قابلة للتغيير أم لا"؟! فالبعض يقول: إنّ الأخلاق غير قابلة للتغيير، فمن كانت ذاته ملوَّثة في الأصل يكون مجبولا على الشرّ، وعلى فرض قبوله لعمليّة التّغيير، فإنّه تغيير سطحي، وسرعان ما يعود إلى حالته السّابقة. ودليلهم على ذلك، بأنّ الأخلاق لها علاقةٌ وثيقةٌ مع الرّوح و الجسد، و أخلاق كلُّ شخص تابعة لكيفية وجود روحه وجسمه، وبما أنّ روح وجسد الإنسان لا تتبدلان، فالأخلاق كذلك لا تتبدل ولا تتغير. وفي ذلك يقول الشاعر أيضاً: إذا كان الطّباع طِباعَ سوء *** فلا أدبٌ يفيد ولا أديبُ واستدلوا على ذلك أيضاً، بمقولة تأثر الأخلاق بالعوامل الخارجية; و أنّ الأخلاق تخضع لمؤثّرات خارجيَّة من قبيل الوعظ و النّصيحة و التأديب، فبزوال هذهِ العوامل، تعود الأخلاق لحالتها الاُولى، فهي بالضّبط كالماء البارد، الذي يتأثر بعوامل الحرارة، فعند زوال المؤثّر، يعود الماء لحالته السّابقة. و مما يؤسف له وجود هذا الّنمط من التّفكير و الإستدلال، حيث أفضى لتردي المجتمعات البشريّة و سُقوطها! [ 22 ] أمّا المؤيدون لتغيير الأخلاق، فقد أجابوا على الدّليلين السّابقين وقالوا: 1 ـ لا يمكن إنكار علاقة الأخلاق وإرتباطها بالرّوح والجسم، ولكنه في حدّ (المقتضي); وليس (العلّةَ التّامةَ) لها، و بعبارة اُخرى يمكن أن تهيّىء الأرضيّة لذلك، لكن ذلك لا يعني بالضّرورة أنّها ستؤثر تأثيراً قطعيّاً فيها، من قبيل مَن يولد من أبوين مريضين، فإنّ فيه قابليةٌ على الابتلاء بذلك المرض، ولكن وبالوقاية الصّحيحة، يمكن أن يُتلافى ذلك المرض من خلال التّصدي للعوامل الوراثية المتجذرة في بدن الإنسان. فالأفراد الضّعاف البَنية يمكن أن يصبحوا أشداء، بالإلتزام بقواعد الصّحة و ممارسة الرّياضة البدنية، وبالعكس يمكن للأشداء، أن يصيبهم الضّعف و الهزال، إذا لم يلتزموا بالاُمور المذكورة أعلاه. و علاوةً على ذلك يمكن القول; أنّ روح وجسم الإنسان قابلانِ للتغيير، فكيف بالأخلاق التي تعتبر من معطياتهما؟ نحن نعلم، أنّ كلّ الحيوانات الأهليّة اليوم، كانت في يوم ما بَرّيّةً و وحشيّةً، فأخذها الإنسان وروّضها و جعل منها أهليةً مطيعةً له، وكذلك كثير من النّباتات والأشجار المثمرة، فالذي يستطيع أن يُغيِّر صفات و خُصوصيّات النبّات والحيوان، ألا يستطيع أن يغيّر نفسه وأخلاقه؟ بل توجد حيوانات روّضِت، لِلقيام بأعمال مخالفة لطبيعتها، و هي تُؤدّيها بأحسن وجه!. 2 ـ وممّا ذُكر أعلاه، يتبيّن جواب دليلهمِ الثّاني، لأنّ العوامل الخارجيّة قد يكون لها تأثيرها القوي جداً، ممّا يؤدّي إلى تغير خصوصيّاتها الذاتيّة بالكامل، و ستؤثر على الأجيال القادمة أيضاً، من خلال العوامل الوراثيّة، كما رأينا في مثال: الحيوانات الأهليّة. ويقصّ علينا التأريخَ قصصاً، لاُناس كانوا لا يراعون إلاًّ ولا ذِمّةً، ولكن بالتّربية و التّعليم تغيّروا تَغيُّراً جَذريّاً، فمنهم من كان سارقاً محترفاً; فأصبح عابداً متنسّكاً مشهوراً بين الناس. إنّ التعرّف على كيفية نشوء الملكات الأخلاقية السّيئة يعطينا القُدرة والفرصة لإزالتها، والمسألة هي كالتّالي: إنّ كلّ فعل سىّء أو حسن يخلّف تأثيره الإيجابي أو السّلبي في الروح [ 23 ] الإنسانية، بحيث يجذب الروح نحوه تدريجياً، و بالتّكرار سوف يتكرّس ذلك الفعل في باطن الإنسان، ويتحول إلى كيفيّة تسمى: (بالعادة)، وإذا إستمرت تلك العادة تحوّلت إلى (مَلَكَة). وعلى هذا، وبما أنّ المَلَكات والعادات الأخلاقيّة السّيئة، تنشأ من تكرار العمل، فإنّه يمكن مُحاربتها بواسطة نفس الطّريقة، طبعاً لا يمكننا أن ننكر تأثير التّعليم الصّحيح والمحيط السّالم، في إيجاد المَلَكات الحَسنة، و الأخلاق الصّالحة، في واقع الإنسان وروحه. -- و هناك "قولٌ ثالثٌ"،: و هو أنّ بعض الصّفات الأخلاقيّة قابلةٌ لِلتغير، وبعضها غير قابل، فالصّفات الطّبيعيّة و الفطريّة غير قابلة لِلتغير، ولكنّ الصّفات التي تتأثّر بالعوامل الخارجيّة يمكن تغييرها(1). وهذا القول لا دليل عليه، لأنّ التّفصيل بين هذهِ الصّفات، مدعاة لقبول مَقولة الأخلاق الفطريّة والطبيعيّة، والحال أنّه لم يثبت ذلك، وعلى فرض ثُبوته، فمن قال بأنّ الصّفات الفطريّة غير قابلة لِلتغيّر والتّبدّل؟. ألم يتمكن الإنسان من تغيير طِباع الحيوانات البريّة؟. ألا يمكن لِلتربية و التّعليم، أن تَتَجذّر في أعماق الإنسان وتغيّره؟. الآيات و الرّوايات التي يستدل بها، على إمكانيّة تغيّر الأخلاق: ما ذكرناه آنفاً كان على مستوى الأدلة العقليّة و التّأريخيّة، و عند رجوعنا للأدلة النّقلية، يعني ما وصل إلينا من مبدأ الوحي وأحاديث المعصومين(عليهم السلام)، سوف تتبيّن لنا المسألة من خلاله بصورة أفضل لأنّه: 1 ـ إنّ الهدف من بعث الأنبياء و الرّسل و إنزال الكتب السّماوية، إنّما هو لأجل تربية وهداية الإنسان، وهذا أقوى دليل على إمكان التربية، و ترشيد الفضائل الأخلاقيّة لدى جميع أفراد البشر، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: (هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الاُْمِّيِينَ رَسُولا مِنْهُم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيـاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ 1. أيّد هذه النظريّة المحقق النّراقي في كتابه جامع السعادات: ج 1، ص 24. [ 24 ] وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كـانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال مُبِْين )(1). وأمثالها من الآيات الكريمة التي تبيّن لنا أنّ الهدف من بعثة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): هو تعليم وتزكية كل اُولئك الذي كانوا في ضلال مبين. 2 ـ كلّ الآيات التي توجّه الخطاب الإلهي إلى الإنسان، مثل: "يا بني آدم" و "يا أيّها النّاس" و "يا أيّها الإنسان" و "يا عبادي"، تشمل أوامر ونواهي تتعلق بتهذيب النّفوس، و إكتساب الفضائل الأخلاقيّة، و هي بدورها خير دليل على إمكانيّة تغيير "الأخلاق الرّذيلة"، و إصلاح الصّفات القبيحة في واقع الإنسان، وإلاّ ففي غير هذه الصّورة تَنتفي عُموميّة هذه الخطابات الإلهيّة، فتصبح لغواً بدون فائدة. وقد يقال: إنّ هذهِ الآيات، غالباً ما تشتمل على الأحكام الشرعيّة، و هذه الأحكام تتعلق بالجوانب العمليّة و السلوكيّة في حياة الإنسان، بينما نجد أنّ الأخلاق ناظرةٌ للصفات الباطنيّة؟ ولكن يجب أن لا ننسى، أنّ العلاقة بين "الأخلاق" و "العمل"، هي: علاقة اللاّزمِ و الَملزومِ لِلآخر، و بمنزلة العلّة والمعلول، فالأخلاق الحسنة تُعتبر مصدراً للأعمال الحسنة، والأخلاق الرذيلة مصدراً للأعمال القبيحة، وكذلك الحال في الأعمال، فإنّها من خلال التّكرار تتحول بالتّدريج، إلى ملكات و صفات أخلاقيّة في واقع الإنسان الداخلي. 3 ـ القول والإعتقاد بعدم إمكان التّغيير للأخلاق، مدعاة للقول و الإعتقاد بالجَبر; لأنّ مفهومها هو: أنّ صاحب الخُلق السّيء و الخُلق الحسن، ليسا بقادرين على تغيير أخلاقهم، وبما أنّ الأعمال و السّلوكيات تعتبر إنعكاساً للصفات والملكات الأخلاقيّة، ولِذا فمثل هؤلاء يتحرّكون في سلوكياتهم من موقع الجَبر، لكننا نرى أنّهم مكلّفين بفعل الخيرات وترك الخبائث، وعليه يترتب على هذا القول جميع المفاسد التي تترتب على مقولة الجبر(2). 4 ـ الآيات الصّريحة التي ترغّب الإنسان في تهذيب أخلاقه، و تُحذّره من الرذائل، هي أيضاً دليلٌ محكمٌ على إمكانيّة تغير الصفات و الطّبائع الإنسانية، مثل قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ 1. سورة الجمعة: الآية 2، ويوجد نفس المعنى والمضمون في الآية 164 من سورة آل عمران. 2. اُنظر: اُصول الكافي، ج 1 ص 155، وكشف المراد، بحث القضاء والقدر وما يترتب على ذلك من مفاسد المذهب الجَبري. [ 25 ] مَنْ زَكّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها )(1). فالتّعبير بكلمة دَسّاها، والتي هي في الأصلِ بمعني: خلطُ الشىّءِ بشيء آخر غير مرغوب فيه من غير جنسه، مثل "دسّ الحنطة بالتراب"، يبيّن لنا أنّ الطّبيعة الإنسانيّة مجبولةٌ على الصفاء و النّقاوة و التقوى، و التلويث، و الرذائل تعرض عليها من الخارج وتنفذ فيها، والإثنان قابلان للتّغير والتّبدل. نقرأ في الآية (34) من سورة فُصّلت: (إِدْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذاَ الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِْيمٌ ). تُبيّن لنا هذهِ الآية أنّ العداوات المتأصّلة و المتجذّرة في الإنسان: بالمحبّة والسّلوك السليم، يمكن أن تتغير وتتبدل إلى صداقة حميمة بالتّحرك في طريق المحبّة و السّلوكيات السليمة، ولو كانت الأخلاق غير قابلة للتغير، لما أمكن الأمر بذلك. ونجد في هذا المجال أحاديث إسلامية، تؤكّد هذا المعنى أيضاً، من قبيل الأحاديث التالية: 1 ـ الحديث المعروف الذي يقول: "إنّما بُعثتُ لاُتمم مكارم الاخلاق"(2) هو دليل ساطعٌ على إمكانيّة تغيير الصّفات الأخلاقيّة. 2 ـ الأحاديث الكثيرة التي تحث الإنسان على حسن الخُلق، كالحديث النّبوي الشريف الآتي: "لَو يَعلَمُ العَبدُ ما فِي حُسنِ الخُلقِ لَعَلِمَ أَنّهُ يَحتاجُ أن يكونَ لَهُ خُلقٌ حسنٌ"(3). 3 ـ و كذلك الحديث النبوي الشريف الآخر حيث يقول: "الخُلقُ الحسنُ نِصفُ الدِّينِ"(4). 4 ـ نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام): "الخُلقُ الَمحمُودُ مِن ثِمارِ العَقلِ وَالخُلقُ المَذمُومُ مِن ثِمارِ الجُهلِ"(5). 1. سورة الشّمس، الآية 9 و 10. 2. سفينة البحار (مادة خلق). 3. بحار الأنوار، ج 10، ص 369. 4. بحار الأنوار، ج 71، ص 385. 5. غرر الحكم، 1280 ـ 1281. [ 26 ] وبما أنّ كلاً من "العلم" و"الجهلَ" قابلان للتغيير; فتتبعها الأخلاق في ذلك أيضاً. 5 ـ وفي حديث آخر، جاء عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "إنّ العَبدَ لَيَبلُغُ بِحُسنِ خُلقِهِ عَظيمَ دَرجاتِ الآخِرَةِ وَشَرفِ المَنازِلِ وَأَنّهُ لَضَعِيفُ العِبادةِ"(1). حيث نجد في هذا الحديث، مقارنةً بين حُسن الأخلاق والعبادة، هذا أولاً. وثانياً: إنّ الدرجات العُلى في الآخرة تتعلق بالأعمال الإختياريّة. وثالثاً: التّرغيب لكسب الأخلاق الحسنة، كلّ ذلك يدلّ على أنّ الأخلاق أمرٌ إكتسابي، و غير خارجة عن عنصر الإرادة في الإنسان. مثيل هذهِ الرّوايات والمعاني القَيّمة كثيرٌ، في مضامين أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)، وهي إن دلّت على شيء فإنّها تدلّ على إمكانِيَّة تغيّر الأخلاق، وإلاّ فستكون لغواً وبلا فائدة(2). 6 ـ وفي حديث آخر ورد عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، نقرأ فيه أنّه قال لأحد أصحابه و أُسمه جرير بن عبدالله: "إنّك امرُءٌ قَد أحسنَ اللهُ خَلقَكَ فأَحسِنْ خُلْقَك"(3). وخلاصة القول أنّ رواياتنا مليئةٌ بهذا المضمون، حيث تدلّ جميعها على أنّ الإنسان قادر على تغيير أخلاقه(4). ونختم هذا البحث بحديث عن الإمام علي(عليه السلام)، يحثّنا فيه على حُسن الخلق، حيث قال(عليه السلام): "الكَرَمُ حُسنُ السّجيةِ وَ إجتنابِ الدَّنِيّةِ"(5). -- 1. المحجّة البيضاء، ج 5، ص 93. 2. أُصول الكافي، ج 2 في باب حسن الخلق ص 99، نقل رحمه الله: 18 رواية حول هذا الموضوع. 3. سفينة البحار مادة خلق. 4. راجع أصول الكافي، ج2; وروضة الكافي; ميزان الحكمة، ج3; سفينة النجاة، ج1. 5. غُرر الحِكم. [ 27 ] أدلّة مُؤيّدي نظرية ثبات الأخلاق، و عَدم تغيّرها: وفي مقابل ما ذكرناه آنفاً، إستدلّ البعض بروايات يظهر منها أنّ الأخلاق غير قابلة للتغيير، ومنها: 1 ـ الحديث المعروف الوارد عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، حيث قال: "النّاسُ مَعادِنٌ كَمَعادِنِ الذَّهبِ وَالفِضَّةِ، خِيارُهُم فِي الجَاهِليّةِ خِيارُهُم فِي الإسلامِ". 2 ـ الحديث الآخر الوارد أيضاً عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "إذا سَمِعتُم أَنَّ جَبَلا زالَ عَن مَكانِهِ فَصدِّقُوهُ، وَإذا سَمِعتُم بِرَجُل زَالَ عَن خُلقِهِ فَلا تُصَدِّقُوهُ! فإنَّهُ سَيعُودُ إلى مـا جُبِلَ عَلَيهِ"(1). الجواب: إنّ تفسير مثل هذهِ الروايات، و بالنّظر للأدلة السّابقة، و الروايات التي تصرّح بإمكانية تغير الأخلاق، ليس بالأمر العسير، لأنّ النّقطة المهمّة والمقبولة في المسألة، أنّ نفوس الناس بالطبع متفاوتة، فبعضها من ذَهب و البعض الآخر من فضّة، ولكنّ هذا لا يدلّ على عدم إمكانية تغيير هذه النفوس والطبائع. وبعبارة اُخرى: إنّ مثل هذهِ الصّفات النّفسية في حدّ المقتضي: ليس علّةً تامّةً، ولذلك رأينا وبالتجربة أشخاصاً تغيّرت أخلاقهم بالكامل، ويعود الفضل في ذلك للتربية والتعليم. و علاوةً على ذلك، إنّنا إذا أردنا أن نعمّم الحكم، في الحديث الشّريف، على جميع النّاس، فهذا يعني أنّهم كلّهم ذَووا خُلق حَسن. فبعضهم حسنٌ و البعض الآخر أحسَن، (كما هو الحال في الذّهب و الفضّة). و عليه فَلَن يبقى مكانٌ للأخلاق السّيئة في طبع الإنسان. (فتأمّل). و بالنّسبة للحديث الثاني، نرى أنّ المسألة أيضاً هي من باب المُقتضي، و ليس علّةً تامّةً، أو بعبارة اُخرى: إنّ الحديث ناظرٌ لأغلبية الناس، وليس جميعهم، وإلاّ لخالف مضمون الحديث، صريح التّأريخ، الذي حكى لنا قَصصاً حقيقيّةً عن أفراد إستطاعوا تغيير أنفسهم 1. جامع السّعادات، ج 1، ص 24. [ 28 ] وبقوا على ذلك حتّى الممات. ولخالف أيضاً التّجارب اليوميّة، التي رأينا فيها الكثير من الأشخاص الفاسدين، غيّروا طريقة حياتهم بسبب التّعليم و التربية، و إستمروا يسيرون في خطّ الهداية و الصّلاح حتى الممات. و خُلاصة القول: أنّه وفي نفس الوقت الذي تختلف فيه سَجايا النّاس، لا يوجد أحد مجبور على الرّذائل و الأخلاق السّيئة، وكذلك الحال بالنسبة للأخلاق الحسنة، فذَوُوا السّجايا الطيّبة إذا ما إتّبعوا هواهم، سيسقطون إلى الحضيض، وذَووا السّجايا الخبيثة، قادرون على بناء أنفسهم و ذاتهم، من موقع التّهذيب و التزكية، و الوصول إلى أعلى درجات الكمال الرّوحي. ويجب التّنويه إلى أنّ بعض الأفراد الفاسدين والمفسدين، ولأجل توجيه أعمالهم المخالفة للطريق السّليم، يتذرّعون بحجج واهية من هذا القبيل; و أنّ الله تعالى قد جَبَلنا على ذلك الخُلق السّيء. وإن شاء أن يُغيّرنا لفعل؟!.... وعلى كلّ حال، فإن الإعتقاد بعدم إمكانيّة تغيير الأخلاق، ليس له نتيجةٌ إلاّ الوقوع في وادي الإعتقاد بالَجبر، ورفض ما دعا إليه الأنبياء، و القول بأنّ سعي علماء الأخلاق و أطّباء النفس في إصلاح النفوس، هو سعيٌ غير مثمر، ويترتب على ذلك بالتّالي فساد المجتمعات البشرية. 6 ـ المَسار التّأريخي لِعلم الأخلاق نختم البحث أعلاه، بشرح مقتضب للمسار التأريخي لعلم الأخلاق: فمما لا شك فيه أنّ الأبحاث الأخلاقية، ولدت مع أوّل قدم وضعها الإنسان على الأرض، لأن النّبي آدم(عليه السلام) لمُ يعلّم أبناءه الأخلاق فقط، بل إنّ البّاري تعالى، عندما خلقه وأسكنه الجنّة، أفهمه المسائل الأخلاقيّة و الأوامر و النّواهي، في دائرة السّلوك الأخلاقي مع الآخرين. وآتخذ سائر الأنبياء(عليهم السلام) طريق تهذيب النّفوس والأخلاق، و التي تكمَن فيها سعادة [ 29 ] الإنسان، حتى وصل الأمر إلى السيّد المسيح(عليه السلام)، حيث كان القسم الأعظم من تعاليمه، هو أبحاثٌ أخلاقيّةٌ، فَنَعَته حواريّوه و أصحابه بالمعلِّم الأكبر للأخلاق. ولكن أعظم مُعلِّمي الأخلاق، هو: رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لأنّه رفع شعار: "إنّما بُعثت لاُتمّم مكارَم الأخلاق". وقال عنه الباري تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم )(1). ويوجد قديماً بعض الفَلاسفة، مَنْ لُقّب بمعلّم الأخلاق، مثل: إفلاطون، و أرسطو، و سُقراط، و جَمعٌ آخر من فَلاسفة اليونان. و على كلّ حال، فإنّه وبعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فإنّ الأئمّة(عليهم السلام) هم أكبر معلّمي الأخلاق، و ذلك بشهادة الأحاديث التي نُقلت عنهم، حيث ربّوا أشخاصاً بارزين يمكن أن يعتبر كلّ واحد منهم مُعلِّماً لعصرهِ. فحياة المعصومين(عليهم السلام) و أتباعهم، هي خيرُ دليل على سُمّو نفوسهم، و رفعة أخلاقهم، في حركة الواقع. ويبقى السّؤال في أنّه متى تأسّس علم الأخلاق في الإسلام، ومن هم مشاهيره؟. و هذا البحث مذكورٌ بالتّفصيل في الكتاب القيّم: تأسيس الشّيعة لعلوم الإسلام، بقلم آية الله الشّهيد الصّدر(قدس سره). ولا بأس بالإشارة إلى بعض ما جاء فيه، حيث قسّم السيد الصدر الموضوع إلى ثلاثة أقسام: أ ـ يقول إنّ أوّل من أسّس علم الأخلاق، هو الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، (وذلك من خلال الرّسالة التي كتبها لإبنه الإمام الحسن(عليه السلام)) بَعد رجوعه من صفّين، حيث بيّن الاُسس الأخلاقيّة، و تطرق للمَلكات الفاضلة و الصّفات الرذيلة، و حلّلها بأحسن وجه(2). و نقل هذهِ الرّسالة، بالإضافة إلى السيّد الرّضي في نهج البلاغة، الكثير من علماء الشّيعة أيضاً. ونقلها كذلك بعض علماء أهل السُنّة، مثل: أبو أحمد بن عبدالله العسكري، في كتابه 1. سورة القلم، الآية 4. 2. رسالة الامام السّجاد(عليه السلام) الحقوقية، و دعاء مكارم الأخلاق، و كثير من الأدعية و المناجاة في طليعة الآثار الأخلاقية الإسلامية المعروفة، بحيث لا يوازيها أثر ولا يصل إلى مقامها شيء. [ 30 ] الزّواجر والمواعظ، حيث أوردها كلّها وقال: (لو كانَ مِنَ الحِكمةِ ما يجب أن يُكتبَ بالذّهبِ لكانتْ هذِهِ). ب ـ أوّل من كتب كتاباً في دائرة (علم الأخلاق)، هو: إسماعيل بن مهران أبو النصر السكوني، وهو من علماء القرن الثاني، و أسماه: المؤمن والفاجر، (و هو أوّل كتاب أخلاقي عُرف في الإسلام). ج ـ بعدها يذكر بعض من أسماء أكابر العلماء في هذا المجال، (وإن كانوا لم يألفّوا كُتباً فيها) مثل: "سلمان الفارسي"، حيث قال في حقّه الإمام علي(عليه السلام): "سَلمانُ الفارسِي مِثلُ لُقمانِ الحَكيمِ، عَلِمَ عِلمَ الأوّلِ والآخرِ، بحرٌ لا يُنزفُ، وهو مِنّا أهلَ البيتِ"(1). 2 ـ "أبوذَرْ الغَفاري"، و الذي بقيَ طويلاً يُروّج للأخلاق الإسلاميّة، و هو الّنموذج الحيّ لها، والمشاحنات التي كانت بينه وبين الخليفة الثّالث "عَثمان"، و "معاوية"، في المسائل الأخلاقيّة معروفةٌ لدى الجميع، حيث أودت بحياته، ومات في سبيل ذلك الطّريق القويم. 3 ـ "عَمّار بن ياسِر"، و قد ذكر أمير المؤمنين(عليه السلام) في حقّه و حقّ إخوانه و أصحابه المخلصين، يبيّن منزلتهم الأخلاقية السّامية، فقال: "أينَ إِخواني الّذين رَكِبُوا الطَّريقَ وَمَضوا عَلَى الحَقِّ، أينَ عَمّارُ... ثُمَّ ضَربَ يَدَهُ عَلَى لِحيَتِهِ الشَّريفَةِ الكَريمَةِ فأطالَ البُكاءَ، ثُمَّ قَالَ: اُوَّهْ عَلى إِخواني الَّذِينَ تَلَوا القُرآنَ فأحكَمُوهُ، وَتَدّبَرُوا الفَرضَ فأقـامُوهُ، أَحْيَوا السُّنّةَ وأماتُوا البِدعَةَ"(2). 4 ـ "نوف البكّالي"، كان مثال الزّهد و العبادة و حُسن الأخلاق، و توفّي بعد السّنة (90) للهجرة. 5 ـ "محمد بن أبي بكر"، كان من خُلّص أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام)، ويحذو حَذو الإمام 1. بحار الأنوار، ج 222، ص 391. 2. نهج البلاغة، خطبه 182. [ 31 ] في الزّهد والعبادةِ و الأخلاق. 6 ـ "الجارود بن المنذر"، كان من أصحاب الأئمّة الرابع والخامس والسادس(عليهم السلام)، و من كبار العلماء في العِلم و العمل، وله مقامٌ رفيعٌ جدّاً. 7 ـ "حذيفة بن المنصور"، كان من أصحاب الأئمّة: الباقر والصادق والكاظم(عليهم السلام)، وقيل عنه: (أنّه أخذ عن اُولئك العظام، وقد نبغ في مكارم الأخلاق وتهذيب النفس). 8 ـ "عثمان بن سعيد العمري"، هو أحد الوكلاء الأربعة للإمام المهدي(عليه السلام)، ومن أحفاد عمّار بن ياسر(رحمه الله)، وقالوا فيه: (ليس له ثان في المعارف والأخلاق والفقه والأحكام). و كثيرٌ من العظماء الّذين يطول ذكرهم. ونودُّ الإشارة إلى أنّ كثيراً من الكتب الأخلاقيّة، و على مدى التأريخ الإسلامي، قد كُتبت، ونذكر منها: 1 ـ من القَرن الثّالث، كتاب: "المانعاتُ من دخول الجنّة"، بقلم جعفر بن أحمد القُمي، و هو من كبار العلماء في عصره. 2 ـ من القَرن الرّابع، كتاب: "الآداب" وكتاب "مكارم الأخلاق"، بقلم عليّ بن أحمد الكوفي. 3 ـ كتاب: "طهارة النّفس" أو "تهذيب الأخلاق و تطهير الأعراق"، بقلم إبن مَسكويه، و المُتوَفّى في القَرن الخامس، فهو من الكتب المعروفة في هذا المجال، وله كتاب آخر في علم الأخلاق، و إسمه "آداب العرب والفُرس"، ولكن شهرته ليست كشهرة الكتاب المذكور آنفاً. 4 ـ كتاب: "تنبيه الخاطر و نزهةُ الناظر"، والذي عُرِف بـ: "مجموعة ورّام"، أحد الكتب المعروفة أيضاً في هذا المجال وكاتبه "ورّام بن أبي الفوارس"، من علماء القَرن السّادس الهجري. 5 ـ و نرى في القَرن السّابع كتابي: "الأخلاق النّاصرية و أوصاف الأشراف وآداب المتعلمين"، للشيخ خَواجة نصير الطّوسي(رحمه الله)، فكلّ واحد منها مَعلَم من مَعالم التّصنيف في هذا المجال، في ذلك القرن. 6 ـ وفي باقي القُرون نرى كتباً مثل: "إرشاد الديلمي"، "مصابيح القلوب للسبزواري"، [ 32 ] "مكارم الأخلاق لحسن بن أمين الدين"، و"الآداب الدينية لأمين الدين الطّبرسي"، و"المحجة البيضاء للفيض الكاشاني"، و هو كتاب قيّم جداً في هذا العلم، و: "جامع السّعادات" و"معراج السّعادة"، و كتاب: "أخلاق شبّر"، وكثير من الكتب الاُخرى(1). والمرحوم العلاّمة الطّهراني، أورد عشرات التّصانيف في كتابه المعروف بـ : "الذريعة"(2). ويجب الإشارة إلى أنّ كثيراً من الكتب الأخلاقيّة، طُبعت بعنوان كتب: السير والسلوك إلى الله، والبعض الآخر طُبع بعنوان: الكتب العرفانيّة، و تطرّق البعض الآخر لمسائل الأخلاق في فصل أو فصلين، ككتاب: "بحار الأنوار" و "اُصول الكافي"، حيث يُعدّان من أفضل مصادر هذا العلم. -- 1. مُلخص و مُقتبس من كتاب تأسيس الشّيعة لعلوم الإسلام. الفصل الأخير. 2. الذريعة، ج 1. [ 33 ] 2 / دور الأخلاق في الحياة والحضارة الإنسانية 2 دور الأخلاق في الحياة والحضارة الإنسانيّة يعتقد البعض من غير المطّلعين، أنّ المسائل الأخلاقيّة تمثل أمراً خاصاً في حدود الحياة الشّخصية للإنسان، أو أنّها مسائل مقدّسة معنويّة، لا تفيد إلاّ في الحياة الاُخرويّة، وهو أشتباه محظ، لأن أكثر المسائل الاخلاقيّة لها أثرها في واقع الحياة الإجتماعيّة للإنسان، سواء كانت ماديّة أم معنويّة، فالمجتمع البشري بلا أخلاق، سينقلب إلى حديقةِ حيوانات لا يُجدي معها إلاّ الأقفاص، لِردع أفعال الحيوانات البشريّة عن أفعالها الضّارة، و ستُهدر فيها الطّاقات، وتحطّم فيها الإستعدادات، وسيكون الأمان والحريّة لعبة بيد ذوي الأهواء، وستفقد الحياة الإنسانية مفهومها الواقعي. وعندما نتحرى التأريخ، نرى أنّ كثيراً من الأقوام البشريّة قد حَلّ بهم البوار، وتمزقوا شرّ مُمَزّق نتيجةً لإنحرافاتهم الأخلاقيّة. وكم رأينا في التأريخ حُكّاماً، عرّضوا شعوبهم لمصائب أليمة و ويلات، نتيجةً لضعفهم الأخلاقي!!. وكم يوجد من اُمراء فاسدين وقيادات عسكريّة متعنّتة، عرّضوا حياة جنودهم للخطر الفادح، بسبب استبدادهم بالرّأي وعدم المشورة. والحقيقة أنّ الحياة الفرديّة للإنسان، لا لَطافةَ ولا شفافيّة لها بدون الأخلاق. ولن تصل العوائل إلى برِّ الأمان من دونها، ولكنّ الأهمَّ من ذلك هو الحياة الإجتماعيّة للبشر، فما لم [ 34 ] يتمسك أفراد المجتمع بالأخلاق، فستكون نهاية المجتمع أليمة وموحشة جدّاً. ولرب قائل يقول: إنّ السّعادة و التكامل في واقع المجتمع البشري، يمكن أن يتحقّقا في ظِلِّ العمل بالقوانين و الأحكام الصّحيحة، من دون الإعتماد على مبادىء الأخلاق في الفرد. و نقول له: إنّ العمل بالقوانين، من دون وجود قاعدة متماسكة من القِيم الأخلاقيّة لدى الفرد غير ممكن، لأنّه إذا لم يتوفر الدّاعي الذّاتي للإنسان، فالسّعي الظّاهري لن يُجدي نفعاً. فالقوّة و الضّغط من أسوأ الأدوات لتنفيذ القوانين و الضّوابط، و لا يصحّ إستعمالها إلاّ في الضّرورات، وبالعكس فإنّ الإيمان و الأخلاق، يُعتبران من أفضل الأساليب لتنفيذ أيّة قرارات. بعد هذه الإشارة، نعود للآيات القرآنيّة الناظّرة إلى هذه المسألة المهمّة، لنستوحي منها بعض المعاني في هذا المجال: 1 ـ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ آتَّقَوْا لَفَتَحْنـا عَلَيْهِمْ بَرَكـات مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَاَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ )(1). 2 ـ (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ إِدْفَعْ بِالَّتِي هِىَ أَحْسَنُ فَاِذَا الّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقّاها إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيم )(2). 3 ـ (فَبِما رَحْمة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَأعْفُ عَنْهُمْ وَآسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَاِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )(3). 4 ـ (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَة مِنْ نَذِير إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما اُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ )(4). 5 ـ (وَابْتَغِ فِيما آتكَ اللهُ الدّارَ الاْخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ إِنَّما اُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم عِنْدي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ولا 1. سورة الأعراف، الآية 96. 2. سورة فصّلت، الآية 34 و 35. 3. سورة آل عمران، الآية 159. 4. سورة سبأ، الآية 34. [ 35 ] يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الُْمجْرِمُونَ )(1). ا ص36 - ص506 ـ (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُم مِدْراراً ـ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوال وَبَنِْينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّات وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً )(2). 7 ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالاِْنْجِْيلَ وَما اُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ لاََكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ اُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ )(3). 8 ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَر أَوْ اُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ )(4). 9 ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَاِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى )(5). 10 ـ (وَلا تَنـازَعُؤا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ )(6). تفسير و إستنتاج: "الآية الاولى": تكلّمت عن الرّابطة بين بركات الأرض و السّماء و بين التّقوى، حيث يُصرِّح فيها بأنّ التّقوى، سبب البركات التي تنزل من السّماء على الناس، وبالعكس فإنّ عدم التّقوى و التّكذيب بآيات الله، سبب لنزول العذاب: (وَلَوْ أَنَّ اَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَآلاَْرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَآَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ). فبركات الأرض و السّماء لها معنى وسيع جداً، بحيث يشمل: نزول الأمطار، و إنبات النّباتات، و كثرة الخيرات، وكثرة القوى البشريّة. "البركة": أصلها الثّبات و الإستقرار، و بعدها اُطلقت على كلّ نِعمة و موهبة تبقى ثابتةً لا تتغير، و لذلك فإنّ الموجودات غير المبارك فيها، تكون غير ثابتة و تفنى بسرعة. 1. سورة القصص، الآية 77 و 78. 2. سورة نوح، الآية 10 إلى 12. 3. سورة المائدة، الآية 66. 4. سورة النحل، الآية 97. 5. سورة طه، الآية 124. 6. سورة الأنفال، الآية 46. [ 36 ] إن الكثير من الاُمم لديها إمكاناتٌ ماديّةٌ كبيرةٌ، و معادن و مصادر للثروة تحت الأرض، و كذلك لديها أنواع الصّناعات، ولكن بسبب أعمالهم السيئة و التي لها علاقة مُباشرة بإنحطاطهم الأخلاقي، فإنّ تلك المواهب والمنن الإلهيّة، ستتعرض للإهتزاز وتفقد البركة في مضمونها الإجتماعي، حيث تُستعمل تلك النعم الإلهيّة في الغالب، لتعجيل فنائهم وزوال نعيمهم من موقع النقمة الإلهيّة. وقد صرّح القرآن الكريم بذلك، حيث قال في سورة التوبة في الآية (85): (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيْدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) نعم إنّ هذه النِّعم إذا إقترنت بفساد الأخلاق، فستكون سبباً لعذاب الدنيا و خُسران السّعادة في الآخرة!. و بعبارة اُخرى، إذا إقترنت هذه المواهب الإلهيّة، بالإيمان والأخلاق والقيم الإنسانية، فستجلب الرّفاه و السعادة و العمران للمجتمع البشرى، وهذا هو الشّيء الذي تُشير إليه الآية الآنفة الذّكر. وبالعكس فيما لو سلك الإنسان معها، اُسلوب البُخل و الظُّلم و الإستبداد، و سوء الخُلق و إتّباع الأهواء، فستكون من وسائل الإنحطاط و الفساد و الإنحراف!. -- "الآية الثانية": تتحرك في إطار بيان طريقة مُهمّة و مُؤثرة جداً لدفع العداوات والضّغائن، وتوضّح أيضاً دور الأخلاق في إزالتها: (إِدْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَاِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِْيمٌ ). ويضيف قائلا: إنّ هذا الأمر، أي سِعة الصّدر، أمرٌ لا يقدر عليه كلّ أحد، بل يختصّ بها من اُوتي حظّاً عظيماً من الإيمان و التّقوى، فيقول: (وَما يُلَقّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيْم ). إنّ إحدى المشاكل الكبيرة للمجتمعات البشريّة، هي تراكم الحقد و الكراهيّة في النفوس، وفي حال وصولها الذّروة، فإنّ من شأنها أن تفضي إلى إشعال نيران الحروب، التي تحرق معها [ 37 ] كلّ شيء وتحوله إلى رماد. ومع تحرك الإنسان من موقع: (إدفع بالّتي هي أحسن )، فستذوب الأحقاد و الكراهيّة كالثّلج في الصّيف، وستتخلص المجتمعات البشريّة من خطر الحروب، و تقلّ الجنايات، و تنفتح البشريّة على أجواء المحبّة و التعاون و التّكامل الإجتماعي. وكما يقول القرآن الكريم،: إنّ هذا المستوى الأخلاقي لا يصدر من كائن من يكن، حيث يتطلب قوّة الإيمان و التّقوى والتربية الأخلاقيّة. ومن الطبيعي أنّ الخُشونة إذا ما قابلتها الخُشونة، و السّيئة دُفعت بالسّيئة، فستطّرد هذه السّلبيات وتتوسع يوماً بعد يوم، و بالتّالي ستجر الويلات و المآسي على المجتمع البشري. ومن البديهي أنّ: (مسألة إدفع بالّتي هي أحسن)، لها شروطٌ و حدودٌ و إستثناءاتٌ، سنشرحها بالتّفصيل في المستقبل إن شاء الله. -- "الآية الثالثة": تحدثت عن تأثير حُسن الخُلق في جلب و جذب الناس، وبيّنت أنّ المدير المتخلق بالأخلاق الإلهيّة إلى أيّ حدّ يكون موفقاً في عمله، وكيف يجمع القلوب المُتنافرة و يوحِّدها التوحيد الذي يصعد بها إلى الرّقي و الكمال الإجتماعي: (فَبِما رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَْنْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ فَآعْفُ عَنْهُمْ وَآسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الاَْمْرِ فَاِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ). ففي هذه الآية، نرى التّأثير العميق لحسن الأخلاق في تقدّم أمر الإدارة، و جلب و جذب القلوب و وحدة الصّفوف، و النّجاح على مُستوى التّفاعل الإجتماعي لأفراد المجتمع; فأثر حسن الأخلاق لا يتحدّد بحدود البُعد الإلهي والمعنوي فقط، بل له آثاره الوسيعة في حياة الإنسان الماديّة. و الأوامر الثّلاثة التي جاءت في ذيل الآية، يعني مسألة: "العَفو عن الخَطأ" و "طلب المغفرةِ من الباري تعالى" و "المشورة في الاُمور"، هي أيضاً تصبّ في دائرة تفعيل عناصر الأخلاق في النّفس، لأنّ تلك الأخلاق النّابعة من الرّحمة و التّواضع، تكون سبباً للعفو و [ 38 ] الإستغفار وتصحيح الأخطاء السّابقة، و إحترام شخصيّة و وجود الإنسان أيضاً. -- "الآية الرابعة": تبيّن الآثار السّلبية لبعض الأخلاق السيئة، حيث يقف في مقابل الأنبياء الإلهيين، جماعة من المترفين، و هم المُنعّمين الذين ملأ الكبَر والأنانيّة أنفسهم ووجودهم: (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَة مِنْ نَذِْير إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما اُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ). وبعدها يعقّب قائلاً: أنّ الغُرور وصل بهم إلى درجة كبيرة، فقالوا: (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ). فمثل هذه الأخلاق القبيحة، تُعدّ سبباً في التّصدي للإصلاح الإجتماعي، على مُستوى قتل رجال الحقّ، و خنق أصوات طلاّب الحقيقة، وبالتالي زرع بذور الفساد و الظّلم والطغيان في المجتمعات، وهنا يتّضح نموذج آخر من آثار الأخلاق السّيئة في المجتمعات البشريّة. والعجيب في الأمر، أنّ روحيّة الإستكبار النّاشئة من الرّفاه المادي و سبوغ النّعمة، هي السّبب في التّورط في مُستنقع الخطيئة و إرتكاب أخطاء فاضحة جدّاً، فإعتقدوا بأنّ وفور النّعمة و كثرتها، هو دليل للقرب الإلهي، وقالوا: لولا قُربنا من الله تعالى لما آتانا تلك النّعم!؟. و بذلك أنكروا جميع القيم الأخلاقيّة و المعنويّة، ولكنّ القرآن الكريم في الآية التاليّة يُفنّد منطقهم الواهي، و يجعل المعيار هو الإيمان والعمل الصّالح. فلم يكن موقف المترفين المشركين من قُريش بالوحيد في عصرهم، فهذا هو موقف جميع المترفين في الأقوام السّالفة مع الأنبياء والمصلحين. -- "الآية الخامسة": تنظر لوجه آخر من المسألة، و تبيّن قصّة "قارون" الغني المغرور والأناني و هو من بني إسرائيل. فعندما نصحه أهل العلم والمعرفة من قومه، و قالوا له: (وَآبْتَغِ فِيما أتكَ اللهُ الدّارَ الاْخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللهَ [ 39 ] لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )و قال و بكلّ تكبّر و غُرور: (قالَ إِنَّما اُوتيْتُهُ عَلَى عِلْم عِنْدِي ). يعني أنّ الله لا دخل له في وفور النّعمة عليّ، ولكنّ علمي ودرايتي بالاُمور هي السّبب في ذلك; وهكذا أودى به الكِبَر و الغُرور إلى السّقوط في وادي إنكار الآيات الإلهيّة، و بالتّالي التّحرك من موقع التعاون مع أعداء الحقّ و العدالة، و في لحظة وحادثة عجيبة، خُسِفَت به وَ بِأمواله الأرض. وهنا نرى كيف أنّ الرّذائل الأخلاقيّة، بإمكانها تغيير وجوه الأشخاص و المجتمعات، و منعهم من الوصول إلى الخير والسّعادة. و الطّريف في الأمر، أنّنا نقرأ في الآيات التي قبلها، بأنّ قومه قالوا له: (إِذْ قالَ لَهُ قَومُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ الله لا يُحِبُّ الفَرِحينَ ). ومن البديهي أنّ الإسلام لا يعارض الفرح و السّرور، ولكنّ المقصود هنا الفرح النّاشيء من الغَفلة و الغرور و نِسيان الله تعالى، و المقترن بالظّلم و الفساد و مُمارسة الخطيئة والذي بدوره يجرّ الإنسان لِلعربدة و الجُموح والفساد، وكلّ ذلك منشؤه الصّفات القبيحة التي تضرب بجرانها في القلب. -- "الآية السادسة": نقرأ فيها شكوى النّبي نوح(عليه السلام) إلى الباري تعالى، فنرى في طيّاتها معان تُشير إلى تأثير أعمال الإنسان، و الأخلاق التي تدعم تلك الأعمال، في الحياة الفرديّة و الإجتماعيّة للإنسان، فيقول: (فَقُلْت اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم إِنَّهُ كانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيكُم مِدْراراً * وَيُمْدِدكُم بِأَمْوال وَبَنَينَ * وَيَجْعَلْ لَكُم جَنَّات وَ يَجعَلْ لَكُم أَنهاراً ). وفي الإستمرار في قراءة تلك الآيات، نرى عصيانهم وتمرّدهم على الأوامر الإلهيّة، وكذلك تبيّن الآيات صفاتهم القبيحة، و التي هي بمثابة المنَبع الآسن الذي يمدهم بالذّنوب. ويمكن القول أنّ ما ذُكر آنفاً، هو العلاقة المعنويّة و الإلهيّة بين الإستغفار وترك الذنوب، و بين زيادة النعم، ولا يوجد منع من سراية هذه العلاقة لتشمل البُعد الظّاهري و البُعد المعنوي، لذلك نقرأ في آية اُخرى من القرآن الكريم: (ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ والبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيدِي النّاسِ )(1). 1. سورة الروم، الآية 41. [ 40 ] وقد ورد هذا المعنى في سورة هود بشكل آخر على لسان الرسول(صلى الله عليه وآله)، في خطابه لُمشركي مكّة: (وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ يُمَتِّعُكُم مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَل مُسَمّىً )(1). لا شك أنّ الّتمتع "بالمتاع الحسن"، لأجل مُسمّى، هو إشارةٌ إلى المواهب الماديّة الدنيويّة، فهي رهينة الإستغفار و التّوبة من الذّنب، و العودة إلى الباري تعالى، و التّخلق بالأخلاق الحسنة. ولا شكّ أنّ الصّفات القبيحة هي الأساس والأصل لأنواع الذّنوب، و الذّنوب بدورها سبب لنشر الفساد في المجتمع وتفكيك لِعُرى الوحدة، و أواصر الصّداقة و الاُخوّة والإعتماد بين الناس، و بالتّالي التّأخر في العُمران و الّنمو الإقتصادي و الرّفاه المادي، و التّكامل المعنوي وسلامة النّفوس. -- وفي "الآية السابعة": إشارةٌ إلى حالة أهل الكتاب وعصيانهم وطغيانهم، فيقول: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالاِْنْجِْيلَ وَما اُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ لاََكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ اُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ ). ونرى هنا أيضاً تقريراً، للعلاقة الوطيدة بين العمل الصالح و التّقوى من جهة، و نزول البركة السّماوية والأرضية من جهة اُخرى، وهذه العلاقة يمكن أن تحمل الجانب المعنوي أو الطّبيعي، أو بالأحرى الإثنين معاً. نعم فإنّ الفيوضات الإلهيّة لا حدّ لها، ويتوجب علينا تحصيل الأهليّة و القابليّة، لنتصل بالمصدر الأصلي للفيض، ولكن الإفراط و التّفريظ و العُدول عن جادّة الإعتدال و التّوازن، سوّدت وجه الحياة الإنسانيّة، و سلبت منها الراحة. فالحروب المدمّرة تعرّي النفوس الإنسانيّة من الفضيلة و الصّلاح، و تُزهق الثّروات الماديّة و المعنويّة، و تفضي بالإنسان إلى الزّوال. 1. سورة هود، الآية 3. [ 41 ] و جُملة: (وَما اُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رَّبِّهِمْ )، تعني كلّ الكتب السّماوية، و من جُملتها القرآن الكريم، وذلك لأنّ اُصولها في الواقع واحدةٌ، رغم أنّه وبمرور الزّمان، و حركة المجتمع الإسلامي في خط التّكامل و التّطور، نزلت أوامر وأحكام أكثر تطوراً من السابق. -- "الآية الثامنة": نستوحي منها تعبيراً جديداً عن علاقة الحياة الطيبة بالأعمال الصالحة، (و الصّفات التي هي منشأ لتلك الأعمال)، فتقول الآية: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَر أَوْ اُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ). الآيات السّابقة، كانت تؤكّد على تأثير الأخلاق على آفاق وأبعاد حركة الإنسان في الحياة الإجتماعية، وفي الآية هذه نجد أنّها تتناول الحياة الفردية، فيذكر فيها أنّ كلّ إنسان من ذكر و اُنثى، إذا ما آمن وعمل صالحاً فسيحيى حياةً طيّبةً. ولا نرى في هذه الآية أيّةَ إشارة إلى أنّ "الحياة الطيّبة" محدودةٌ بيوم القيامة فقط، بل تشير ظاهراً إلى (الحياة الطيّبة) في الدنيا، أو تستوعب المفهوم العام للحياة في الدنيا والآخرة. ولكن ما هي الحياة الطيّبة؟ إختلف المفسّرون في تفسير معنى الحياة الطيّبة، فبعض فسّرها باللقمة الحلال، وقال آخر أنّها القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى، وقال البعض أنّها العبادة مع لقمة الحلال، و قال آخرون أنّها التّوفيق لطاعة الله تعالى، و تبنّى آخرون تفسيرها بالنّظافة من جميع الأوساخ والأدران، مثل الظّلم و الخيانة والعدوان و الذلّة و الطّهارة و النّظافة و الرّاحة، فكلّها تندرج تحت ذلك المفهوم، ولكن بالنّظر إلى جملة: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ )، النّاظرة للأجر الاُخروي، يتبيّن أنّ المقصود من كلمة "الحياة الطيّبة"، هو الإشارة للحياة السّليمة في هذه الدنيا. -- "الآية التاسعة": تقرر أنّ الإعراض عن ذكر الله تعالى و الغفلة عنه، هو السّبب في ضَنَك العيش وصعوبة الحياة، فيقول الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَاِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [ 42 ] وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيـامَةِ أَعْمى ) و نعلم أنّ ذكر الله و معرفة اسمائه و صفاته المقدسة، هو منبع لكلّ الكمالات، بل هو عَين الكمال، فذِكره سبب لتربيه وترشيد الفضائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان، و الصّعود به إلى آفاق معنويّة سامية، في عالم التّخَلّق بالأسماء و الصّفات الإلهيّة، و هذا الخُلق هو مصدر الأعمال الصَّالحة، و هو السّبب في الإنفتاح على الحياة السعيدة وتطهيرها، و بالعكس، فإنّ الإعراض عن ذكر الله تعالى، يبعده عن مصدر النّور الإلهي، و يقترب به من الخُلق الشّيطاني و الجوّ الظّلماني، ممّا يؤدي بالإنسان إلى أن يعيش ضنك العيش، و ينحدر في مُنزلق النّهاية المأساويّة في حركة الحياة، وهذه هي آيةٌ اُخرى تبيّن بصراحة، علاقة الإيمان والأخلاق مع الحياة الفردية و الإجتماعية للبشر. وقد فسّر بعض أرباب اللّغة، كلمة "معيشة ضنكا": بالحياة والمعيشة التي يتكسّب فيها من الحرام، لأنّ مثل هذه المعيشة، هي سبب القَلق و الإضطراب الرّوحي في كثير من الاُمور. و على حدّ تعبير بعض المفسّرين: إنّ الأفراد غير المؤمنين، يغلب عليهم الحِرص الشّديد في اُمور الدنيا، و عندهم عطشٌ مادي لا ينفذ، وخوف من زوال النّعمة، ولأجل ذلك يغلب عليهم البخل، و الصّفات الذّميمة الاُخرى التي تضعهم في نار محرقة من الآلام الروحيّة و الضّغوط النفسية، (بالرغم من توفر الإمكانات الماديّة الكثيرة عندهم). و عندما يعيشون العمى في الآخرة; فإنّما هو بسبب العمى في هذه الدنيا عن السير في طريق الحقّ و السّعادة، وغرقهم في ظلمات الشّهوات الماديّة. وسنشرح في نهاية هذا القسم هذه المسألة شرحاً وافياً. -- "الآية العاشرة": تتطرق لأحد الآثار السّيئة للعداوة و النّزاع، الموجب لتدمير عُرى الوحدة و مُصادرة القوّة والقدرة، فتقول: (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ). ومن البديهي أنّ المنازعات و الإختلافات في حركة الواقع الإجتماعي، إنّما هي من إفرازات الأخلاق الرّذيلة المنحطّة الكامنة في أعماق النّفس البشريّة مثل: الأنانيّة، التكبّر، [ 43 ] الحرص، الحقد، الحسد، وأمثال ذلك من عناصر الشرّ والإنحراف، و يترتب على ذلك توكيد عناصر الفشل و الإنحطاط، وزوال عناصر العزّة والقوّة من واقع المجتمع البشري. والجدير بالذّكر، أنّ القُرآن عبّر هنا بـ : "تذهب ريحكم". "الريح" في الأصل بمعنى "الهواء"، و هي كناية عن: "القدرة و القوّة والغلبة"، و يمكن إستيحاء هذا المعنى من أنّ الرّيح عندما تُحرّك رايات القبيلة; فانّه يُعدّ مظهراً للقوّة و الغَلبة، وعليه يكون مفهوم الجُملة; أنّ الإختلاف هو سبب زوال قوّتكم وعظمتكم وقدرتكم. أو أنّ المفهوم مقتبس من هبوب الرّياح الموافقة، و التي هي سبب في سرعة حركة السّفن للوصول إلى المكان المقصود، و مع إنعدامها تتوقف الحركة. ويقول صاحب "التّحقيق": يُوجد علاقة بين الرّوح و الرّيح، فالرّوح ما يحدث في ما وراء الطّبيعة، و الرّيح بمعنى الحدوث في الطّبيعة. وجاءت كلمة "ريح" في بعض الموارد، بمعنى العَطر الجميل، مثل: (إنّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَولا أنْ تُفَنِّدُون )(1). وعلى هذا يمكن القول أنّ معنى الجملة هو: أنّ الإتحاد يفضي إلى إنتشار نفوذكم ورائحتكم في العالم، وإذا ما إختلفتم، فستفقدون نُفوذكم في العالم. وعلى أيّة حال فأيّاً كان السّبب في الإختلاف، سواء كان: (الأنانيّة، الإنتفاعيّة، الحسد، البخل، والحقد و غيرها)، فسيكون له الأثر السّلبي في الحياة الإجتماعيّة و تخلّفها، ومن هنا تتجلى علاقة المسائل الأخلاقية بالمسائل الإجتماعية في حركة الواقع الإجتماعي للبشر. -- النتيجة: نستوحي من الآيات الآنفة الذّكر، أنّ الخُلق السّامي الإنساني، لا يقتصر تأثيره على السّلوك المعنوي والاُخروي للإنسان فحسب، بل له الأثر الكبير في الحياة الماديّة و الدنيويّة 1. سورة يوسف، الآية 94. [ 44 ] للبشر، وعليه لا ينبغي أن نتصور أنّ المسائل الأخلاقيّة، مُنحصرة بالفرد وَحده على حساب الحياة الإجتماعية، بل العكس صحيح; فالأخلاق على علاقة قويّة و وطيدة مع الحياة الإجتماعيّة، و أيّ تحوّل إجتماعي في واقع الحياة البشرية، لا يمكن أن يحصل إلاّ على أساس التّحول الأخلاقي. وبتعبير آخر: إنّ النّاس الذين يعيشون في مجتمع كبير، و يرغبون في حياة سعيدة مقرونة بالسّلم والتعاون المشترك، يجب عليهم على الأقل أن يَصِلوا إلى رُشد أخلاقي، يدركون معه الحقائق المتعلقة بإختلاف أفراد الإنسان فكراً وروحاً و عاطفةً، لأنّ الأفراد يختلفون عن بعضهم البعض، فلا نتوقع أبداً من الآخرين أن يتبعونا في كلّ شيء، والمهم في المسألة هو السّعي في الحفاظ على الاُصول المشتركة بين المجتمع، و إختلاف الأذواق والأفكار يجب التّجاوز عنه، إلى حيث اللّيونة و الحلم و سِعة الصّدر و النّظر إلى المستقبل، فلا يمكن لنفرين أن يُجسّدا بينهما تعاوناً حقيقيّاً في حركة الحياة ولمدّة طويلة، إلاّ بعد التحلّي بأحد الاُصول الأخلاقيّة الآنفة الذّكر. ومن البديهي أنّ التّهيؤ الأخلاقي لهضم نقاط الإختلاف، و الوصول إلى الوحدة والقدرة و العظمة، هو أمر لازم وضروري، وهو أمر لا يتحقق بالكلام فقط، بل يحتاج إلى تهذيب و تعليم و تربية لنفوس الأفراد، كي يصل المجتمع إلى الّنمو و التّكامل في المجالات الأخلاقية. -- علاقة الحياة الماديّة بالمسائل الأخلاقيّة في الرّوايات الإسلاميّة: ما إستفدناه من الآيات القرآنية في الموضوع الآنف الذّكر، له أصداءٌ واسعةٌ في الرّوايات الإسلاميّة أيضاً; حيث يحكي عن التّأثير العميق للصفات الأخلاقيّة في الحياة الفرديّة و الاجتماعيّة، ونشير إلى قسم منها: [ 45 ] 1 ـ نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام): "فِي سِعةِ الأخلاقِ كُنُوزُ الأرزاقِ"(1). 2 ـ ورد في حديث آخر عن الإمام الصّادق(عليه السلام)، قال: "حُسنُ الخُلقِ يَزيدُ في الرِّزقِ"(2). 3 ـ ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين(عليه السلام): كيف أنّ الأخلاق الحسنة تُؤثّر في جلب النّاس و تحكيم أواصر الصّداقة بينهم: "مَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ كَثُرَ مُحِبُّوهُ وَآنَسَتِ النُّفُوسُ بِهِ"(3). 4 ـ ورد في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام)، يتطرّق فيه إلى هذا المعنى بصراحة أكثر، فيقول: "إِنَّ البِرَّ وَحُسنَ الخُلقِ يَعْمُرانِ الدِّيارَ وَيَزيدَانِ فِي الأَعمَارِ"(4). ولا شكّ أنّ تصاعد العمران وتماسك المجتمعات، يكون من خلال الإتحاد و التعاون بين أفراد المجتمع وطوائفه المختلفة، و كلّ ما يؤدّي إلى تقوية روح الاتحاد و التّعاون بين الناس، يُعتَبر من العوامل المهمّة في تحكيم المرتكزات الأساسيّة لبقاء المجتمع، و تفعيل حركة العمران فيه، وبالنسبة إلى طول العمر، نجد أنّه معلول غالباً، إلى الحياة الهادئة والبعيدة عن حالات القلق و الإضطراب، و في ظلّ التّعاون المشترك بين الأفراد. و كلّ هذه الاُمور تُعدّ من معطيات الأخلاق الحسنة في حركة الإنسان والحياة. 5 ـ وفي هذا المضمار ورد في حديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، قال: "حُسنُ الخُلقِ يُثبِّتُ المَوَدَّة"(5). وتوجد أيضاً أحاديث مُتعدّدة، تحكي عن تأثير سوء الخُلق في إيجاد الكراهيّة في النفوس، و توهين الرّوابط بين الأفراد، و أنّه يورث النّفور و التّشتّت وضنك المعيشة وسلب الرّاحة و الطّمأنينة. 6 ـ ورد في حديث عن الإمام علي(عليه السلام): "مَنْ ساءَ خُلْقُهُ ضاقَ رِزقُهُ"(6). 7 ـ وجاء في حديث آخر أيضاً عن علي(عليه السلام)، أنّه قال: "مَنْ ساءَ خُلْقُهُ أَعْوَزَهُ الصَّدِيقُ والرَّفِيقُ"(7). 1. بحار الأنوار، ج75، ص53. 2. المصدر السابق، ج68، ص394. 3. غرر الحكم. 4. بحار الأنوار، ج68، ص395. 5. المصدر السابق، ج74، ص148. 6. غرر الحكم. 7. المصدر السابق. [ 46 ] 8 ـ وجاء أيضاً عن علي(عليه السلام): "سُوءُ الخُلقِ نَكدُ العَيشِ و عَذَابُ النَّفسِ"(1). 9 ـ سأل الإمام علي(عليه السلام): مَنْ أَدومُ النّاسِ غَمّاً، قال: "أَسوَؤهم خُلقاً"(2). 10 ـ وأخيراً نورد نصيحة لقمان الحكيم لإبنه، و هي: "وإِيّاكَ والضَّجَرِ وَسُوءُ الخُلقِ وَقِلَّةِ الصَّبرِ فَلا يَسْتَقِيمُ عَلَى هذِهِ الخِصالِ صاحِبُ"(3) -- 1. غرر الحكم. 2. مستدرك الوسائل، ج2، ص338 (الطبعة القديمة). 3. بحار الأنوار، ج10، ص419. [ 47 ] 3 / المذاهب الأخلاقية 3 المذاهب الأخلاقيّة يوجد في علم الأخلاق مذاهبٌ كثيرةٌ، إنحرف أكثرها، و آلَ بها الأمر إلى مُخالفة الأخلاق، فمعرفتها ليس بالأمر الصّعب و خصوصاً في ظِلّ الهدي القُرآني; فيقول القرآن الكريم: (وأنَّ هـذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفِرَّقَ بِكُم عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمُ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ )(1). فأتت هذه الآية، بعد ذكر قسمٌ مهمٌّ من العقائد والبرامج العمليّة و الأخلاقيّة في الإسلام، و قد تضمنّت عشرة أوامر إسلاميّة، جاءت لِتوصي المسلمين بأن يتحركوا في العقيدة في خط الإستقامة، بعيداً عن السّبل الاُخرى التي تورثهم الفُرقة و الإنحراف، عن خطّ الإيمان بالله تعالى. -- المذاهب الأخلاقيّة مثلها مِثلُ سائر المناهج الفردية الإجتماعية، فهي تستمد اُصولها من النّظرة الكليّة لمفهوم العالم، وهذان المفهومان: "الأخلاق والنظرة الكونية"، منسجمان و مرتبطان مع بعضهما بصورة وثيقة جدّاً، فالّذين يفصلون: "معرفة العالم"، النظريّة عن 1. سورة الأنعام، الآية 153. [ 48 ] الأخلاق والأوامر والنواهي الأخلاقية للعقل العملي، وينكرون أية علاقة بينهما، إنطلاقاً من أنّ معرفة العالم و الكائنات الطبيعيّة تعتمد على الدلائل المنطقيّة و التجربيّة، والحال أنّ "الأوامر" و "النّواهي" الأخلاقية، هي سلسلة من القضايا تحكم السّلوك، فهؤلاء أغفلوا نقطةً مهمةً، ألا وهي أنّ الأوامر الأخلاقيّة تصبح حكيمةً، إذا ما كوّنت لها علاقةً بالعالم الخارجي، و إلاّ فستكون اُموراً اعتباريةً فارغةً و غير مقبولة، ويوجد هنا أمثلةٌ واضحةٌ تبيّن المطلب بصورة جيّدة: عندما يُصدر الإسلام حكماً بـ : "حرمة شرب الخمر"، أو في القوانين الدوليّة: حول "خطر المخدرات"، فهذه أوامر إلهيّة أو بشريّة إستمدت اُصولها من سلسلة الكائنات الواقعيّة، لأنّ الحقيقة المحضة; أنّ الشّراب و المخدّرات لها أثر تخريبي خطر على روح وجسم الإنسان، فلا يسلم من تأثير هذه المواد الضّارة و المدمّرة أيّ إنسان، وهذه الحقيقة هي سبب لذلك (الأمر)، و (النّهي). وعندما نقول أنّ الأحكام الإلهيّة ناشئة من المصالح و المفاسد; فإنّنا بالضّبط نستوحي ذلك من خلال القاعدة التي تقول: "كلّما حكم به العقل حكم به الشّرع"، وهي أيضاً تُقرر وجود علاقة وثيقة بين الواقع والأحكام: (الأوامر و النّواهي). فما يُشرّع من قوانين في المجالس التّشريعيّة البشريّة، و دراسة عواقبها الفرديّة و الإجتماعيّة و وضع القوانين على أساسها، يصب في نفس ذلك المصب بالضّبط. وخلاصة القول: أنّه من الُمحال على الحكيم أن يصدر حكماً بعيداً عن الواقعيات في حياة البشر، وإلاّ فلن يكون قانوناً بل هو لَغو في لَغو، ولأنّ الواقع هو واحد لا أكثر، فمن الطّبيعي أن يكون الطريق الصّحيح و المستقيم والقانون الأمثل واحد لا غير، ممّا يدعونا للسّعي الحثيث لإصابة الحق والواقع والأحكام والقوانين التي نشأت عنها. إن ما ذُكر آنفاً يبيّن علاقة النّظريات الكليّة، في مجموعة الوجود وخلق الإنسان بالمسائل الأخلاقيّة، ومن هنا فإنّ نشوء المذاهب الأخلاقيّة و تنوعها، يكمن في هذا السبب بالذات. و بالنّظر إلى ما ذُكر أعلاه، نستعرض الآن المذاهب الأخلاقية: [ 49 ] 1 ـ الأخلاق في مدرسة الموحّدين: هؤلاء يذهبون إلى أنّ الله تعالى خالق الكائنات كلّها، فنحن منه ونعود إليه. والهدف من خلق الإنسان، هو التّكامل في الجوانب المعنويّة و الروحيّة، و مادام التقدم المادي و التّطور الحضاري للبشرية، يتحرك في خطّ التكامل المعنوي، فهو يُعتبر هدفاً معنويّاً أيضاً. ويمكن تعريف التّكامل المعنوي بأنّه: "القرب من الله تعالى، والسّير على الطّريق الذي يقرّب الإنسان لصفات الكمال الإلهيّة". و إعتماداً على هذا المعيار، فإنّ الأخلاق من وجهه نظر هذا المذهب، هي كلّ صفات الأفعال التي تساعد الإنسان في سيره على هذا الطريق، و التّقييم الأخلاقي في هذا المذهب، يدور حول القِيَم و المُثل و الكَمالات الرّوحية و المعنويّة و القُرب من الله تعالى. 2 ـ الأخلاق المادية: من المعلوم أنّ المادّيين لهم مذاهب متعددّة، و المعروف منها الشيوعيّة، حيث يرون كلّ شيء من خلال منظار المادّة، ولا يؤمنون بالله والمسائل الروحيّة و المعنويّة، ويقولون بأصالة الإقتصاد، و يعطون للتأريخ ماهيّةً ماديّةً و إقتصاديةً، فكلّ شيء يؤدي إلى تقوية الإقتصاد الشّيوعي في المجتمع، فانّه يعتبر من الأخلاق أو على حد تعبيرهم: "كلّ شيء يعجّل في الثورة الشيوعيّة، فهو الأخلاق"، فمثلاً المعيار الأخلاقي للكَذب و الصّدق، يقاس بمدى تأثير ذلك السّلوك الأخلاقي على الثّورة، فإذا أدّى الكذب إلى التسّريع بالثورة فهو أمر أخلاقي، وإذا أضرّ الصّدق بالثّورة، فهو أمر غير أخلاقي! و المذاهب الماديّة الاُخرى كذلك، فكلّ مذهب يُفسّر الأخلاق حسب ما يرتئيه مسلكه، فالّذين يقولون بأصالة اللّذة، و الإستفادة من اللذائذ الماديّة، لا يوجد شيء عندهم بإسم الأخلاق، أو بالأحرى أنّ الأخلاق عندهم، هي الصّفات و الأفعال الّتي تمهد الطّريق للوصول إلى اللذّة. وأمّا الّذين أعطوا الأصالة للفرد والمصالح الشخصيّة، والمجتمع محترم عندهم مادام [ 50 ] منسجماً مع منافع الفرد الشّخصية، (كما هو الحال في المذاهب الغربية الرأسمالية)، فهم يفسّرون الأخلاق بالاُمور التي توصلهم إلى مصالحهم الماديّة و الشخصيّة، و يضحّون بكلّ شيء لأجل هذه الغاية. 3 ـ الأخلاق من وجهة نظر الفلاسفة العقليّين: أمّا الفلاسفة الذين يقولون بأصالة العقل، ويذهبون إلى أنّ غاية الفلسفة هي: (صَيرورة الإنسان عالماً عقليّاً مضاهياً للعالم العيني)، ففي مجال الأخلاق، يفسّرون الأخلاق بالصّفات و الأعمال التي تساعد الإنسان على تحكيم العقل، و سيطرته على القوى و النّوازع البدنية، بعيداً عن الخضوع للشّهوات و الطّبائع الحيوانيّة، و الأهواء النّفسية في حركة الحياة. ا ص51 - ص67 4 ـ الأخلاق في مذهب محوريّة الغير: جماعة اُخرى من الفلاسفة أعطت الأصاله للمجتمع، وقالوا أنّ الأصالة للجماعة لا للفرد، فهم يفسّرون الأخلاق بالأفعال التي يكون الغير فيها هو الهدف، وكلّ فعل يعود بالنّفع للإنسان نفسه، فهو فعل غير أخلاقي، والأفعال التي يكون محورها نفع الغير تكون أخلاقيّة. 5 ـ الأخلاق في المذهب الوجداني: قسم من الفلاسفة قالوا بأصالة الوجدان لا العقل، ويمكن تسميتهم بـ :"الوجدانيّين"، أو بمؤيّدي: "الحسن والقبح العقلي"، و قصدهم من ذلك العقل العملي لا النّظري، فالأخلاق عندهم عبارةٌ عن سلسلة من الاُمور الوجدانيّة غير البرهانيّة، أي أنّها تُدرك بدون حاجة إلى منطق و استدلال، فمثلاً الإنسان يدرك أنّ العدل حسنٌ، و الظّلم قبيحٌ، و يُشخّص أنّ الإيثار و الشّجاعة أمران جيّدان، الأنانيّة و الظّلم و البخل اُمورٌ قبيحةٌ، و لا يحتاج في إدراك هذا المعنى، إلى إستدلال عقلي من خلال دراسة تأثير هذه الأفعال و السّلوكيات في واقع الفرد والمجتمع. وعليه يجب أن نتحرك من موقع تقوية الوجدان الأخلاقي في الإنسان، و نُزيل من الطّريق كلّ ما يُضعف الوجدان، وبعدها سنرى أنّ الوجدان قاض و حاكمُ جيّدٌ لتشخيص الأخلاق [ 51 ] الحسنة من القبيحة. المؤيدون: "للحُسن و القُبحِ العقليين"، رغم أنّهم يتكلّمون دائماً عن العقل، ولكن ومن الواضح أنّهم يقصَدون العقل الوجداني، لا العقل الإستدلالي، فهم يقولون إنّ حُسن الإحسان، و قبح الظّلم في الدائرة الأخلاقيّة لا يحتاج فيهما إلى دليل وبرهان، فالإنسان السّليم النّفس يعيش هذه المفاهيم الأخلاقية، من موقع الوضوح في الرؤيّة والبداهة، وعلى هذا فإنّهم يقولون بالأصالة للوجدان في دائرة الأخلاق. ولكن الكثير منهم لا ينكرون سكوت الوجدان عن بعض الاُمور، و عدم إدراكه لها، وهنا يجب الإستعانة بالشّريعة والوحي لفصل الاُمور الأخلاقية عن غيرها، وبالإضافة إلى ذلك، إذا ورد تأييد من الشّرع لما حكم به العقل، فإنّ ذلك سيكون عاملاً مهماً في ترسيخ هذه المفاهيم في عالم الوجدان، و ترجمتها على مستوى الممارسة والعمل. -- النّتيجة: بعد الإشارة إلى أهمّ المذاهب الأخلاقية في هذا الفصل، تتبيّن خصوصيات المذهب الأخلاقي للإسلام بصورة كاملة، حيث يرى أنّ: (أساس هذا المذهب الأخلاقي، هو الإيمان بربوبيّة الله تعالى، الذي هو الكمال المطلق و مُطلق الكمال و أوامره ساريةٌ و جاريةٌ على جميع العالم، وكمال الإنسان في تطبيق صفاته الجلالية و الجماليّة، و القرب من الله تعالى أكثر فأكثر). وهذا لا يعني أنّه لا أثر للصفات الأخلاقية في إنقاذ الإنسان والمجتمع البشري، من عناصر الشّر وقوى الإنحراف، ولكن وفي نظرة إسلاميّة عالميّة صحيحة، أنّ العالم عبارةٌ عن وحدة متماسكة، وأنّ واجب الوجود هو قُطب هذه الدائرة، و ما عداه مُتّصل به و مُعتمد عليه، و في الوقت نفسه هناك علاقة و إنسجام تام بين المخلوقات، فكلّ شيء يساعد على إصلاح المجتمع البشري وتطهيره من البؤر وأشكال الخلل الأخلاقي، فسيكون عاملاً مؤثراً في [ 52 ] إصلاح الفرد في دائرة السّلوك الأخلاقي، وبالعكس. وبعبارة اُخرى: إنّ القيم الأخلاقيّة لها إزدواجيّة في التأثير، فتصنع الفرد والمجتمع على السّواء، و الذين يتصورون أنّ المسائل الأخلاقيّة هدفها الغير وليس النّفس على أشتباه كبير، لأنّ مصلحة الإثنين في الواقع واحدةٌ، لا تتجزّأ إلاّ في مراحل مقطعيّة محدودة وقصيرة، و قد تقدّم الحديث عن هذا المفهوم، و سيأتي في المستقبل إن شاء الله تعالى. -- ملاحظات: 1 ـ الأخلاق والنسبيّة هل أنّ الأخلاق الحسنة و القبيحة، و الرّذائل و الفضائل، جيدةٌ أو قبيحةٌ ذات أبعاد مطلقةٌ في كلّ مكان وزمان، أم أنّ هذه الصفات نسبيّة; فربّما تكون في مكان وزمان آخر جيدة أو سيئة؟ الذين يقولون أنّ الأخلاق نسبيّة ينقسمون إلى قسمين: الفئة الاُولى: هم الّذين يقولون بنسبيّة عالم الوجود كلّه، فإذا كان الوجود والعدم نِسبّيان، فإنّ الأخلاق تدخل في هذه الدائرة أيضاً. الفئة الثانية: هم الذين لا يرون أنّ هناك علاقةُ بين عالم الوجود وبين الأخلاق، فالمعيار عندهم لمعرفة الأخلاق الجيّدة من غيرها هو المجتمع، و قبوله وعدم قبوله لها، وهذا يعني أنّ الشّجاعة ربّما تكون فضيلة عند مجتمع، في ما لو كانت مقبولةٌ، و قد تكون نفس تلك الفضيلة رذيلة في مجتمع آخر. وهذه الفئة، لا تعتقد بالحُسن و القُبح الذاتي للأفعال أيضاً، والمعيار هو قبول وعدم قبول المجتمع لها. وقد رأينا في البحث السّابق، أنّ المسائل الأخلاقيّة تعتمد على معايير للقياس، تكون وليدة النّظرات الكونيّة، فالمذهب الذي يعتبر المجتمع هو الأصل والأساس لقبول الاُمور، و [ 53 ] بشكلها المادي، فان أفراده لا وسيلة لهم إلاّ القبول بنسبيّة الأخلاق، لأنّ المجتمع البشري يكون دائماً في حالة تغيّر وتحوّل، وعلى هذا فليس من العجيب في أمر هذه الجماعة أنّهم جعلوا الرأي العام للمجتمع، هو المرجع لتشخيص الحَسن و القَبيح من الأخلاق. و نتيجةُ مثل هذه العقيدة، معلومةٌ و واضحةٌ قبل أن تظهر للوجود; لأنّها تُسبب في تبعيّة القيم الأخلاقية للمجتمعات البشريّة، و التّوافق مع الظّروف ومتغيرات وأحوال ذلك المجتمع، والحال أنّ المجتمع هو الذي يجب أن يتبع الاُصول الأخلاقيّة: لِتُصلح مفاسده. فمن وجهة نظر هذه الجماعة، أنّ وأد البنات و هنّ أحياء، في زمن المجتمع الجاهلي العربي القديم، هو أمر أخلاقي، وكذلك الغارات التي كانت تشنّها القبائل على بعضها البعض، و تعتبر عندهم من المفاخر، و لأجلها كانوا يُحبّون الأولاد ويقدّرونهم، حتى يكبروا و يحملوا السّلاح ليحاربوا مع آبائهم، فهي أيضاً أمر أخلاقي، وكذلك الجنسيّة المثليّة المتفشيّة في الغرب، تُعتبر من وجهة نظرهم أمراً أخلاقيّاً؟! فالعواقب الخطيرة التي تحملها أفكار هذه المذاهب في حركة الواقع الإجتماعي، لا تخفى على عاقل طبعاً. ولكن في الإسلام، فإن المعيار الأخلاقي و الفضائل و الرّذائل، تُعيّن من قبل الباري تعالى، وذاته ثابتةٌ لا تتغير، فالمُثل و القِيم الأخلاقيّة ستكون ثابتةً و لا تتغير، ويجب أن تكونَ هي القاعدةُ الأصلُ للأفراد والمجتمع في سلوكهم الأخلاقي، لا أن تكون الأخلاق تابعةٌ لرغبات و مُيول المجتمع. الموحدون يعتقدون أنّ الفطرة والوجدان الإنساني إذا لم تتلوث; فستبقى ثابتةً أيضاً، بإعتبارها تمثل النّور المنعكس عن الذّات المقدسة للباري تعالى، وعلى هذا فإنّ الأخلاقيّات تعتمد على الوجدان، و بعبارة اُخرى فإنّ القُبحَ و الحُسنَ العَقليان: (المقصود العقل العملي لا النّظري)، يثبتان أيضاً. الإسلام ينفي نسبيّة الأخلاق: طرح القرآن الكريم في آيات عديدة كلمة "الطيّب والخبيث" بصورة مطلقة، ولم يجعل [ 54 ] للمجتمعات البشرّية دور في صياغة القيم في هذا المجال، فنقرأ في الآية (100) من سورة المائدة: (قُل لا يَسْتَوي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَو أَعْجَبَكَ كَثرَةُ الخَبِيثِ ). وفي الآية (157) من سورة الأعراف في وضعها للرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): (وَيُحِلُّ لَهُم الطَّيِّباتِ وَيُحَرِمُ عَلِيهِم الخَبَائِثَ ). و في سورة البقرة الآية (243) يقول الله تعالى: (إنَّ اللهَ لَذُو فَضل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشكُرُونَ ). وفي الآية (103) من سورة يوسف(عليه السلام) يقول الله تعالى: (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصْتَ بِمُؤمِنينَ ). في هذه الآيات يُعتبر الإيمان و الطّهارة و الشّكر، من القيم والمُثل وإن كان أكثر الناس يخالفون ذلك، والكفر و الخُبث و كفران النعمة، تعتبر في مقابل القِيم، رغم أنّ الأكثريّة تتحرك في هذا الخط. وقد ذكر أميرالمؤمنين(عليه السلام)، هذا المعنى كثيراً في خُطَبِه في نهج البلاغة. و أنّ قبول و عدم قبول الأكثريّة لُخلق أو عمل ما، لا يكون مِعياراً للفضيلة و الرّذيلة و كذلك الحُسن و القُبح. فقال الإمام(عليه السلام) في خطبة: "يا أَيّها النّاسُ لا تَستَوحِشُوا في طَرِيقِ الهُدى لِقِلَّةِ أَهلِهِ فإنَّ النّاسَ قَد إِجتَمَعُوا عَلى مائِدة شِبَعِها قَصِيرٌ وَجُوعِها طَوِيلٌ".(1) وقال في خطبة اُخرى: "حَقٌّ وَ باطِلٌ، وَلِكلٍّ أهلِ; فَلإن أمِرَ الباطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ وَ لإن قَلَّ الحَقُّ فَلَرُبَّما وَلَعَلّ"(2). فكلّ هذه النّصوص الإسلاميّة تنفي النسبيّة في الأخلاق، و لا تعتبر قبول الأكثريّة في المجتمع معياراً لها. ويوجد في القرآن الكريم والروايات الإسلاميّة، شواهد كثيرة على هذه المسألة، لو جمعت لبلغت كتاباً كبيراً. 1. نهج البلاغة، الخطبة 1 و 2. 2. نهج البلاغة، الخطبة 16. [ 55 ] سؤال: وهنا سؤال يفرض نفسه وهو: إنّ النسبيّة في الأخلاق قد تكون مقبولةً في بعض الموارد في الشّرائع السّماويّة، (و خُصوصاً الإسلام); فمثلا يعتبر الكذب ضد القيم والمُثل وعملا غير أخلاقي، لكنّ الكذب لغرض الإصلاح بين الناس أو في مقام المشورة، يعتبر عملا أخلاقيّاً، وهذه المسألة ليست بقليلة الموارد في التعاليم الإسلامية، فيعتبر هذا نوعاً من قبول النسبيّة للأخلاق. الجواب: إنّ نسبيّة الأخلاق و الحُسن و القُبح مطلبٌ، و الإستثناء مطلب آخر. و بعبارة اُخرى: لا يوجد أصل ثابت في النسبيّة، فالكذب لا هو حسن ولا هو قبيح، وكذلك العدل والإحسان أو الظّلم و الطّغيان، فحُسنها و قُبحها لا يتبيّن للإنسان إلاّ إذا قبلتها الأكثريّة من موقع القيم أو رفضتها كذلك. ولكن في الإسلام والتعاليم السّماوية، فالكذب و الظّلم والبخل و الحسد و الحقد، كلّها تعتبر ضد القيم و المُثل، سواء قبلتها أكثريّة الناس أم لا، وبالعكس، فالإحسان والعدالة والصّدق و الأمانة، قيم و مُثل رفيعةٌ سواء قبلها المجتمع، أم لا. فهذا هو الأصل الكلّي للمسألة، و لا مانع من وجود الإستثناء له، فالأصل كما هو واضحٌ من إسمه أساس وجذر الشيء، و الإستثناء بمنزلة بعض الفروع والأوراق الزّائدة، ووجود بعض الإستثناءات في كلّ قاعدة لا يمكن أن يكون دليلا على نسبيّتها، فإذا تجلّى لنا هذا الفرق بين هذين الإثنين، أمكننا تجنّب الوقوع في كثير من الأخطاء. ويجب الإلتفات أيضاً الى أنّ الموضوعات يمكن أن تتغيّر بمرور الزّمان أيضاً، فالأحكام التابعة للموضوعات تتغيّر أيضاً، وهذا الأمر لا يمكن أن يُعتبر دليلا على النسبيّة. بيان ذلك: إنّ لكلّ حكم موضوعه الخاص; العدوان على الآخرين يعتبر جنايةً قابلةً للقصاص و التّعقيب، ولكن يمكن أن يتغيّر الموضوع، في يد الطّبيب والجرّاح الذي يمسك [ 56 ] المِبضع لينقذ حياة المرضى، فيفتح بمشرطه القلب ويخرج الغدد الخبيثة، فالموضوع يتغيّر هنا، فلا يمثّل هذا العمل جناية، بل يستحق عمله التّقدير و الجائزة. فلا يمكن لأحد أن يعتبر تغيّر الأحكام والموضوعات دليلا على النسبيّة، والنسبيّة تقوم على أساس تبدّل الأحكام، بالرّغم من عدم تحوّل وتغيّر الموضوع الماهَوي، والموضوعي بالنسبة للأشخاص أو الأزمان المختلفة. وأحكام الشّرع كذلك، فالخمر حرام ونجس، ولكن من الممكن وبعد مرور عدّة أيّام، أو بإضافة مادّة ما يمكن تحويله إلى خلّ طاهر محللّ، فلا يمكن لأحد أن يعتبر هذه من نسبيّة الأحكام، والنسبيّة هنا أن يكون الخمر حلال عند مُستحلّيه وحرامٌ عند مانعيه، من دون أن يتغيّر شيء في ماهيّة الخمر. في المسائل الأخلاقيّة أيضاً، يمكن أن نصادف موضوعات، تكون للوهلة الأولى من الفضائل، ولكن و بالتّحول في دائرة الموضوع، يمكن أن تتغيّر إلى رذيلة; فعدم الخوف مثلا وإلى حد الإعتدال يُعتبر شجاعة وفضيلةٌ، ولكن إذا تعدّى الحدود، فيكون تهوّراً ويدخل في حيّز الرّذائل. وكذلك في الاُمور الاُخرى التي تُشابهها، فالكذب يعتبر منشأ للمفاسد الكثيرة، وسبباً لزوال الثّقة بين النّاس، ولكن إذا كان لغرض الإصلاح بين الناس، فهو حلالٌ و فضيلةٌ. و يمكن أن يعتبر البعض، هذه الاُمور والتغيّرات في المواضيع من النسبيّة، ولا نزاع فيما بيننا في التّسمية، ومثل هذا النزاع يعتبر لفظيّاً، لأنّه مثل هذه الموارد تعتبر من قبيل التغيّر في الموضوع و الماهيّة، وإذا كان قصد أصحاب النسبيّة هذا، فلا بأس، ولكنّ المشكلة في أن يكون المعيار: للفضيلة و الرّذيلة و الحُسن و القُبح الأخلاقيين، هو قبول أكثريّة المجتمع. و من مجموع ما تقدم، نستنتج أنّ نسبيّة الأخلاق مردودة، من وجهة نظر الإسلام والقرآن والمنطق والعقل، وطرح مسألة النسبيّة تلك تُعتبر أو تُساوي عدم الأخلاق، لأنّه وطبقاً للنظريّة النسبيّة للأخلاق، فإنّ كلّ رذيلة إنتشرت في المجتمع فهي فضيلةٌ، و كلّ مرض أخلاقي تفشّى بين الناس; فهو صحّةٌ و سلامةٌ، و بدلاً من أن تكون الأخلاق عاملاً لرقيّ المجتمع في خطّ [ 57 ] التّكامل الحضاري، فستتحول إلى عامل لنشر الفساد والإنحطاط. -- 2 ـ التّأثير المتقابل بين (الأخلاق و(السّلوك) علاقة الأخلاق والعمل، وتأثير الأخلاق في السّلوك أمر لا يخفى على أحد، لأنّ الأعمال عادةً تنبع من الصّفات الداخليّة في النّفس الإنسانية، فالشّخص الذي تسيطر حالة البخل والحسد و الكِبَر على قلبه و فكره و روحه، فمن الطّبيعي أن تكون أعماله على نفس الشّاكلة، فالحسود يتحرك في أعماله دائماً من موضع هذه الخصلة الذميمة، التي هي كالشّعلة المتّقدة في روحه، تسلب الرّاحة منه، وكذلك الأفراد المتكبرين، مشيتهم وكلامهم و قيامهم و قعودهم، كلّها تعطي حالة الغرور فيهم، و تشير إلى روح التَّكبر في نفوسهم، و هذا الحكم يشمل الصفات، و الأخلاقيّة الصّالحة والطالحة على السّواء. و لأجل ذلك، يعتبر بعض المحقّقين مثل هذه الأعمال، أعمالاً أخلاقية، يعني أعمال تنشأ من الأخلاق الصّالحة و الطّالحة بصورة بحتة، وفي مقابل الأعمال التي تصدر أحياناً من الإنسان، تحت تأثير الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، و الإرشاد و النّصح مثلاً، من دون أن يكون لها جذر أخلاقي، وطبعاً مثل هذه الأعمال تعتبر أقلّ بالنسبة للأعمال الأخلاقيّة. و هنا يمكن أن نستنتج، أنّه ولأجل إصلاح المجتمع وإصلاح أعمال الناس، يتوجب علينا إصلاح جذور الأعمال الأخلاقيّة، لأنّ أغلب الأعمال تعتمد على الجذور الأخلاقيّة، وعلى هذا كان أكثر سعي الأنبياء(عليهم السلام) والمصلحين الإجتماعيين الإسلاميين، يصبّ في هذا السبيل، لأنّه و بالتّربية الصّحيحة، تنمو وتتبلور الفضائل الأخلاقيّة في كلّ فرد من أفراد المجتمع، و تصل الرذائل إلى أدنى الحدود، وبذلك يمكن إصلاح الأعمال التي تترشح من الصّفات الأخلاقيّة، و الإشارة في بعض الآيات القرآنية إلى "التّزكية"، تصبّ في هذا المصب أيضاً، هذا من جهة: و من جهة اُخرى، أنّ التّكرار لفعل ما يمكن أن يكون له الأثر في تكوين الأخلاق، لأنّ كلّ [ 58 ] فعل يفعله الإنسان سيؤثر في روحه و نفسه، و سيعمِّق ذلك الأثر حتى يصبح عادةً، وإذا تكرّر بصورة أكبر فسيتعدّى مرحلة العادة، و يتبدّل إلى "مَلَكة" و "حالة"، تدخل في الخصوصيّات الأخلاقيّة للإنسان. و على ذلك، فإنّ العمل والأخلاق لهما تأثيرٌ مُتقابل، ويمكن أن يكون أحدهما سبباً للآخر. ولهذه المسألة شواهدٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم منها: 1 ـ في الآية (14) من سورة "المطفّفين"، وبعد الإشارة إلى الصفات القبيحة لطائفة من أهل النار، و المعذبين، قال الله تعالى: (كَلاّ بَل رانَ عَلى قُلُوبِهِم ما كَانُوا يَكْسِبُونَ ). وهذه الآية دليلٌ على أنّ الأعمال القبيحة تجثم على القلب، كما يجثم الصّدأ على الحديد، و تُزيل النّور و الصّفاء الفطري الدّاخلي للإنسان و تُطفئهُ، وتصوغه بقالبها. 2 - في الآية (81) من سورة البقرة قال الله تعالى: (بَلى مَن كَسَبَ سَيّئةً وَأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَاُولئِكَ أصحابِ النّارِ هُم فِيها خالِدُونَ ). والقصد من الإحاطة للخطيئة، هو تراكم إفرازات الخطيئة في نفس الإنسان حتى تصل النّفس إلى مرحلة الختم، و الطّبع، و تتطبّع بالذنوب، فلا يُفيد فيها النّصح و الموعظة و لا الإرشاد، و كأنّه قد تغيّرت ماهيّة ذلك الإنسان، و صفاته الإخلاقية في واقعه النفسي، بل و بالإصرار على الذّنوب، فإن المعتقدات الدينيّة للفرد ستطالها يد التّغيير أيضاً. كما وأشارت الآية (7) من سورة البقرة الواردة في بعض الكفار المعاندين، إلى هذا المعنى أيضاً، حيث تقول: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم وَعَلَى سَمعِهِم وَعَلى أَبصارِهِم غِشاوةٌ وَلَهُم عَذابٌ عَظِيمٌ ). ومن الواضح أنّ الباري تعالى شأنه: لا يتعامل مع أحد من الناس من موقع العداوة و الخُصومة، ولكنّ الواقع أنّ آثار أعمال الناس هي التي تضع الحُجب والحواجز على الحواسّ، فلا تُدرك الحقيقة، (و نسبة هذه الاُمور للباري تعالى، إنّما هو لأجل أنّ الله تعالى هو مُسبّب الأسباب و كلّ شيء إنّما يصدر عن ذاته المقدّسة). و في الآية (10) من سورة "الرّوم" يتعدى ذلك و يقول الله تعالى: إنّ الأفعال السيّئة تغيّر [ 59 ] عقيدة الإنسان و تُؤدي به إلى الحضيض: (ثُمَّ كَانَ عـاقِبَةُ الَّذِينَ أساءوا السُّوأى أنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَ كَانُوا بِهايَستهزءُونَ ). و منها يتبيّن أنّ الأعمال و الصّفات القبيحة وإرتكاب الذنوب، إذا ما أصرّ و إستمرّ عليها الإنسان، ستمتد إلى أعماق نفس الإنسان، و لا تؤثّر على أخلاقه فحسب، بل تقلب عقائده رأساً على عقب أيضاً. و نقرأ في آية اُخرى من القرآن الكريم: أنّ الإصرار على الذنب وتكراره وسوء العمل، يُميت عند الإنسان حسّ الّتمييز و التّشخيص، بحيث يرى الحسن قبيحاً والقبيح حَسناً، فنقرأ في الآية (103 و 104) من سورة الكهف حيث تقول: (هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخسَرِينَ أَعمالا الّذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَياةِ الدُّنيـا وَهُم يَحْسِبُونَ أَنّهُم يُحْسِنُونَ صُنعاً ). 3 - و في آية اُخرى يصرح القرآن الكريم بأن الإصرار على الكذب و خُلف الوعد مع الله سبحانه، سيورث الإنسان صفة النّفاق في قلبه، فيقول الله تعالى: (فأَعقَبَهُم نِفاقاً فِي قُلُوبِهِم إلى يَومِ يَلقَونَهُ بِمـا أَخلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كَانُوا يَكذِبُونَ ). ويعلم القاري الكريم أنّ (يكذَّبون ): هو فعل مضارع ويدل على الإستمرار، حيث يُبيّن تأثير هذا العمل السّيء و هو الكذب في ظهور روح النّفاق; لأننا نعلم أنّ الكذب و خاصّةً في لباس الإنسان الصادق، ليس هو إلاّ إختلاف الظّاهر و البّاطن، و النّفاق الباطني هو تبديل هذه الحالة إلى ملكة. التّأثير المتقابل للأخلاق والعمل في الأحاديث الإسلاميّة: الحقيقة أنّ الأعمال الصالحة والطالحة تؤثر في روح الإنسان وتبلورها، وتحكّم الخلق السيّ، و الحسن فيها، ولهذا الأمر صدىً واسعاً في الأحاديث الإسلاميّة، ونذكر منها هذه الأحاديث الثلاثة الآتية: 1 ـ نقرأ في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): كان أبي يقول: "ما مِن شيء أفسدُ لِلقلَبِ مِن [ 60 ] خَطيئة، إنّ القَلبَ ليُواقِع الخَطِيئةَ فَما تَزالُ بِهِ حتّى تَغلِبَ عَلَيهِ فَيَصِيرَ أعلاهُ أسفَلَهُ"(1). طبعاً هذا الحديث، أكثر ما ينظر إلى تحول وتغيّر الأفكار و تأثّرها بالذنّوب، ولكن و بصورة كليّة، فهو يبيّن تأثير الذّنوب في تغيير روح الإنسان. 2 ـ في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام): "إذا أذنَبَ الرّجلُ خَرَجَ في قَلبِهِ نُكتَةٌ سَوداءٌ، فإنْ تَابَ إنمَحَتْ وَإنْ زَادَ زادَتْ، حتّى تَغلِبَ عَلى قَلبِهِ، فَلا يَفلِحُ بَعدَها أبداً"(2). ولأجل ذلك نبّهت الأحاديث الإسلاميّة على خطورة الإصرار على الذّنب، و أنّ الإصرار على الذّنوب الصّغيرة يتحول إلى الكبائر(3). وجاء هذا المعنى في الحديث المعروف، عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا(عليه السلام)، في معرض جوابه للمأمون، و فيه تبيان كُلّي حول مسائل الحلال و الحرام، و الفرائض والسّنن، فمن المسائل التي أكّد عليها الإمام(عليه السلام)، هو أنّه جعل الأصرار على الذّنب، من الذّنوب الكبيرة(4). 3 - جاء في كتاب (الخصال)، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "أربعُ خِصال يُمِتْنَ القَلبَ: الذَّنبُ عَلَى الذَّنبِ...".(5) وجاء مُشابه لهذا المعنى في تفسير "الدُّر المنثور"(6). هذه التّعبيرات توضّح جيّداً أنّ تكرار عمل ما، له تأثير في قلب و روح الإنسان بصورة قطعية، و يصبح مصدراً لتكوين الصّفات: الرّذيلة والقبيحة، ولأجل ذلك جاءت الأوامر للمؤمن إذا ما أذنب وأخطأ، بالتّوبة السّريعة، ليمحي آثارها من القلب، ولئلاّ تصبح عنده على شكل "حالة" و "مَلكة" و صفة باطنيّة، فجاء في الأحاديث الشّريفة، أنّه يتوجب على الإنسان أن يجلو الصّدأ من على قلبه، كما نقرأ في الحديث عن الرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله): 1. أصول الكافي، ج 12، بابّ الذّنوب، ح 1 ص 268. 2. المصدر السابق، ج13، ص271. 3. بحار الأنوار، ج1، 351. 4. المصدر الساق، ص366. 5. الخصال، ج1، ص252. 6. الدر المنثور، ج6، ص326. [ 61 ] "إنّ القُلُوبَ لَتَرِينُ كَما يَرِينُ السّيفُ، وَ جَلاؤها الحَدِيثُ"(1). 3 ـ الأخلاق الفرديّة و الإجتماعيّة المسألة الاُخرى الّتي يتوجب ذكرها هُنا هي: هل أنّ المسائل الأخلاقيّة تتشكل من خلال علاقة النّاس بالآخرين، بحيث أنّ الإنسان إذا ما عاش وحيداً فريداً لا يكون لديه مفهوم حول الأخلاق، أو أنّ بعض المفاهيم الأخلاقيّة لها موارد في سلوك الإنسان حتى لو عاش لِوَحده، بالرّغم من أنّ أعظم المسائل الأخلاقيّة، تتجلى أكثر في عمليّة علاقة الأشخاص مع بعضهم البعض، ولهذا يمكن تقسيم الأخلاق إلى قسمين: فرديّة و إجتماعيّة؟. للجواب عن هذا السّؤال، يجب أن نلفت أنظاركم، إلى البحث الذي جاء في كتاب "زندگى در پرتو أخلاق"، "الحياة على ضوء الاخلاق" و سنورده بالكامل هنا: (يعتقد البعض أنّ كلّ الاُسس الأخلاقية، تعود إلى العلاقات الإجتماعية مع الآخرين، فلو إنعدم المجتمع وعاش الإنسان وحيداً فريداً، أو أنّ كلّ إنسان عاش مستقلاّ عن الآخر، لا يعرف عنه شيء، فلن يكون هناك مفهوم للأخلاق أصلا!، لأنّ الحسد و التّواضع والكِبَر، و حُسن الظّن، والعدالة والجَور والعفّة والكَرم، كلّها من المسائل الّتي لا يتجلى مفهومها إلاّ بوجود المجتمع خاصّة، وتعامل النّاس مع بعضهم البعض، وبناءاً على هذا، فإنّ الإنسان بدون المجتمع، يساوي الإنسان من دون أخلاق). (ولكن بعقيدتنا، وعلى الرّغم من الإعتراف، بأنّ كثيراً من الفضائل والرّذائل الأخلاقيّة، لها علاقة مباشرة بالحياة الإجتماعية، ولكنّها ليست بصورة مطلقة، فكثيرٌ من الأخلاق لها جوانب فردية، و تصدق على الإنسان الوحيد بصورة خاصة، فمثلا الصّبر والجزع، والشّجاعة والخوف، والمشاجرة والكسل، وأمثال ذلك من الحالات والصّفات النّفسية التي تفرضها حالات الصّراع مع الطّبيعة، وكذلك الغفلة والشّعور تّجاه الخالق الكريم، و الشّكر والكفران لنعمه التي لا تُحصى، وما شابه تلك الاُمور، الّتي بحثها علماء الأخلاق في كتبهم، وعدّوها من 1. تفسير نور الثقلين، ج5، ص531، ح23. [ 62 ] الفضائل أو الرّذائل، فكلّ تلك الاُمور يمكن أن تدخل في الإطار الفردي للسّلوك، وتصدق على الإنسان المعزول عن المجتمع ومن هنا يتبيّن أنّ الأخلاق على قسمين: "أخلاقٌ فرديّةٌ" و"أخلاقٌ إجتماعيّةٌ". و من المعلوم أنّ الأخلاق الإجتماعيّة، التي لها الثّقل الأكبر في علم الأخلاق، وصياغة شخصيّة الإنسان: تدور حول هذا المحور، وإن كنّا لا ننسى أيضاً أنّ الأخلاق الفرديّة لها وزنها، و وضعها الخاص بها)(1). ولا شكَّ أنّ هذا التّقسيم، لا يقلّل من قيمة المسائل الأخلاقيّة، ولكنّه يُقسّم المباحث الأخلاقيّة إلى درجات من حيث الأهميّة، ولا داعي لإتلاف الوقت في معرفة وتمييز الأخلاق، هل أنّها فردية أم إجتماعية، وما أشرنا إليه آنفاً، يكفي للإحاطة بمعرفة إجماليّة حول هذا الموضوع. ولا يمكن اِنكار أنّ الأخلاق الفردية، لها تأثيرها غير المباشر في القضايا الإجتماعية أيضاً. -- 1. زندگى در پرتو أخلاق، ص29 - 31. [ 63 ] 4 / دعائم الأخلاق 4 دعائم الأخلاق إذا شبّهنا الأخلاق بشجرة باسقة مثمرة، معرضة للآفات والأخطارِ، فدعامتها الأخلاقيّة يمكن أن نُشبّهها بالفلاّح، أو الماء الذي يجري من تحتها، ولولا الماء والفلاّح ليَبِست تلك الشّجرة، أو لأصيبت بأنواع الآفات و الأمراض، حتى تموت أو يغدو ثمرها قليلاً. وقد إختلف علماء الأخلاق والفلاسفة، في صياغة الدّعائم الأساسيّة للأخلاق بشكل كبير، فكلُّ مجموعة تذكر آرائها و نظراتها حول المسألة، تبعاً لرأيها ونظرتها في مسألة معرفة العالم. و نشير هنا إلى عدّة نماذج مهمّة: 1 ـ دَعامة الإنتفاع يوصي البعض بالأخلاق، لأنّها تعود على الإنسان بالنّفع المادّي المباشر، فمثلا تُراعي إحدى المؤسّسات الإقتصادية، أصل الأمانة والصّدق بشكل دقيق جدّاً، وتعطي المعلومات الواقعيّة لزبائنها بدون أيِّ تلاعب، فمثل هذه المؤسّسة ستكون بعد سنوات، مورد ثقة النّاس و محل إعتمادهم، مما سيعود عليها بالنّفع الكبير الطّائل. وبناءً على ذلك، قد يتحرك الأشخاص في سلوكهم الأخلاقي، كلٌّ حسب موقعه. فمثلا عندما يكون موظّفاً في المصرف أو البنك، فهو يُراعي منتهى الأمانة والدّقة، لكي يعود على [ 64 ] البنك بالنّفع الكبير، ولكن يمكن أن يتحول إلى خائن، بمجرد أن يضع قدمه خارج المصرف، لاّنّ فائدته ستكون في الخيانة حينها. وقد نرى تاجراً، يحرص أن يكون في منتهى الأدب و اللّطف و اللّياقة مع زبائنه، لأجل كسب المزيد منهم، ولكنّه مع عائلته و أولاده، يكون في منتهى الفضاضة، لا لشيء إلاّ لأنّ الأخلاق الحسنة مَحلُّها في محلّ عمله، وستعود عليه بالنّفع المادي الأكثر. فمثل هذه الأخلاق لا دعامة لها، إلاّ النّفع و الإستغلال، وأهمّ عيب في المسألة، هو أنّه لا يعير للأخلاق أهميّةً ولا أصالةً، لأنّه يستمر في إستغلاله، سواءً كان عن طريق الأخلاق، أم بعقيدته التي هي ضدّ الأخلاق. وذهب البعض الآخر إلى صياغة حِكمة معدّلة لهذا النمّط من الأخلاق، و نادوا بالأخلاق لا من أجل المصالح الشّخصيّة، ولكن لتعود على مصلحة البشر جميعاً، لإعتقادهم بأنّ الأسس الأخلاقيّة إذا تزلزلت في المجتمع، فستتحول الحياة إلى جهنّم تحرق كلّ شيء، وستتحول أدوات الإلفة والتعاون في المجتمع، إلى حطب يُبقي النار مشتعلةً، في حركة الواقع الإجتماعي المضطرب. هذا النّوع من التّفكير يعتبر أرقى من سابقه، ولكنّ الأخلاق هنا مجرد وسيلة لجلب النّفع و الرّاحة و الرّفاه، ولا أساس للفضائل الأخلاقية فيها. فالماديّون لا يمكنهم أن يتجنبوا مثل هذا النوع من التّفكير، لأنّهم لا يعتقدون بالوَحي ولا نُبوّة الأنبياء، وينزلون بالأخلاق من السّماء إلى الأرض، و يجعلونها مُجرد وسيلة للإنتفاع والرّاحة والإستغلال لا أكثر. ولا شكَّ ولا ريب، في أنّ الأخلاق لها مثل هذه المعطيات الماديّة الإيجابية، في وعي الناس كما أشرنا سابقاً، و لكن السّؤال هو: هل أنّ أسس ودعائم الأخلاق، تنحصر في هذه المرتكزات الماديّة، أو أنّ مثل هذه المرتكزات والمعطيات، يجب أن تُدرس على أساس أنّها من المسائل الجانبيّة، و المتفرّعة على علم الأخلاق؟. و على أيّة حال، فإنّ الإيمان بالأخلاق الّتي يكون أساسها النّفع و الإستغلال، يخدش [ 65 ] أصالة الأخلاق، ويقلل من قيمتها وقدسيّتها، ومن ناحية اُخرى فإنّ الإنسان في حالة تقاطع مصلحته مع الأخلاق، فإنّه سيضرب بالأخلاق عَرض الحائط، و يتّبع مصلحته الشخصيّة، الّتي إعتبرها دعامته و أساسه، في حركة السّلوك الإجتماعي والأخلاقي. 2 - الدّعامة العقليّة الفلاسفة الّذين يعتقدون بحكومة العقل ولزوم اتّباعِه في كلّ شيء، يعتبرون دعامة الأخلاق هي إدراك العقل: للقبيح والحسن من الأفعال والصّفات الأخلاقيّة، فمثلا يقولون أنّ العقل يُدرك جيّداً أنّ الشّجاعة فضيلةٌ والجبنُ رذيلةٌ، و الأمانةُ و الصّدقُ فضيلةٌ وكمالٌ، و الخيانةُ و الكذبُ نقصانٌ، ونفس إدراك العقل لها، هو الباعث والمحرّك لإتّباع الفضائل وترك الرذائل. وقال البعض الآخر، إن إدراك الوجدان هو الأساس، فيقولون: أنّ الوجدان وهو العقل العملي، أهمّ شيء في الإنسان، لأنّ العقل النّظري يمكن أن يُخطيء، ولكن الوجدان و الضّمير ليس كذلك، وبإمكانه أن يقود البشريّة إلى ساحل الأمن والسّعادة. و عليه، و بما أنّ الوجدان يقول: إنّ الأمانة و الصّدق و الإيثار، و السّخاء، و الشّجاعة هي اُمور حسنةٌ وجيّدةٌ، فهو بمفرده يكون دافعاً و مُحرّكاً، نحو نيل تلك الأهداف والفضائل. وكذلك بالنّسبة للبُخل، والأنانيّة و أمثالها، فإنّ الوجدان يقول أنّها قبيحة، وذلك يكفي في الإرتداع عنها وتركها. وهنا تتحد الدّعامة العقلية و الوجدانيّة، فهما تعبيران مختلفان لحقيقة واحدة. و لا شكّ أنّ وجود هذا الأساس و الدّعامة للأخلاق، لا يخلو من حقيقة، و هو في حدّ ذاته دافعٌ حسنٌ للسّعي إلى تربية النّفوس، و ترشيد الفضائل الأخلاقية، في واقع الإنسان والمجتمع. ولكن و بالنّظر إلى ما ذكرناه في بحث الوجدان(1)، فإنّ الوجدان يمكن أن يُخدع، هذا من جهة، ومن جهة اُخرى: أنّ الوجدان و بالتّكرار لفعل القبائح و الرّذائل، فإنّه سيأنس بها 1. الرّجاء الرجوع إلى، كتاب قادة عظماء، ص: (63 - 106). [ 66 ] ويتعوّد عليها، بل قد يفقد الحسّاسيّة بالكامل تجّاه هذه الاُمور، أو يتحرك في إدراكه لها، من موقع التأييد للرذائل على حساب إهتزاز الفضائل. و من جهة ثالثة، إنّ الوجدان أو العقل العملي، رغم أهميّته و قداسته، فإنّه كالعقل النّظري قابل للخطأ، ولا يمكن الإعتماد عليه وحده، بل يحتاج إلى أُسس و دعامات أقوى، يُطمأن إليها في تشخيص الحُسن و القُبح، بحيث لا يمكن خُداعها و لا تخطئتها، ولا تتأثر بالتّكرار، و لا تتغيّر أو تتحول. وخلاصة الأمر: أنّ الوجدان الأخلاقي، أو العقل الفِطري والعقل العملي، أو أىّ تعبير آخر يُعبّر عنه، هو أساسٌ و دعامةٌ جيَّدة، و لا بأس بها لنيل الفضائل الأخلاقيّة، ولكن وكما أشرنا آنفاً، تعوزه بعض الأمور، و لا يُكتفى به وحده. 3 ـ دعامة الشخصيّة يتحلّى البعض بالقيم الأخلاقيّة، لأنّها دليلٌ و علامةٌ للشخصيّةِ أو الرجولةِ والمروءة، وكلّ إنسان عند ما يرى، أنّ شخصيّته بين النّاس متوقفةٌ على الصّدق والأمانة، فسيتحرك على مستوى التّحلي بها و مُراعاتها، وكذلك عندما يرى، أنّ الناس يحترمون الشّجاع و الوفي و الرّحيم، فسيكون طالب الشخصية و الإحترام، أوّل المطبّقين لها على نفسه، حتى يمدحهُ الناس. والعكس صحيح، فإنّه عندما يرى أنّ الناس لا يحترمون الجبان، و لا البخيل، و لا الخائن، و لا ضعيف الإرادة، ولا قيمة لهم في نظر المجتمع، فسوف يسعى لهجر هذه الرذائل، و تطهير نفسه منها. وعليه يَتحصَّل لدينا: دعامةٌ و أساسٌ آخر للمسائل الأخلاقيّة. ولكن و بالتّدقيق و التحقيق، نرى أنّ هذا الأساس و الدّعامة، يعود إلى مسألة الوجدان، غاية الأمر، أنّ المطروح هنا هو وجدان المجتمع، لا الوجدان الفردي، يعني أنّ ما يوافق الوجدان العام للمجتمع، فهو فضيلةٌ و علامةٌ للشخصيّة، و من الأخلاق الفاضلة و عكسه [ 67 ] يدخل في الرذائل، و ما يُقرّه الرأي العام للمجتمع، يكون هو الدّافع للفضائل و الرّادع عن الرّذائل. ونحن لا ننكر أنّ الوجدان العمومي للمجتمع، يمكن أن يشخّص القِيَم من اللاّقيم، و يحثّ الأفراد للإهتمام بالمسائل الأخلاقيّة في خطّ التّربية و التّكامل. ولكن ما ذكر من نواقص و إشكالات، حول الوجدان الفردي، هو نفسه يصدق على وجدان المجتمع. فيمكن للمجتمع أن يُخطأ، وإذا ما وقع هذا الأساس للأخلاق، تحت طائلة الدعاية والإعلام القوي من قبل الحكومات، فبالإمكان أن ينقلب رأساً على عقب، و تكون الفضائل رذائل في منظومة القيم والمثل الأخلاقية، كما حدّثنا التّأريخ عن نماذج كثيرة من هذا القبيل، ففي عصر الجاهليّة مثلا كان يُعتبر وَأْد البنات من المكرمات، عند شريحة كبيرة من المجتمع آنذاك، و يُعتبر فضيلةً أخلاقيةً، (وذلك للمفهوم السّائد في ذلك الوقت وقت، من أنّه الطّريق للنّجاة من العار و الشّنار، و الحيلولة دون وقوع النّساء في الأسر في الحروب)(1). ونرى في عصرنا الحاضر، و في المجتمعات البشريّة المتقدّمة و المتطوّرة، أنّ المتموّلين ولأجل الوصول لأهدافهم غير المشروعة، وبالدعاية يخدعون الوجدان العمومي للمجتمع، ويقلبون القيم الأخلاقيّة الإيجابية، إلى مُضادّاتها في دائرة السّلوك الأخلاقي. width="56" height="24" alt=""> ا ص68 - ص58بالإضافة إلى أنّ الوجدان والضّمير في الإنسان، هو من بَوارِق الرّحمة الإلهيّة، و نموذج لمحكمة العدل الإلهي العظيمة، عند الإنسان في هذا العالم، ولكن ومع ذلك، فالضّمير ليس بمعصوم عن الخطأ، ويمكن أن ينحرف، وإذا لم يتّخذ الإنسان تدابير لازمة لإصلاحه وتزكيته، فلعلّه يبقى على خطئه لسنين طويلة. 1. يقول الشّاعر الجاهلي: الموتُ أخفى سِترةً للبناتِ *** ودفنها يُردى من المكرماتِ ألم تر أنّ الله عزّ اسمه *** قد وضع النعشَ بجنب البنات وكما تلاحظون أنّ هذا الشاعر الجاهلي، يعتبر تلك الجناية الكبرى مكرمْة و إفتخاراً. [ 68 ] 4 ـ الدّعامة الإلهيّة من المعلوم أنّ ما ذكر من الدّعامات والأسس، لا يخلو من واقعيّة على مستوى دفع الإنسان نحو الفضائل الأخلاقيّة، ولكن وكما أشرنا إليه سابقاً أنّها لا تخلو ولا تسلم من الخطأ والإنحراف، مثل دعامة الإنتفاع والإستغلال التي تأخذ طريقها في أىّ وقت وزمان، فتارةً تسير مع الأخلاق واُخرى تُعارضها. والبعض الآخر من الدّعامات له قدرةٌ محدودةٌ في تحريك الإنسان، و مشوبةٌ بالنّقص والقصور ولربّما أخطأت واشتبهت. و الدّافع الوحيد الخالي عن الخطأ و الإشتباه، والعاري من كلّ نقص في دائرة المسائل الأخلاقيّة، هو الدّافع الإلهي الذي يكون مصدره الله تعالى، و الوحي، في إطار التّعاليم الدينيّة. وهنا لا تعتبر الفضائل الأخلاقيّة وسيلةً للإنتفاع و الإستغلال، و لا هي وسيلةٌ للرفاه الإجتماعي، (وإن كانت الأخلاق قطعاً، وسيلةً للرّفاه والعمران والهدوء، وتؤمّن المنافع الماديّة أيضاً). فالأصالة هنا للدوافع الروحيّة و المعنويّة، أو بعبارة اُخرى، أنّ الذّات الإلهيّة المنزّهة، و الّتي هي الكمال المطلق، و مُطلق الكمال، وجميع صفاته الجماليّة و الجلاليّة، تكون هي المحور الأصلي للمسألة، و كلّ إنسان يسعى في المُضي قُدماً، للوصول إلى الكمال المطلق، و يتحرّك في حياته المعنوية، من موقع تفعيل نور أسماء الصّفات الإلهيّة في نفسه، ليشبهه ويتقرب إليه أكثر و أكثر يوماً، بعد يوم (وإن كانت ذاته المقدّسة منزهّةً عن الشبيه الحقيقي)، ويصل إلى الكمال المطلق، فلا حدّ للكمال هناك، و بذلك يعيش بكلّ وجوده، حالة الإستغراق من الحبّ لله تعالى، و الكمال المطلق، و تُنير وجوده و باطنه، أنوارُ و صفاتُ الذّات المقدّسة، بحيث يطلب الكمال والرّقي، في الدّرجات العليا في كلّ لحظة، فلا يتقيّد بالمنافع الماديّة، ولا يطلب الأخلاق للشخصيّة والإحترام، ولا يكون هدفه الضّمير وحده، بل لديه هدفٌ أسمى وأعلى من كلّ تلك الاُمور. فلا يأخذ معلوماته من العقل والوجدان فقط، بل يستعين بالوَحي أيضاً، ليميّز في ظلّه القيم [ 69 ] الحقيقيّة من الكاذبة، و ليمشي بخطى ثابتة مع إيمان و يقين كاملين في هذا الطريق، والقرآن الكريم، هو خير دليل في هذا المضمار، و يُصرّح القرآن الكريم، بأنّ الأعمال الأخلاقيّة هي وليدة الإيمان بالله واليوم الآخر، ودائماً ما يردف: (العمل الصالح) بالإيمان، وعرّف العمل الصالح، بالّثمرة لشجرة الإيمان. و مثّل الإيمان، بالشّجرة الطيّبة، و جذورها ثابتة في روح و أعماق الإنسان، و فروعها و أوراقها وارفة، تؤتي بثمارها كلّ حين، و أشار إشارة جميلةً فقال الله تعالى: (ألَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللهُ مَثلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَة أصَلُها ثَابِتٌ وَفَرعُها فِي السَّماءِ تُؤتِي اُكُلَها كُلَّ حِين بِإذنِ رَبِّها )(1). ومن البديهي، أنّ الشجرة التي تمدّ جذورها في أعماق القلوب، و تتفرع أغصانها من جميع أعضاء الإنسان، و ترتفع في سماء حياته، هي شجرةٌ وارفةٌ لا يؤثّر فيها جفاف الخريف، و لا تقلعها العواصف أبداً.(2) وجاء أيضاً في سورة "والعصر"، نفس هذا المعنى ولكن بتعبير آخر، فالقاعدةولكن الكلّية هو الخسران و التّضييع للإنسان، والمستثنون من ذلك هم المؤمنون، في أوّل الأمر، ثم الّذين يعملون الصّالحات ويتواصون بالحقّ و الصّبر: (وَالعَصرِ إنّ الإنسانَ لَفِي خُسر إلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوا بِالحَقِّ وَتَواصَوا بِالصَّبِرِ ). وجاء نفسُ هذا المعنى و بتعبير جميل آخر، في الآية (21) من سورة النور، فيقول الله 1. سورة ابراهيم، الآية 24 و 25. 2. إختلف المفسّرون في ماهو المقصود من الشّجرة الطيّبة؟، و هل يوجد مثل هذا التشبيه في الخارج أم لا؟. و هنا كلام كثير، فالبعض قال: أنّ الشجرة الطيّبة هي كلمة لا إله إلاّ الله، وبعض قال: أنّها أوامر الباري تعالى، و آخَرون قالوا أنّها الإيمان، و في الواقع أنّ هذه كلّها تعود إلى حقيقة واحدة، و إختلفوا أيضاً في هل أنّ هذه الشجرِة لها واقع خارجي، و أنّ أصلها ثابت في الأرض وأوراقها وفروعها في السّماء ومثمرة في كلّ وقت و حِين، حقيقةً، أو لا؟. ولكن يجب أن لا ننسى أنّ كلّ تشبيه لا يتوجب أن يكون له وجود خارجي، فعندما نقول: أنّ القرآن الكريم كشمس لا غروب لها، و بالطّبع فلا وجود للشّمس التي لا غروب لها، و القصد من ذلك هو التّشبيه بالشمس لا أكثر، حيث يمكن أن تختلف خصائص هذه الشمس في الخارج. [ 70 ] تعالى: (وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحْمَتُهُ ما زَكّى مِنْكُم مِنْ أحَد أبَداً وَلَكنّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ... ). و عليه، فإنّ سمُوّ الأخلاق و العمل و التّزكية الكاملة لا تتمّ، إلاّ بالإيمان بالله ورحمته الواسعة. وجاء نفس هذا المعنى في سورة (الأعلى) فيقول الله تعالى: (قَدْ أَفلَحَ مَن تَزَكّى * وَذَكَرَ إسمَ رَبّهِ فَصَلّى )(1). فطبقاً لهذه الآيات، فإنّ التّزكية الأخلاقيّة و العمليّة، لها علاقةٌ وثيقةٌ بإسم الله تعالى و الصّلاة والدّعاء، هذا إذا ما إستمدّت أسسها منه سُبحانه و تعالى، وحينها ستكون عميقةً و دائمةً، وإذا ما إعتمدت على أسس اُخرى، فستكون واهيةً و عديمة المحتوى. في الآية (93) من سورة المائدة، جاء وصف جميل، للعلاقة الوثيقة بين التّقوى والأعمال الأخلاقيّة بالإيمان: فقال الله تعالى: (لَيسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِي ما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتّقَوا وَآمَنُوا ثُمَّ اتّقَوا وَأحسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الُمحسِنِينَ ). في هذه الآية الشّريفة، تقدّمت التّقوى مرّة على الإيمان والعمل الصّالح، و تأخرت اُخرى، و تقدمت مرّةً على الإحسان، لأنّ التّقوى الأخلاقيّة و العمليّة تتقدم على الإيمان في مرحلة ما، و هي التّحضير لقبول الحقّ والإحساس بالمسؤوليّة للبحث عنه. ثم إنّ الإنسان عندما يعرف الحقّ و يؤمن به، فستتكون في نفسه مرحلةٌ أعلى و أقوى من التّقوى، و تكون مصدراً لأنواع الخيرات. وبهذا التّرتيب، تتبيّن العلاقة الوثيقة بين الإيمان و التّقوى. وخلاصة القول: إنّ أقوى وأفضل الدّعائم للأخلاق، هو الإيمان بالله، والإحساس بالمسؤوليّة تّجاهه، ومثل هذا الإيمان هو أبعد مدىً وأرحب اُفقاً من المسائل المادّية، و لا يبدّل ولا يعوّض بشيء، فهو يرافق الإنسان في كلّ مكان ولا ينفصل عنه أبداً، ولا يوجد شيء أفضلُ منه. 1. سورة الأعلى، الآية 14 و 15. [ 71 ] ولذلك فإنّنا نرى، أنّ أقوى مظاهر الأخلاق، كالإيثار و التّضحية تتجسّد في حياة أولياء الله تعالى. و نرى أيضاً، في المجتمعات الماديّة التي توزِن كلّ شيء بمعيار النّفع، أنّ الأخلاق فيها ضعيفةٌ جدّاً، و في الأغلب أنّ المعترف به رسميّاً عند الجميع، هو النّفع الشّخصي المادّي، فالصّدق والأمانة والوفاء وما شابه ذلك، هي أخلاق حسنةٌ و سلوكيّات جيدةٌ، ما دامت تعود بالنّفع على الفرد، و عند تعرّض النّفع المادي للخطر، فستفقد لونها وقيمتها!!. فالأبوان العجوزان، و لعدم نفعهما، فمصيرهما أن يعيشا في زاوية النسيان، و يتمّ نقلهما إلى مراكز و دور العجزة، لينتظرا أجلهما المحتوم. و بمجرّد أنّ يبلغ الأطفال مرحلة الرّشد والمراهقة، فإنّ مصيرهم الانفصال عن اُسرهم، لا لكي يستقلّوا إقتصاديّاً، بل لكي يُنسوا إلى الأبد. و كذلك الأزواج، فهم شركاء في الحياة مادام في الحياة الزوجية نفعٌ ولذّة، و إلاّ فلا حاجة إلى العلاقة الزّوجيّة و لا ضرورة للإلتزام بتبعاتها، ولذلك فإننا نرى أنّ الطّلاق هناك كأيسر ما يكون، و شايع إلى درجة خطيرة، ففي المذاهب الماديّة التي لا تقوم على أساس إلهي في دائرة الأخلاق، يكون الإستشهاد لديهم لنيل المقاصد السّامية، هو الإنتحار بعينه، والكرم الذي يؤدي إلى تبذير الأموال، ليس هو إلاّ نوعٌ من الجنون، و العّفة و الإستقامة على طريق الفضيلة، ليست هي إلاّ ضَعفٌ في النّفس، و الزُّهد بالعالم المادي، ليس هو إلاّ سذاجةً و جهلا بالحياة. وما نراه اليوم من التنافس المحموم على الماديات، و مراكز القدرة في هذه المجتمعات، و رؤساء تلك الدول، هو أفضل و خير نموذج يعبّر عمّا لديهم من معايير للأخلاق الماديّة. و الشّاهد على ذلك، ما يصدر من الإنتهازيّة و التّعامل المزدوج للقوى الإستعماريّة تجاه (حقوق الإنسان)، فعندما تكون حقوق الإنسان، سبباً لتعرّض منافعهم للخطر، فسوف يتجاهلونها ويجعلونها وراء ظهورهم، ويذبحون القيم الإنسانيّة على مذبح المصالح الماديّة. فأخطر المجرمين والمعتدين على حقوق الإنسان، يصبحون مسالمين ومصلحين، وبالعكس [ 72 ] فإنّ الشخص الذي يريد أن يدافع عن حقّه في مقابلهم، يكون هو الشّيطان بعينه، ويجب أن يُقمع بأيّ وسيلة كانت. فنراهم يدافعون عن الديمقراطيّة و حكومة الشّعب، دفاعاً مُستميتاً، وفي نفس الوقت نراهم و في زاوية أخرى من العالم، يدافعون عن أسوَأ و أظلم المستبدّين الديكتاتورييّن لا لشيء، الاّ لأن الأخلاق عندهم ليست هي: إلاّ النّفع في بُعده المادي و الشّخصي. و الإنسان المادي لا يمتلك صورةً واضحةً عن الأخلاق في دائرة التّعامل مع الآخرين، بل مفاهيم ضبابيّةً و صورةً قاتمةً. و الملاحظة الاُخرى الّتي تجدر الإشارة إليها، أنّ المادييّن لا يرون في سلوكهم الأخلاقي، غير زمانهم و مكانهم الّذي هم فيه الآن، ولا أهميّة عندهم لما فَعل الماضون، و لا ما سيفعله اللاّحقون، إلاّ أن يكون له علاقةٌ بحاضرهم، و منطقهم يتمثّل به قول الشّاعر، حيث يقول: إن أنا مِتُّ فلا *** طلعت شمس الضّحى على أحدِ ولكن الموحّدين المعتقدين بالحياة الآخرة، و محكمة العدل الإلهي في يوم القيامة، يعتقدون أنّ معطيات الأخلاق وبركاتها المعنوية، جارية حتى بعد الممات، ولو إمتدّت لاِلاف السّنين، وسيثاب الإنسان عليها في الاُخرى، ولذلك لا يتعاملون مع الواقع الدنيوي، من موقع الزّمان الحاضر فقط، بل من موقع التّفكير في الغد البعيد والحياة الخالدة. وقد جاء في الحديث المعروف عن الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "إذا مات المؤمن إنقطع عمله إلاّ من ثلاث، صدقة جارية ـ أي الوقف ـ أو علم يُنتفع به أو ولد صالح يدعو له"(1). فالإيمان بالآخرة دافعٌ و حافزٌ آخر، للحثّ على الأعمال، الأخلاقية المهمة، مثل الصّدقة الجارية و الآثار العلميّة المفيدة و تربية الأولاد الصّالحين، و الحال أنّ لا مفهوم لهذه الاُمور لدى المادييّن. و قد قسّم المرحوم الشّهيد (مُطهّري)، في كتاب "فلسفة الأخلاق"، الأنانيّة إلى ثلاثة أقسام: (للنّفس، وللعائلة، و للقوميّة)، وعدّها كلّها من الأنانيّة، التي تقف في الطّرف المقابل 1. بحار الأنوار، ج2، ص42. [ 73 ] للأخلاق، و نقل كلاماً عن "كوستاف لوبون"، في كتابه المعروف (حضارة الإسلام و العرب)، ورأينا أن ننقله هنا إكمالا للفائدة. فقد ذكر هذا الكاتب الغربي، في معرض حديثه عن الشّعوب الشرقيّة، و أنّهم لماذا وقفوا من الحضارة الغربيّة موقفاً سلبيّاً؟ فعللّ ذلك بالقول: (أولا: لعدم القابليّة لديهم لإستقبال هذه الثّقافة، و ثانياً: إنّ حياتهم و معيشتهم تختلف عن حياتنا و معيشتنا، فحياتهم بسيطةُ و ساذجةٌ، بخلاف ما نحن عليه من التّعقيد الحضاري في واقع الحياة، ثم يردف قائلا: و لا يخفى مدى الظّلم الذي إرتكبته الشّعوب الغربّية في حقهم. (وهو عامل مهم آخر). و بعدها أشار إلى الظّلم الذي إرتكبه الغربيّون، في أمريكا والهند و الصّين، و خصوصاً كان يؤكد على قصّة الحرب المعروفة، بـ : (حرب التّرياك)، التي شنّها الإنجليز على شعب الصيّن، لأجل السّيطرة عليهم، فنشروا إستعمال التّرياك بين الشعب، لأجل التّسلط عليهم، وليميتوا فيهم روح المقاومة، و يكسروا شوكتهم، ولكنّ الصّينيين توجهّوا للخدعة، و تحرّكوا للتّصدي للإنجليز، الذين صوّبوا مدافعهم، وإنتصروا عليهم بقوّة السّلاح الفتّاك، و إنتشر بين الأهالي إستعمال التّرياك، بحيث جاءت الإحصائيات: (في ذلك الزمان)، أنه في كل سنة يموت حوالي الـ (600) ألف نفر، جرّاء إستعمالهم للتّرياك.(1) نعم فعندما لا تقوم الأخلاق على قاعدة متماسكة، من الإيمان و القيم المعنويّة في واقع الإنسان، فسوف تأخذ بالذّبول و التّراجع، لصالح المنافع الشّخصيّة و النّوازع الدنيويّة العاجلة. ملاحظة: ما ذكرناه آنفاً حول دعامة الأخلاق، من وجهة نظر الإيمان بالمبدأ والمعاد، لا يعني إنكار الدّور الفعّال، لـ : "العقل الفطري" في تعميق المسائل الأخلاقيّة، فالضّمير و الوجدان في الحقيقة، هو رسول الله في أعماق البشر، و من جهة اُخرى له الأثر الكبير في تحكيم المباني الأخلاقيّة، بشرط أن يصاحبها عنصر الإيمان، وتتخلص من حجب الأنانيّة و هوى النّفس. 1. فلسفة الأخلاق، ص283 بتضرّف. [ 74 ] وأكّد القرآن الكريم، على هذه المسألة مرّات عديدة، ففي الآية (100) من سورة "يونس"، يقول الله تعالى: (وَيَجعَلُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعقِلُونَ ). و في الآية (22) من سورة "الأنفال"، نقرأ: (إنّ شرّ الدَّوابِ عِندَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لا يَعقِلُونَ ). و يقول الله سبحانه، عن الّذين يستهزئون بالصّلاة: في سورة (المائدة) الآية (58): (اتّخذوها هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأنّهُم قَومٌ لا يَعقِلُونَ ). وهكذا يتبيّن من خلال ما ذُكر آنفاً، خلاصة رؤية القرآن المجيد للمسائل الأخلاقية. -- [ 75 ] 5 / الأخلاق والحريّة 5 الأخلاق والحريّة هناك أبحاثٌ كثيرةٌ، في مسألة الأخلاق و الحريّة، و هل أنّ الأخلاق تُحدّد و تُقيّد حريّة الإنسان؟ وهل أنّ هذا التّقييد هو في صالح الإنسان أم لا؟ فبإعتقادنا أنّ هذه الأبحاث، ناشئةٌ من التّفسير الخاطيء لمعنى الحريّة، ومنها: 1 ـ يُقال: أنّ الأخلاق تقوم بتحديد حريّة الإنسان، وتعمل على كبت القابليّات في المحتوى الدّاخلي للإنسان. 2 ـ و تارةً يقولون: إنّ الأخلاق تقمع الغرائز، و تمنع من تحقّق السّعادة الواقعيّة للفرد، ولو لم يكن في الغرائز فائدةٌ، فلماذا خلقها الله تعالى؟. 3 ـ و تارةً اُخرى يقولون: إنّ البّرامج الأخلاقيّة، تخالف فلسفة أصالة اللّذة، ونحن نعلم أنّ الهدف من الخلق، هو "اللّذة" التي يريد أن يصل إليها الإنسان. 4 ـ واُخرى يقولون، و في النّقطة المعاكسة لها: أساساً إنّ البشر ليس حُرّاً في سلوكه الأخلاقي، بل هو مجبور وواقع تحت تأثير عوامل كثيرة، ولذلك فلا تصل النوبّة للوصايا الأخلاقيّة. 5 ـ وأخيراً يقولون: إنّ الأخلاق مبنيّة على أساس إطاعة الله تعالى، وهي لا تخلو من الخوف أو الطّمع، وكلّ هذه الاُمور تتقاطع مع الأخلاق! [ 76 ] هذا التّناقض في الأقوال، إن دلّ على شي، فهو دليلٌ على عدم التّقييم الصّحيح لمفهوم الحرّية، هذا من جهة، و من جهة اُخرى لم تُدرس الأخلاق الدينيّة، و خصوصاً الأخلاق الإسلاميّة، دراسةً كافيةً و وافيةً. ولذلك يجب أن ندرس في بادي الأمر، مسألة الحريّة. و لماذا يطلب الإنسان الحريّة بكلّ وجوده؟، و لماذا يجب أن يكون الإنسان حرّاً؟، و ما هو دور الحريّة في تربية الجسم و الرّوح؟، و بكلمة واحدة: ما هي "فلسفُة الحريّة"؟. إنّ الجواب على كلّ هذه الأسئلة يتلخّص في ما يلي: يوجد في داخل الإنسان قابلياتٌ و ملكاتٌ و قوى خفيّةٌ، لا تخرج من القوّة إلى الفعل إلاّ بالحريّة، والإنسان يسعى للتّكامل، و يتحرك على مستوى ترشيد إستعداداته و قُدراته، فهو يطلب الحريّة لأجل ذلك. ولكن هل أن الحرّية التي تساعد على تفعيل قدرات الإنسان، هي حرية بلا قيد ولا شرط، أم أنّها الحريّة المتحرّكةِ في إطار من التّنظير العقلي و الدّيني؟. و يُمكن تبيان هذا المطلب مع ذكر مثالين: إفترضوا أنّ هناك فلاّحاً، قررّ أن يزرع أنواع الورود والفواكه في بستانه، و تحرّك لتحقيق هذا الغرض، على مستوى حرث الأرض و غرس النّباتات وسقيها في موعدها في كلّ مرّة، فَمن البديهي أن تكون الشّجرة مغروسةً في الفضاء الحرّ، لتأخذ قِسطها من النّور و الهواء و المطر، و ستمدّ جذورها في الأرض بحرّية، و إذا لم تتوفرلها تلك العوامل، فلن تثمرَ ولن يحصلَ الفلاّح على ثمن أتعابه، وبناءاً على ذلك، فإنّ حريّة الجذور و الأوراق، ضروريّة لكي تعطي الثمر، ولكن من الممكن أن ينحرف غُصن من الأغصان في تلك الشّجرة، فيقطعه الفلاّح بلا رحمة و لا رأفة، لأنّ هذا الغَصن يستهلك قوّة الشّجرة، فلا أحد له الحقّ في الإعتراض على الفلاّح، بسبب هذا العمل. و يمكن أن يُقَوِّم الفلاّح الشّجرة المائلة، أو الفرع المعوّج، بشدّه إلى خشبة مستقيمة، فكذلك لا حقّ لأحد أن يعترض عليه في ذلك، و يقول له: لماذا قيّدت الشّجرة بهذا القيد، ولم [ 77 ] تتركها حرّةً، لأنّه سيقول: إنّ الشّجرة يجب أن تكون حرّةً لكي تُثمر، لا أن معوّجة فتذهب بأتعابي سُدىً. وكذلك بالنسبة للإنسان، فلديه ملكاتٌ و قابلياتٌ مُتنوّعةٌ و مهمّةٌ، و إذا ما نُظِّرت تَنظيراً صحيحاً، فستصعد به إلى أعلى درجات الرّقي والكمال المادّي والمعنوي، فهو حرٌّ في الإستفادة من قابلياته في الطّريق السّليم، لا أن يُهدِر هذه القابليّات في الطرق المنحرفة. فالذّين فسرّوا الحريّة، بمعناها العام الشّامل بلا قيد ولا شرط، ففي الحقيقة لم يفهموا معنى الحريّة، فالحريّة هي الإستفادة من الطّاقات في الطّريق الصّحيح، الذي يوصله للأهداف العُليا: (ماديةٌ كانت أم معنويةٌ). و مثالٌ آخر، حرّية المرورِ و العبورِ في الطّرق الواسعة و الضّيقة، فالغرض هو وصول الإنسان لمقصده، ولكن هذا لا يعني أبداً، عدم الإلتزام بقوانين المرور، حيث يؤدي إلى الهرج و المرج، و الفَوضى في حركة المرور. فلا يوجد إنسانٌ عاقلٌ يقول: إنّ التّقيد بقوانين المرور ورعايتها، مثل التّوقف عند الضّوء الأحمر، أو عدم المرور في طريق ما، أو السّير على الجانب الأيمن، وما شابهها من الاُمور، التي توجب تحديد حريّة السّائق، فالكلّ سوف يستهزيء بمثل هذا الكلام، حيث يقال له، إنّ الحرّية يجب أن تكون; ضمن المقررات و القوانين التي تراعى من أجل سلامة الإنسان و أموال و ممتلكات الآخرين و لا تسبب في الهرج و المرج، وقتل الأبرياء دون مُبرِّر، أو تفضي إلى عدم الوصول بسلامة للمقصد والغاية. فكثيرٌ من هذه الحريّات هي كاذبةٌ، و نوعٌ من التّقييد الحقيقي. فالشّاب الذي يسىء الإستفادة من حريته، و يستعمل المخدّر المميت، فهو في الواقع يكون قد أمضى حُكم أسرِهَ و تَسلّط الغير عليه، فالحريّة التي تُصاحب الإلتزام بالموازين الأخلاقية، هي التي تُعطي للإنسان الحريّة الحقيقيّة و تجعله متمكنّاً من نفسه و مسيطراً على أهوائه و نوازعِهِ النّفسية، و كم هو جميل كلام أميرالمؤمنين(عليه السلام)، حيث يقول: [ 78 ] "إنّ تقوى الله مفتاحُ سَداد، و ذخيرةُ مَعاد، وعتقٌ من كلّ مَلكة، ونجاةٌ من كلّ هلكة"(1). و ممّا ذُكر آنفاً، تتجلى الحريّة الحقيقيّة من الكاذبة، ويتمّ منع إستغلال هذا المفهوم المقدّسُ في طريق الإنحراف و الزّيغ، فلا يحقّ لأحد أن يتذرّع، بكبتِ الأخلاق لطاقاتِ الإنسان، و يستشكِل على القِيم الأخلاقيّة. وممّا تقدّم أيضاً، تتّضح الإجابة على من يدّعي، قمع الأخلاق للغرائز، و أنّ الله تعالى خلق الغرائز في الإنسان، لتحقيق الغرض منها، وأشباعها بأدوات الحريّة و التّحرر من قيود الأخلاق. فالغرائز في الإنسان، مثلها كمثل قطراتُ المطر، تنزل من السّماء بِقدر لتُحيي الأرض، و لولا فائدتها، لما أنزلها الباري تعالى، ولكن هذا لا يعني فسح المجال لتلك القطرات لِتَتجَمَّع، و تكوّن السّيول لإهلاك الحرث و النّسل، بل يجب أن تُقام السّدود في طَريقها، و فتح منافذ صغيرة منها لتمد الحياة البشرية بالماء، و تكون الفائدة فيها أعمّ و أشمل، فيما لو سيطر عليها الإنسان، و أخضعها لضوابط معيّنة، وكذلك الحال بالنّسبة لغرائز الإنسان، فإذا اُطلق لها العِنان، فستبُيد كلّ شيء أمامها، و تدّمر كلّ شيء في حركةِ الحياة الفرديّة و الإجتماعية للإنسان. و يُستنتج مما ذُكر سابقاً، أنّ الأخلاق لا تقف سدّاً في طريق الإنسان، و لا تمنعه من ترشيد قابلياته و ملكاته، و لا تقمع الغرائز في واقعه، بل إنّ الأخلاق وسيلةٌ للوصول للكمال المنشود، في حركة الإنسان والحياة. ومن خلال التّفسير الصّحيح للحرية، الذي ذكرناه آنفاً تتّضح الإجابة على أسئلة المخالفين للأخلاق. -- 1. نهج البلاغة، الخطبة 230. [ 79 ] الإعتقاد بالجَبر، و بالمسائل اللأخلاقيّة: لا شك أنّه يوجد إرتباطٌ و علاقةٌ و ثيقةٌ، بين الإعتقاد بحريّة الإرادة للإنسان، و "المسائل الأخلاقيّة"، و كما أشرنا سابقاً، أنّ نفي حريّة الإنسان، هو نفيٌ و تعطيلٌ لجميع المفاهيم الأخلاقيّة. وبناءاً على هذا نجد، أنّ الأديان الإلهيّة المتعهّدة بتربية وتهذيب النفوس والأخلاق، من أقوى المدافعين عن حرّية الإنسان!. وبناءاً على هذا أيضاً، نجد في القرآن الكريم آياتٌ عديدةٌ و كثيرةٌ تبلغ المئات، تثبّت الإختيار و حريّة الإرادة للإنسان، و تنفي الجَبر عنه، و قد ذُكرت في مباحث الجَبر و الإختيار(1). فالأمر و النّهي و التّكاليف الاُخرى، و الدّعوة إلى الثّواب و العقاب، و الحساب و المحاكم و القوانين و العقوبات، كلها اُمور تؤكّد على مسألة الإختيار، و حريّة الإرادة عند الإنسان. وإذا ما شاهدنا بعض الآيات تُوافق مذهب الجَبر، فهي ناشئةٌ من عدم الإنتباه و التّوجه الصحيح لتفسير تلك الآيات، فتلك الآيات ناظرةٌ إلى نفي التّفويض، و لا تثبت الجبر، و الشّاهد عليها هو القرآن الكريم نفسه، و قد أشرنا إليها سابقاً، وليس هنا محلّ للبحث فيها. فالإعتقاد بالجَبر، و سلب حريّة الإنسان، يمكن أن يكون عاملاً مهمّاً، لكلّ تحلّل أخلاقي، فالُمجرم ولتبرير أفعاله المشينة يتذرّع بالجَبر، وأنّه لا يستطيع أن يُغيّر مصيره المحتوم عليه، و لذلك يتحرّك في خطّ الإنحراف، و ينحدر في مُنزلقات المعاصي أكثر، فالتّاريخ يُحدثنا، عن مجرمين خاضوا غمار الجريمة، استناداً إلى مُبّررات مذهب الجَبر، وكانوا يعذرون أنفسهم، في إرتكابهم لتلك الأعمال و الذّنوب، و يقولون: (إذا كنّا صالحين أو طالحين، فليس لنا من الأمر شيء، فالُمبدع الأزلي هو الذي زرع فينا ذلك، و جعل مصيرنا أن نكون من أهل الشّقاء!، فلا المحسنين لهم الحق بالإفتخار بإحسانهم، 1. الرجاء الرجوع إلى التّفسير الأمثل: (الفهرس الموضوعي ص99)، و إلى أنوار الأصول، ج1، بحث الجَبر و الإختيار. [ 80 ] ولا على المسيئين ملامة!). وبناءاً على ذلك، فقد تحرّك الأنبياء(عليهم السلام)، قبل كلّ شيء لتوكيد الإرادة الإنسانيّة، و خصوصاً نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله)، و لأجل تحكيم الاُسس الأخلاقيّة و تهذيب النّفوس. وعلى كلّ حال، فبحث الجَبر و الإختيار، و المسائل الاُخرى مثل القضاء والقدر، و الهداية و الضّلالة، و السّعادة و الشّقاء، من وجهة نظر القرآن الكريم، هو بحثٌ مستقلٌ وسيعٌ، سنتطرق لتفسيره الموضوعي في المستقبل إن شاء الله، و الهدف هنا هو الإشارة لهذه المسألة، و تأثيرها في المسائل الأخلاقية، و ليس الدخول في تفاصيلها فعلاً. -- أمّا الذين يتحركون من موقع اللّذة، و يعتبرونها من أهمّ القيم، فهؤلاء لا يعتبرون الأخلاق من المُثل النّبيلة و السّلوكيات الحسنة، لأنّها لا تُوافق اُصولهم، وكما قال "آريس تيب"، الذي وُلد قبل الميلاد: الخير هو اللّذة، ولا شرّ سوى الألم، والهدف النّهائي للإنسان في الحياة: هو الّتمتع بلذائذ الدنيا، و لا يجب التّفكير بنتائجها الصّالحة أو السيئة)(1). هذا وقد غاب عن اُولئك، أنّنا و على فرض حصرنا اللذائذ في الماديّات فقط، و تركنا اللّذائذ المعنويّة الّتي هي أعلى و أسمى لذّة للرّوح، فلا يمكن الوصول للذائذ الماديّة إلاّ برعاية الأخلاق، وذلك لأنّ الّتمتع والإلتذاذ بالشّيء، من دون قيد أو شرط، يعقبه ألم شديد على مستوى النّفس و البدن، و لأجله يجب أن نصرف النّظرً عن تلك اللذّة التي يعقبها ألم أقوى وأشد. وهذا الكلام وإن كان قد صدر، ممّن يُعتبرون في عداد الفلاسفة، ولكنّه في الحقيقة يشبه كلام المعتاد على الأفيون، الّذي إذا نصحوه قالوا له: إنّ لذّتك هذه ستسبب لك المتاعب والآلام العظام، فيجيب: إنّ اللّذة الحاضرة هي الأصل، ولا يعلم ماذا سيكون في الغد، ولكن الذي ينتظره في الغد، ليس سوى المرض العصبي، و الإرهاق و القلق، و ما إلى ذلك 1. علم الأخلاق أوالحكمة العمليّة، ص243. [ 81 ] من إفرازات الإدمان على تلك المواد المخدّرة، وسيعيش النّدم الشّديد في تلك الحال، و يتأسف على ما إقترفته يداه، ولكن أنىّ للتأسّف أن يحلّ المشكلة، و قد اُغلق عليه سبيل العودة، إلى الحريّة والكرامة كما هو الغالب. فالوصايا الأخلاقية، للحثّ على العفّة والأمانة و الصّدق والرجولة، كلّها من هذا القبيل، والمجتمع الذي تتفشى فيه الخطيئة والخيانة، كيف يعيش أفراده حالة اللّذّة المعنويّة و السّعادة، في حركة الحياة والواقع الإجتماعي؟ فالناس الّذين ملأ البخل وجودهم، و يطلبون كلّ شيء لنفعهم و لذّتهم الشّخصية، لا تكون لديهم حصانةٌ أمام المشكلات، و سيكونون عرضةً للتّمزق و التشرذم، لأدنى أزمة على مستوى الحياة الدنيويّة، لأنّ الفرد في ذلك المجتمع يكون وحيداً فريداً، و الصّمود أمام المشكلات، لمن يعيش الوحدة و الإنفراد، أمرٌ في غاية الصّعوبة، ولكن إذا تفشّت روح التّعاون و السّخاء والرجولة في المجتمع، فسينطلق الناس من موقع مساعدة بعضهم البعض، وعندما يقع أحد الناس في مأزق، فسيعينه الآخرون، فلا يشعر الفرد بالوحدة هناك، بل سيجد في نفسه عنصر المقاومة و الصّمود أمام المشكلات والأزمات. وهذا ما أشرنا إليه سابقاً بالتّفصيل، و بالإعتماد على الآيات القرآنيّة الكريمة، بأنّ الاُصول الأخلاقيّة عند تطبيقها، لها بُعدان و فائدتان: معنويّة و ماديّة، و مع غضّ النّظر عن البُعد المعنوي، فالبُعد المادي فيها له شموليّةٌ واسعةٌ، و يستحق معها التمسّك بكلّ الاُصول الأخلاقيّة، كي نعمّر دنيانا ونجعل منها جنّةً مليئةً باللّذة، ونتجنّب النّار المحرقة، المتولدة من الوقوع في وَحِلّ المفاسد الأخلاقيّة. -- و الآن نبحث في المذهب القائل: بأنّ الأخلاق الدينيّة على مستوى الممارسة و التّطبيق، و الّتي تنشأ في الحقيقة من طاعة الله تعالى خوفاً أو طمعاً. و هذه الاُمور تُعتبر مضادّةً للأخلاق؟(1). 1. يرجى الرجوع لكتاب: (تجديد حيات معنوي جامعة)، ص169. [ 82 ] ويمكن أن يُنتقد هذا الكلام من جهتين: 1 ـ التّعبير بالخوف و الطّمع، تعبيرٌ غير صحيح، و الصّحيح أن يُقال، بأنّ بعض أتباع الأديان، و لأجل نَيل السّعادة الاُخرويّة، و النّجاة من العقوبات الناشئة من العدل الإلهي، يتخلّقون بالأخلاق الحسنة، لكنّه ليس أمراً يخالف الأخلاق، لأنّه يُبدّل لذّة الحياة الفانية بلذّة الآخرة الباقية، ويُفدي المصادر الصغيرة بالمواهب الكبيرة. 2 ـ هل يرتكب الشخص أمراً مخالفاً للأخلاق، لأنّه لا يكذب ولا يخون، بدافع من خشيته من فضيحة الكذب والخيانة؟، أو ذاك الذي يمتنع من الشّراب، و يتجنب المادة المخدّرة، ليحافظ على صحته و سلامته، هل يكون عمله هذا منافياً للقيم الأخلاقية؟ و كذلك الشّخص الذي يُداري النّاس ويتواضع لهمُ و يعاملهم بأدب و إحترام، لئلاّ يفقدهم ولا يبقى وحيداً فريداً في هذه الدنيا، فهل يرتكب بذلك عملاً مُخالفاً للأخلاق؟. والخلاصة: إنّ كلّ عمل أخلاقي، له آثار و منافع ماديّة في حركة الإنسان و الحياة، و لا يمكن تسميّة تلك الآثار بالطّمع، وكذلك الحال في الإمتناع، عن بعض السّلوكيات المشينة و الأفعال القبيحة، لا يمكن أن يعبّر عنه، بالخوف والجُبن في دائرة الصّفات الأخلاقيّة. -- [ 83 ] 6 / اُصول المسائل الأخلاقية في القرآن الكريم 6 اُصول المسائل الأخلاقيّة في القرآن الكريم قبل الخَوض في هذا البحث، يتحتم علينا إلقاء نظرة على اُصول المسائل الأخلاقيّة في المذاهب الاُخرى: 1 ـ جَمعٌ من الفلاسفة القدماء، الذين يُعتبرون من المؤسّسين لعلم الأخلاق، جعلوا للأخلاق أربعة اُسس، أو بالأحرى لخّصوا الفضائل الأخلاقيّة في أربعة اُصول، هي: 1 ـ الحكمة. 2 ـ العفّة. 3 - الشجاعة. 4 - العدالة. و أحياناً يضمّون إليها العبوديّة لله تعالى، و يجعلونها خمسة اُصول. و يعتبر المؤسّس لهذا المذهب هو "سقراط"، فكان يعتقد أنّ: (الأخلاق تعتمد على معرفة الحسن والقبيح من الأفعال، والفضيلة بصورة مطلقة ليست هي إلاّ العلم والحكمة; أمّا العلم في مورد الخوف أو الإقدام، يعني العلم والإطّلاع على الشّيء الذي يتوجب على الإنسان الخوف منه، أو عدم الخوف من شيء ما يعتبر من "الشّجاعة"، وإذا كان في صدد المُنى النفسية، فيدّعي بـ : "العفّة"، وإذا كان العلم بالقواعد الحاكمة على ملاقات الناس وروابطهم مع بعضهم [ 84 ] البعض، فالمقصود منه هو "العدالة"، وإذا كان العلم في دائرة وظائف الإنسان مع خالقه هو "التدين والعبودية"، فهذه الفضائل الخمسة، يعني: الحكمة، والشجاعة، والعفّة، والعدالة، والعبودية، هي الاُصول الاُولى للأخلاق السُّقراطيّة)(1). وكثير من علماء الإسلام الذين كتبوا وبحثوا في علم الأخلاق، قبلوا هذه الاُصول الأربعة أو الخمسة، و دقّقوا فيها أكثر، وبنوا لها اُصولاً أقوى وأفضل من سابقتها، وجعلوها أساساً لرؤاهم الأخلاقيّة في كلّ المجالات. يقولون في نظرتهم الجديدة لهذه الاُصول: إنّ نفس وروح الإنسان فيها ثلاثة قوى هي: 1 ـ قوّة "الإدراك" وتشخيص الحقائق. 2 ـ قوّة جلب المنفعة أو بتعبير آخر "الشّهوة"، (بمعناها الوسيع، لا الجنسيّة فقط وتشمل كلّ طلب و إرادة). 3 ـ القوّة الدّافعة أو بتعبير آخر "الغضب". وبعدها إعتبروا الإعتدال في كلّ قوّة، هو إحدى الفضائل الأخلاقيّة، و أطلقوا على الفضائل المنبعثة من هذه القوى بـ : "الحكمة" و"العفّة" و"الشّجاعة"، بالترتيب. وأضافوا أيضاً: كلّما أصبحت قوّة الشّهوة و الغضب خاضعة لسلطة القوّة المدركة، و تمييز الحقّ من الباطل، فسوف ينتج عندنا الأصل الرّابع وهو "العدالة". و بعبارة اُخرى: إنّ تحقيق الإعتدال في كلّ من القوى الثّلاثة، يعتبر فضيلةً، و هذا الإعتدال يسمّى بـ: "الحكمة" أو "العفّة" أو "الشّجاعة"، وتركيبها مع بعضها البعض، يعني تبعيّة الشّهوة والغضب للقوّة المدركة، يعتبر فضيلةً اُخرى تسمّى "العدالة"، وكثيراً ما نرى أنّ الإنسان لديه الشّجاعة و في حدّ إعتدال قوّة الغضب، لكنّه لا يوجّهها التّوجيه الصّحيح، و لا يستعملها الإستعمال الصحيح، "كما لو إستعملها في الحروب غير الهادفة"، فهنا قد تكون لديه شجاعة ولكنّها لا تعني العدالة، أمّا لو إستعمل صفة (الشّجاعة) في نطاق الأهداف السّامية 1. سير حكمت در اروپا، ج1، ص 18، مع شيء من التلخيص. [ 85 ] العقلائيّة، أي مزجها مع الحكمة، فسيحقّق عندها حالة "العدالة". وعليه، فإنّ هذه الفئة من علماء الإسلام، جعلوا كلّ الفضائل و الصّفات الإنسانيّة البارزة، تحت أحد هذه الاُصول، و بإعتقادهم أنّه لا توجد فضيلة، إلاّ وتندرج تحت أحد هذه العناوين الأربعة، وبالعكس فإنّ الرذائل دائماً، تأخذ طريق الإفراط و التّفريط لهذه الفضائل الأربعة. ومن أراد التّفصيل والإطّلاع على هذا المذهب الأخلاقي; فليراجع كتاب: "إحياء العلوم" و كتاب "المحجّة البيضاء"(1). نقد وتحليل: إنّ التّقسيم الرّباعي المذكور، ليس وكما يبدو أنّه شيء مُبتكر من قبل حكماء الإسلام، بل هو نتيجة تحليلات علماء إلاسلام لكلمات حكماء اليونان، و إسترفادهم من نظرياتهم وآرائهم بعد تنقيحها، رغم وجود إشارات لها في مصادرنا الروائيّة، كما جاء في الرواية المرسلة المنسوبة للإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، حيث قال: ا ص86 - ص103"الفَضائِلُ الأربَعَة أَجناس: أحَدُهُما: الحِكْمَةُ وَقِوامُها فِي الفِكرَةِ، و الثَّانِي: العِفَّةُ وَقِوامُها في الشَّهوَةِ، وَالثَّالِثُ: القُوَّةُ وَقِوامُها فِي الغَضَبِ، وَالرّابِعُ: العَدلُ وَقِوامُهُ في إِعتِدالِ قُوى النَّفسِ"(2). فكما ترون، أنّ هذا الحديث لا يوافق بصورة كاملة، تلك التّقسيمات الأربعة التي ذكرها علماء الأخلاق، بل هو قريبٌ منها، وكما أشرنا سابقاً أنّ الحديث مُرسلٌ و سندُه لا يخلو من إشكال. -- و على كلّ حال فإنّ هذه الاُطروحة، الّتي ذكرها علماء الأخلاق، أو حُكماء الإغريق 1. المحجّة البيضاء، ج5، ص96 و 97. 2. بحار الأنوار، ج75، ص81، ح86. [ 86 ] واليونان، ترد عليها هذه المآخذ: 1 ـ بعض الملكات الأخلاقية، "والّتي هي جزءٌ من الفضائل الأخلاقيّة قطعاً"، نلاقي صُعوبةً في إدخالها تحت أحد هذه الاُصول الأربعة، فمثلاً (حُسن الظّن)، يُعتبر من الفضائل، و يقابله (سُوء الظن)، فإذا أردنا إدخاله تحت أحد هذه الاُصول، فيجب أن ينضوي في دائرة الحكمة، والحال أنّنا لا يمكننا أن نجعله من فروع الحكمة، لأنّ حُسن الظّن شيءٌ آخر غير التّشخيص الصّحيح للواقعيات، و رُبّما ينفصل عنه بوضوح، بمعنى أنّ القرائن الظنيّة تشير إلى صدور الذّنب و الخطأ من شخص ما، لكن و بحسن الظنّ يتجاوز عنها. و كذلك الصّبر على النوائب، و الشكر على النّعمة، فهو بلا شك يعتبر من الفضائل، لكنّنا لا نستطيع أن نجعله في دائرة قوّة التّشخيص والإدراك، ولا في مسألة جلب المنافع ولا دفع المضار، خُصوصاً إذا كان الشّخص الصّابر و الشّاكر، لا يرتجي منها نفعاً مستقبلياً، و تمسّكه بها إنّما كان لقيمتها الذاتيّة، (أي: الصّبر و الشّكر). وقد يوجد غير قليل من أمثال هذه الفضائل، التي لا يمكن أن نجعلها وندرجها تحت أحد هذه العناويين. 2 ـ "الحكمة" تعتبر من اُصول الفضائل الأخلاقيّة، و الإفراط و التّفريط فيها تُعتبر من الرّذائل الأخلاقيّة، والحال أنّ الحكمة ترجع إلى تشخيص الحقائق و الوقائع، و تعود الأخلاق للعواطف والغرائز والملكات النفسيّة، و لا تعود لإدراكات العقل، و عليه لا يُقال إنّ الُمتفتح الذّهن هو حسن الأخلاق، فالأخلاق يمكن أن تكون وسيلةً و أداةً للعقل، و لا تُعتبر قوّة العقل والإدراك من الأخلاق، أو بعبارة اُخرى: أنّ العقل و قوّة الإدراك هي الموجّهة لعواطف وغرائز الإنسان، في حركة الحياة و السّلوك، و تعطيها شكلها الأَوفق، والأخلاق هي كيفيّةٌ تعرض على الغرائز و الميول الإنسانيّة. 3 ـ الإصرارُ على أنّ الفضائل الأخلاقيّة دائماً، هو الحدّ الأوسط بين الإفراط و التّفريط: لا يبدو سليماً، و إن كان في الأغلب هو كذلك، لأنّنا نجد موارد لا يتحقّق فيها الإفراط، فمثلاً القُوّة العقليّة، كلّما كانت أقوى كانت أفضل، و لا يُتصوّر فيها إفراط، فليس من الصحيح جعل [ 87 ] "الدّهاء والمكر"، هو الإفراط في القوّة العقلية، لأنّ "الدّهاء والمكر" لا ينشأ من الذّكاء والفهم، بل هو نوعٌ من الإنحراف و الإشتباه في المسائل، للعجلة في الحكم على الاُمور و ما يُشابهها. فالرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، وصل إلى درجة في العقل و الفكر، بحيث اُطلق عليه العَقلُ الكلّ، فهل هذا مخالفٌ للفضيلة؟! و صحيحٌ أنّ العقل و الذّكاء المُفرط، يسبّب آلاماً ومصاعب لا يلاقيها الغافلون، غير المطّلعين، ولكنّه مع ذلك يعتبر من الفضائل والكمالات. وكذلك "العدالة"، حسبوها من الفضائل الأخلاقيّة، و الإفراط و التّفريط فيها هو "الظّلم" و"الإنظِلام"، أي (قبول الظّلم)، و الحال أنّ قبول الظّلم والإنصياع له لا يمكن أن يُعتبر من التّفريط في العدالة أبداً، بل هو مقولةٌ اُخرى. وبناءاً على ذلك، فمسألة الإعتدال في صِفات الفضيلة، في مقابل الإفراط و التّفريط للصّفات الرّذيلة، يمكن أن يكون مقبولاً في أغلب الموارد، ولكن لا يمكن أن يُعتبر حُكماً عامّاً، و أصلاً أساسياً في البحوث الأخلاقيّة. النتيجة: أنّ الاُصول الأربعة التي أعدّها القدماء للأخلاق، هي في الواقع إكمالٌ لما جاء به فلاسفةُ اليونان القُدماء، لكنّها لا يمكن أن تكون نموذجاً ومقسماً جامعاً للصّفات الأخلاقيّة، وإن كانت تصدق على كثير من المسائل الأخلاقيّة. -- العودة للاُصول الأخلاقيّة في القرآن الكريم: نعود لتحليل الاُصول الأخلاقيّة التي نستوحيها من القرآن الكريم، فنحن نعلم أنّ القرآن الكريم لم يُنظّم ككتاب تقليدي، في أبواب و فصول، كما هو المتعارف اليوم، بل هو مجموعةٌ من القاءات الوحي السّماوي، نزل بالتّدريج على حسب الحاجة و الضّرورة، ولكن و بالإستفادة من طريقة التّفسير الموضوعي، يمكن وضعه في مثل هذه القوالب. و من التّقسيمات الّتي يمكن إستيحاؤها و إستفادتها من مجموع الآيات القرآنية، هو تقسيم [ 88 ] اُصول الأخلاق إلى أربعة أقسام: 1 ـ المسائل الأخلاقيّة المتعلّقة بالخالق. 2 ـ المسائل الأخلاقيّة المتعلّقة بالخَلق. 3 ـ المسائل الأخلاقيّة المتعلّقة بالنّفس. 4 ـ المسائل الأخلاقيّة المتعلّقة بالكون و الطّبيعة. فمسألة شكر المُنعم والخضوع أمام الباري تعالى، و الرّضا و التسّليم لأوامره، و ما شابهها، يُعتبر من المجموعة الاُولى. و التواضع، و الإيثار، و المحبّة، و حُسن الخلق، و المُواساة، تدخل في دائرة المجموعة الثّانية. تزكية النّفس وتطهير القلب من الأدران، و تفعيل عناصر الخير، لمقاومة الضّغط و التّحديات التي يُواجهها الإنسان في حركة الواقع والحياة، تدخل في نطاق المجموعة الثّالثة. و أمّا عدم الإسراف والتّبذير، و إتلاف المواهب الإلهيّة; فإنّه يُعتبر من القسم الرّابع. كلّ هذه الاُصول الأربعة، لها جذور واُصول في القرآن الكريم، وسنشير إلى كلّ واحد منها في المباحث الموضوعيّة الآتية. و بالطبع فإنّ هذه الشّعب الأربعة، تختلف عمّا جاء في كتاب "الأسفار" للفيلسوف المعروف: "ملاّ صدرا الشّيرازي"، و أتباع مذهبه، فهؤلاء و طِبقاً لطريقة العُرفاء، شبّهوا الإنسان وحركته التكامليّة: بـ : (المسافر)، و عبّروا عن مسائل بناءِ الذّات و صياغة الشّخصية بالسّير و السّلوك، و جعلوا للإنسان أربعةَ أسفار، هي مَطمع السّالكين و العُرفاء، و أولياء الله: 1 ـ السّفر من الخلق إلى الحقّ. 2 ـ السّفر بالحقّ في الحقّ. 3 ـ السّفر من الحقّ إلى الخلق بالحقّ. 4 ـ السفر بالحقّ في الخلق. ومن المعلوم أنّ هذه الأسفار أو المراحل الأربعة لبناء الذات، و السّير و السّلوك إلى الله تعالى، تتحرك بإتجاه آخر غير ما نحن بصددِه، و إن كانت تتشابه في بعض أقسام الفروع [ 89 ] الأربعة، للأخلاق الآنفة الذّكر. و توجد في القرآن الكريم آيات، نعتقد أنّها رَسمت الاُصول الكليّة للأخلاق، ومن هذه الآيات، الآيات الوادرة في (سورة لُقمان) و الّتي تبدأ من هذه الآية: (وَلَقَدْ آتَينا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ للهِ )(1). إنّ أوّل ما يشرع فيه الإنسان في مضمارالعقائد و المعارف، هو شُكر المُنعم، و أوّل خطوة في طريق معرفة الله تعالى، هي مسألة شكر المُنعم، أو بعبارة اُخرى، كما صرّح علماء العقائد والكلام: إنّ الدّافع للحركة إلى الله تعالى هو شكر النّعمة، لأنّ الإنسان عندما يفتح عينه، يرى نفسه غارقاً في بحر النّعم، فيدعوه الضّمير مُباشرةً إلى معرفة المُنعم، و هذا هو بداية الطّريق لمعرفة الله تعالى. و بعدها تتطرّق الآية لمسألة التّوحيد وتقول: (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ ). وفي المرحلة الاُخرى، يتناول القرآن الكريم مسألة المعاد، و هي الأساس الثّاني و المهم للمعارف الدّينية ويقول: (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّة مِنْ خَرْدَل فَتَكُنْ فِي صَخْرَة أَو فِي السَّمَواتِ أَو فِي الأَرْضِ يَأَتِ بِها اللهُ )(2). ثم يتطرق للاُصول الأساسيّة للأخلاق والحكمة العمليّة، ويشير للاُمور التاليّة: 1 ـ مسألة إحترام الوالدين وشكرهم بعد شكر الخالق: (وَوَصَّينا الإِنْسانَ بِوَالِدَيِهِ... أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيكَ )(3). 2 ـ إعطاء الأهميّة للصلاة، و علاقته بالله والدعاء والخضوع له: (أَقِمْ الصَّلاةَ )(4). 3 ـ الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر: (وَامُرْ بِالمَعرُوفِ وَإِنْهَ عَنِ المُنْكَرِ )(5) 4 ـ الصّبر على نوائب الدّهر: (واصبِرْ عَلَى ما أَصابَكَ )(6). 1. سورة لقمان، الآية 12. 2. سورة لقمان، الآية 16. 3. سورة لقمان، الآية 14. 4. سورة لقمان، الآية 17. 5. سورة لقمان، الآية 17. 6. سورة لقمان، الآية 17. [ 90 ] 5 ـ حُسن الخُلق مع النّاس: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ )(1). 6 ـ التواضع و ترك الكِبر مع النّاس و الخلق: (وَلا تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحَاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُختَال فَخُور )(2). 7 ـ الإعتدال في المشي وفي كلّ شيء: (وإقْصِدْ فِي مَشْيِكَ واُغْضُضْ مِنْ صَوتِكَ )(3). وعلى هذا التّرتيب، نرى أنّ القسم الأكبر من الفضائل الأخلاقيّة، جاءت في الآيات القرآنيّة تحت عنوان: "حكمةٌ لقمان"، التي تشمل الشّكر والصبر و حُسن الخلق و التوّاضع و الإعتدال و الدّعوة للإحسان، و مقاومة النّوازع و الأهواء النّفسانيّة، كلّ ذلك في ضِمن سبعِ آيات، من الآية (13 إلى 19). وجاء في الآيات الثلاث من سورة الأنعام، التي تبدأ بالآية (151) و تنتهي بالآية (153)، عشرة أوامر مهمّة، تناولت مبادىء مهمّة من الاُصول الأخلاقيّة، و من جملتها: ترك الظّلم للأولاد، و رعاية الأيتام، و مُراعاة العدالة مع الجميع، وترك العصبيّة للأقارب والأصدقاء والقبيلة، في دائرة نقض اُصول العدالة، وكذلك الإجتناب من القبائح و الرّذائل الظّاهرية و الباطنيّة، و إحترام حقوق الوالدين، و الإجتناب عن كلّ ما يُسبّب التّفرقة و إلأبتعاد عن كلّ شرك(4). -- اُصول الأخلاق الإسلاميّة في الرّوايات: إستعرضت الأحاديث و الرّوايات الإسلاميّة، الاُصول الأخلاقيّة الحسنة والسيئة، بطريقتها الخاصّة، لا كما جاء في كتب حُكماء اليونان ومن جملتها: 1 ـ في الحديث المعروف الذي جاء في كتاب: (اُصول الكافي)، عن الإمام الصادق(عليه السلام): أنّ 1. سورة لقمان، الآية 18. 2. سورة لقمان، الآية 18. 3. سورة لقمان، الآية 19. 4. لمزيد من التوضيح لهذه الأوامر العشرة، يمكن الرجوع لتفسير الأمثل: ج6، ذيل تفسير هذه الآيات الثلاث. [ 91 ] أحد أصحاب الإمام(عليه السلام) و إسمه "سماعة بن مهران"، قال: كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام)وجماعة من مواليه، فجرى ذكر العقل والجهل ، فقال أبوعبدلله(عليه السلام): "إعرفوا العقل وجنده، و الجهل وجنده تهتدوا"، فقلت: جُعلت فِداك لا نعرف إلاّ ما عرّفتنا، فقال أبو عبدلله(عليه السلام): "إنّ الله عزّوجلّ، خلق العقل، و هو أوّل خلق من الرّوحانيين عن يمين العرش، من نوره فقال له: أدبِر فأدبر; ثمّ قال له: أقبِل فأقبل; فقال الله تبارك وتعالى: خلقتك خَلقاً عظيماً وكرّمتك على جميع خلقي، قال: ثمّ خلق الجهل، من البحر الاُجاج ظلمانياً،فقال له: أدبر فأدبر; ثم قال له: أقبل فلم يُقبِل فقال له: إستكبرت، فلعنه. ثمّ جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً، فلمّا رأى الجهل ما أكرم الله به العقل، و ما أعطاه أضمرَ له العداوة، فقال الجهل: يا ربّ هذا خلق مثلي، خلقته و كرّمته و قوّيته، و أنا ضِدّه ولا قوّة لي به، فأعطني من الجند مثل ما أعطيته، فقال الله تعالى: نعم، فإن عَصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي. قال: قد رضيت. فأعطاه خمسة وسبعين جنداً. فكان ممّا أعطى العقل من الخمسة و السّبعين الجند: الخير هو وزير العقل، و جعل ضدّه الشرّ وهو وزير الجهل; والإيمان وضدّه الكفر; والتصديق وضدّه الحُجود; و الرّجاء وضدّه القُنوط; والعدل وضدّه الجور; و الرّضا وضدّه السخط; والشّكر وضدّه الكُفران; والطّمع وضدّه اليأس; والتوكّل وضدّه الحِرص; والرّأفة وضدّه القسوة; والرّحمة وضدّها الغضب; والعلم وضدّه الجهل; [ 92 ] والفهم و الحمق; والعفّة و ضدّها التهتك; والزّهد و ضدّه الرّغبة; و الرّفق و ضدّه الخرق; والرّهبة وضدّها الجرأة; والتّواضع وضدّه الكِبر; والتؤدة وضدّها التّسرع; والحلم وضدّه السّفه; والصّمت وضدّه الهذر; والإستسلام وضدّه الإستكبار; والتّسليم وضدّه الشّك; والصّبر وضدّه الجزَع; والصّفح وضدّه الإنتقام; والغنى وضدّه الفقر; والتّذكّر وضدّه السّهو; والحفظ وضدّه النسيان; والتعطّف وضدّه القطيعة; والقنوع وضدّه الحرص; والمؤاساة وضدّها المنع; والمودّة وضدّها العداوة; والوفاء وضدّه الغدر; والطّاعة وضدّها المعصية; والخُضوع وضدّه التّطاول; [ 93 ] والسّلامة وضدّها البلاء; والحبّ وضدّه البغض; والصّدق وضدّه الكذب; والحقّ وضدّه الباطل; والأمانة وضدّها الخيانة; والإخلاص وضدّه الشّوب; والشّهامة وضدّها البلادة; والفهم وضدّه الغباوة; والمعرفة وضدّها الإنكار; والمداراة وضدّها المكاشفة; وسلامة الغيب و ضدّه المماكرة; والكتمان وضدّه الإفشاء; والصلاة وضدّها الإضاعة; والصّوم وضدّه الإفطار; والجهاد وضدّه النُكول; والحجّ وضدّه نبذ الميثاق; و صَون الحديث وضدّه الّنميمة; وبرّ الوالدين وضدّه العُقوق; والحقيقة وضدّها الرّياء; والمعروف وضدّه المُنكر; والسّتر و ضدّه التّبرج; والتقيّة وضدّها الإذاعة; والإنصاف وضدّه الحميّة; [ 94 ] والتهيئة وضدّها البغي; والنّظافة وضدّها القذر; والحياء وضِدّه الجلع; والقصد وضدّه العدوان; والرّاحة وضدّها التّعب; والسّهولة وضدّها الصّعوبة; والبركة وضدّها المحق; والعافية وضدّها البلاء; والقوام وضدّه المكاثرة; والحكمة وضدّها الهواء; والوقار وضدّه الخفّة; والسّعادة وضدّها الشّقاوة; و التّوبة وضدّها الإصرار; والإستغفار و ضدّه الإغترار; والمحافظة وضدّها التّهاون; و الدّعاء و ضدّه الإستنكاف; والنّشاط و ضدّه الكسل; والفرح وضدّه الحُزن; والاُلفة وضدّها الفُرقة; والسخاء و ضدّه البخل; فلا تجتمع هذه الخصال كلّها من أجناد العقل، إلاّ في نبيّ أو وصيّ نبي، أو مؤمن قد إمتحن الله قلبه للإيمان، وأمّا سائر ذلك من موالينا فإنّ أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود حتّى يستكمل، وينفي من جنود الجهل. فعند ذلك يكون في الدرجة [ 95 ] العليا مع الأنبياء و الأوصياء; و إنّما يُدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده، وبمجانبة الجهل وجنوده. وفّقنا الله وإيّاكم لطاعته ومرضاته"(1). فالحديث أعلاه، حديث جامع لاُصول و فروع الأخلاق الإسلامية، وبحثها بعض المؤلّفين والكتّاب في كتب مستقلة. -- 2 ـ نقرأ في الكلمات القصار للإمام علي(عليه السلام)، في نهج البلاغة، عندما سُئل الإمام(عليه السلام)عن الإيمان، (يتبيّن من ذيل الحديث، أنّ المقصود من الإيمان هو الإيمان العلمي والعملي، الذي يشمل الاُصول الأخلاقيّة). أجاب الإمام(عليه السلام): "الإيمانُ عَلَى أَربَعِ دَعائِمَ، عَلَى الصَّبْرِ واليَقِينِ وَالعَدلِ وَالجِهادِ". ثم أضاف قائلاً: "والصَّبرُ مِنْها عَلَى أَربَعِ شُعَب، عَلَى الشَّوقِ وَالشَّفَقِ وَالزُّهدِ وَالتَّرَقُبِ". (الإشتياق للجنّة والمنح الإلهيّة، و الخوف من العقاب و النّار، دافعٌ للأعمال الصّالحة ورادع عن السيئات). و الزّهد بالدنيا وزبرجها يهوّن المصائب، و إنتظار الموت و نهاية الحياة، تحثّ الإنسان لِفعل الأعمال الصّالحة. وبعدها يضيف(عليه السلام): "واليَقِينُ مِنها عَلَى أَربَعِ شُعَب، عَلى تَبصِرَةِ الفِطْنَةِ وَتَأَوُّلِ الحِكْمَةِ وَمَوعِظَةِ العِبرَةِ وَسُنَّةِ الأَوَّلِينَ". ثمّ أضاف(عليه السلام): "وَالعَدْلُ مِنهـا عَلَى أَربَعِ شُعَب، عَلَى غَائِصِ الفَهمِ، وَغَورِ العِلمِ، وَزُهْرَةِ الحُكْمِ، وَرَساخَةِ الحِلْمِ". وقال(عليه السلام) خِتاماً: 1. أصول الكافي، ج1، ص20 إلى 23، ح14. [ 96 ] "وَالجِهادُ مِنهـا عَلَى أَربَعِ شُعَب، عَلَى الأمرِ بِالمَعرُوفِ والنَّهِي عَنِ المُنكَرِ، والصِّدقِ فِي المَواطِنِ، وَشَنآنِ الفَاسِقِينَ". وبعدها يبيّن شعب الكفر، و يشرحها واحداً تَلْو الآخر(1). فكما تلاحظون أنّ الإمام علي(عليه السلام)، رسم الاُصول الإسلامية للإيمان والكفر، بدقّة متناهية، و آثارها في المحتوى الداخلي للإنسان و على سلوكه الخارجي، و التي تشمل الأخلاق العمليّة، فذكر لكلّ فرع، فرعاً آخر، وتحليل هذه الجزئيات يتطلب كتابة مقالة اُخرى. 3 ـ نقرأ في حديث آخر عن الإمام علي(عليه السلام): "أَربَعٌ مَنْ اُعطِيهُنَّ فَقَدْ اُوتِيَ خَيرَ الدُّنيا والآخِرَةِ، صِدقُ حَدِيث وَأَداءُ أَمانة، وَعِفَّةُ بَطن وَحسنُ خُلُق"(2). 4 ـ - وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام)، في نفس هذا المعنى، بتلخيص أكثر، حيث جاء إليه أحد الأشخاص، و طلب منه أن يُعلّمه أمراً يكون فيه خير الدنيا و الآخرة، و بشكل موجز، فقال الإمام(عليه السلام) في معرض جوابه: "لا تِكْذِب تَكِذْبَ"(3). و الحقيقة هي كذلك، لأنّ جذور كلّ الفضائل تمتد إلى حديث الصّدق، فالإنسان لا يكذب على الناس ولا على نفسه ولا على الله تعالى، وعندما يقول في صلاته: (إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعِينُ )، ينبغي أن لا يكون فيها كاذباً أبداً، بل يبتعد عن كلّ ما هو شيطاني، و هوى النفس، وتكون حركته في دائرة خضوعه وتسليمه لله فقط، ولا يعتمد على المال والجاه والقدرة والمقام، ويترك ما سوى الله تعالى و يكون إعتماده الأوّل و الأخير على لطف الله تعالى ومعونته، فإذا أصبح الإنسان كذلك، فسوف يعيش الحياة المعنويّة في جميع فروع واُصول الأخلاق. -- 1. الكلمات القصار، نهج البلاغة، الكلمة 31 (مع التلخيص) وكذلك في اُصول الكافي، ج2، ص 391، باب دعائم الكفر وشعبه. 2. غرر الحكم. 3. تحف العقول، ص264. [ 97 ] الأخلاق في القرآن / الجزء الاوّل 5 ـ ونقرأ في الرّوايات الإسلاميّة تعابير مثل: "أفضل الأخلاق"، أو "أكرم الأخلاق"، أو "أحسن الأخلاق"، أو "أجمل الأخلاق"، وفي هذه إشارةٌ اُخرى لأقسام مهمّة من الاُصول الأخلاقيّة، منها: سئل الباقر(عليه السلام) عن أفضل الأخلاق، فقال: "الصَّبرُ والسّماحَةُ"(1). و في حديث آخر عن الإمام علي(عليه السلام)، قال: "أَكْرمُ الأَخلاقِ السَّخَاءُ وَأَعمُّها نَفعاً العَدْلُ"(2). و في حديث آخر عن الإمام علي(عليه السلام) أيضاً، قال: "أَشْرَفُ الخِلائِقِ التَّواضُعُ والحِلمُ وَلِينُ الجانِبِ"(3). و في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام)، حيث سئل: "أَيُّ الخِصالِ بِالمَرءِ أَجْمَلُ فَقالَ: وِقارٌ بلا مَهانَة، وَ سَماحُ بِلا طَلَبِ مُكافَاة، وَتَشاغُلٌ بِغَيرِ مَتاعِ الدُّنيا"(4). -- 6 ـ أيضاً في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام)، بيّن فيه اُصول الأخلاق السّيئة، وعبّر عنها باُصول الكفر، فقال: "اُصُولُ الكُفرِ ثَلاثَةٌ: الحِرصُ، والإِستِكبأرُ وَالحَسَدُ". وأردف قائلاً في بيان وتوضيح الاُصول الثلاثة: "فَأَمّا الحِرصُ فإِنَّ آدَمَ حَينَ نُهِيَ عَنِ الشَّجَرَةِ حَمَلَهُ الحِرصِ أَنْ أَكَلَ مِنها، وَأَمَّا الإِستِكبَارُ فَإبِلِيسُ حِينَ اُمِرَ بِسُّجُودِ لآدَمَ إِستَكبَرَ، وَأَمّا الحَسَدُ فَإبنا آدَمَ حَيثُ قَتَلَ أَحَدَهُما صاحِبَهُ"(5) 1. بحار الأنوار، ج36، ص358. 2. غرر الحكم. 3. المصدر السابق. 4. اُصول الكافي، ج2، ص240. 5. اُصول الكافى، ج 2، ص289. [ 98 ] و على هذا الأساس فإنّ مصدر جميع المصائب الكبرى، التي حدثت في عالم الإنسانية، منذ صدر الخليقة، هي هذه الصّفات الثّلاثة، فالحِرص :طرد آدم من الجنّة، والإستكبار: طرد إبليس عن ساحة القدس إلى الأبد، والحسد: هو أساس كلّ قتل و جناية حدثت في العالم -- 7 ـ و نختم كلامنا هذا بحديث عن الرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله) قال، الإمام الصادق(عليه السلام)، أنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) قال: "إِنَّ أَوَّلَ مَنْ عُصِيَ اللهُ عزَّوجَلَّ بِهِ سِتٌّ: حُبُّ الدُّنيا، وَحُبُّ الرِّياسَةِ، وَ حُبُّ الطَّعامِ، وَحُبُّ النَّومِ، وَحُبُّ الرَّاحَةِ، وَحُبُّ النِّساءِ"(1). -- لقد تبيّن من مجموع ما ذكر آنفاً، اُصول الفضائل و الرّذائل الأخلاقيّة، ولكن وكما يُستفاد من مجموع الرّوايات، أنّه لا يوجد عدد خاص و معيّن، لهذه القيم والمبادىء الأخلاقية، لأنّ الأخلاق الحسنة والقبيحة، لها دوافع ومقاصد متعدّدة و متنوعة ومختلفة، أو بعبارة اُخرى: كما أنّ الصّفات الجسميّة للإنسان، لا عدد ولا حصر لها، فكذلك الصّفات الروحانيّة، و الملكات الأخلاقيّة الصّالحة و الطّالحة، لا عدد ولا حصر لها. -- 1. بحار الأنوار، ج69، ص105، ح3. [ 99 ] 7 / إرتباط المسائل الأخلاقيّة مع بعضها 7 إرتباط المسائل الأخلاقيّة مع بعضها تنويه: غالباً ما تكون الفضائل الأخلاقيّة، مترابطةٌ في ما بينها برابطة وثيقة، كما هو الحال في الرّذائل وعلاقتها الوثيقة مع بعضها، وعلى هذا يصعب التّفكيك والفصل بينها في الغالب. و هذا التّرابط قد يكون بسبب الجُذور المشتركة بينها، وربّما يكون بسبب الّثمرات المترتبة عليها ونتائجها في حركة الإنسان والحياة. و في القسم الأول، وهو البحث في الجذور المشتركة بين القيم في المنظومة الأخلاقية، لدينا أمثلةٌ واضحةٌ، ففي كثير من الموارد، تكون الغيبة وليدة الحسد، ويسعى الحسود دائما لفضح وتعرية محسوده، و الإستهانة بشخصيته من موقع التّهمة والإفتراء و التّكبر، و التّحرك على مستوى تحقير و تهميش الآخرين، فكلّ هذه الرّذائل يمكن أن تكون من إفرازات الحسد أيضاً. و بالعكس، فمن كان يعيش علوّ الهمّة، و سمّو الطبع، فسوف لا يقف في مقابل الشهوات الرخيصة والطمع فيها فحسب، بل تكون لديه حصانةٌ ضدّ: الحسد و الكِبر والغرور والتملّق، أيضاً. و بالنسبة للنتائج و الثمرات، نرى هذا الإرتباط بصورة أوضح، فالكذب يمكن أن يكون مصدراً لأكاذيب اُخرى، و ربّما ولتوجيه أخطائه و ذنوبه، يرتكب الشخص أخطاءً اُخرى، و [ 100 ] يتحرك لُممارسة جرائم عديدة في عمليّة التّغطية على جُرمه الأول، وبالعكس، فإنّ العمل الأخلاقي مثل الأمانة، من شأنه أن يولّد المحبّة و الصّداقة والتعاون والإرتباط الوثيق بين أفراد المجتمع. ويوجد لدينا في الرّوايات إشارات إلى هذا المعنى، فنقرأ في حديث عن مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال: "إذا كَانَ في الرَّجُلِ خَلَّةٌ رائِعةٌ فانتَظِر أَخَواتِها"(1). و في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنّه قال: "إنَّ خِصالَ المَكارِمِ بَعضُها مُقَيَّدٌ بِبَعضِها". وأشار في ذيل هذا الحديث: "صِدْقُ الحَدِيثِ وَصِدْقُ البَأسِ وإِعطاءُ السَّائِلِ وَالمُكافَاتُ بِالصَّنَائعِ وأَداءُ الأَمانَةِ وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَالتَّوَدُّدَ إِلى الجارِ والصَّاحِبِ وقِرى الضَّيفِ وَرَأسُهُنَّ الحَياءُ"(2) وفي الواقع فإنّ الحياء، و هو روح النّفور من الذّنب و القّبائح، يمكن أن يكون مصدراً لجميع الأفعال الأخلاقية المذكورة أعلاه، كما أنّ الصّدق يُقرّب الإنسان للأمانة، و يعمّق فيه روح التّصدي للقبائح، ويثير في أعماق وجدانه، عناصر الخير و المحبّة مع الأقارب والأصدقاء والجيران. ونقرأ في حديثِ ثالث عن الإمام الباقر(عليه السلام)، أنّه قال: "إِنَّ اللهَ عَزَّوَجَلَّ جَعَلَ للشِّرِّ أَقفَالاً وَجَعَلَ مَفاتِيحَ تِلكَ الأَقفَالِ الشَّراب، وَالكِذْبُ شَرٌّ مِنَ الشَّرابِ"(3). وفيه إشارةٌ إلى أنّ الكذب، يمكن أن يكون مصدراً لأنواع كثيرة من الآثام و الذّنوب. و جاء ما يشبه هذا المعنى، في حديث عن الإمام العسكري(عليه السلام)، فقال: 1. بحار الأنوار، ج66، ص411، ح129. 2. المصدر السابق، ص375. 3. المصدر السابق، ج69، ص236، ح3. [ 101 ] "جُعِلَتْ الخَبَائِثُ في بَيت وَجُعِلَ مِفتَاحُها الكِذْبُ"(1). ونختم هذا الموضوع، بحديث عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، حيث جاء رجل إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقال له: يارسول الله إنّي إرتكبت في السّر أربع ذنوب، الزّنا و شرب الخمر و السّرقة والكذب، فأَيّتَهُنَّ شِئتَ تَركتُها لك، (لم يكن يريد أن يقلع عنها أجمع، وإكرماً للرّسول; يريد أن يقلع عن واحدة فقط؟!. فقال له الرسول(صلى الله عليه وآله): "دَع الكَذِبَ". فذهب الرجل، وكلما أراد أن يهمّ بالخطيئة، يتذكر عهده مع الرسول(صلى الله عليه وآله)، و يقول ربّما سألني، و عليّ أن أكون صادقاً في الجواب، فيجري عليّ الحدّ، و إن كذبت فقد نقضت العهد مع الرسول(صلى الله عليه وآله)، ممّا إضطّره أخيراً لتركها أجمع. فرجع ذلك الرجل للرسول(صلى الله عليه وآله)، و قال له: "قَدْ أَخَذتَ عَليَّ السَّبِيلَ كُلَّهُ فَقَد تَركتُهُنَّ أجمع"(2). و نستنتج ممّا ذُكر آنفاً: أنّه في كثير من الموارد، ولأجل تربية و تهذيب النّفوس و الأخلاق، أو لإصلاح بعضها، يجب أن نبدأ من الجُذور، و كذلك الإستعانة بالمقارنات و الأخلاق الاُخرى المتعلقة بها. -- 1. بحارالأنوار; ج 69، ص263. 2. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد; ج6، ص357. [ 102 ] [ 103 ] 8 / من أين نبدأ؟ 8 من أين نبدأ؟ تعرفنا على كلّيات علم الأخلاق، و نتائجه وآثاره و مقاصده و فُروعه، والآن آن الأوان، وبما لدينا من المعلومات والمعارف الكلّية، البِدء في طريق تهذيب النّفس، أو الإنتقال من المسائل الذهنيّة إلى ميدان الممارسة و التّطبيق، ومن الكلّيات إلى الجزئيات. ا ص104 - ص118ويجب التّوقف هنا، لتهيئة لوازم سفرنا الروحاني، حتى لا نصاب في سلوكنا لذلك الطّريقُ بالحيرة و الضّلالة وعدم التّنظيم و التّنظير، و عليه فلابدّ من الإلتفات إلى اُمور: 1 ـ ثلاثة رُؤى في كيفيّة التعامل مع المسائل الأخلاقيّة. 2 ـ هل يحتاج الإنسان في كل مرحلة إلى اُستاذ و مرشد؟ 3 ـ دور الواعظ الخارجي والواعظ الداخلي. 4 ـ الاُمور التي تُساعد الإنسان في عملية الوصول إلى هذا الهدف; مثل ذكر الله والعبادة والأدعية،الزّيارات، النصائح المتكررة، التلقين. 5 ـ طهارة المحيط. -- ثلاث نظريّات في كيفيّة التعامل مع المسائل الأخلاقيّة: النظريّة الأولى: رأيٌ يقول: إنّ تهذيب النفس، نوع من الجهاد و محاربة أعداء الداخل، الّذين يتحرّكون [ 104 ] لإيقاع الإنسان في مستنقع الرّذيلة، و شراك الخطيئة. هذا الرأي مقتبسٌ في الأصل، من حديث الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، المعروف، عندما خاطب الرسول(صلى الله عليه وآله)، قومٌ من المجاهدين، رجعوا لتوّهم من الغزو فقال: "مَرحَباً بِقَوم قَضَوا الجِهادَ الأَصغَرَ وَبَقيَ عَلَيهِم الجِهادُ الأَكبَرُ، فَقِيلَ يا رَسُولَ اللهِ، ما الجِهادُ الأكبرُ، قالَ: جِهادُ النَّفسِ"(1). وجاء في البحار في ذيل هذا الحديث: ثُمّ قَالَ(صلى الله عليه وآله): "أَفضَلُ الجِهادِ مَنْ جاهدَ نَفْسَهُ الَّتي بَينَ جَنْبَيهِ"(2). هذا وقد فُسّرت بعض الآيات التي وردت في دائرة الجهاد، بالجهاد الأكبر، إمّا لأنّها تخصّ الجهاد مع النفس، أو لمدلولها العام في حركة السياق القرآني، الذي يتناول القِسمين للجهاد. وجاء في تفسير القمي، في ذيل الآية (6) من سورة العنكبوت: (وَمَنْ جاهَدَ فَإنّما يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ )، قَالَ(عليه السلام): "و من جاهد نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَواتِ وَاللَّذَّاتِ وَ المَعاصِي"(3). ويمكن أن نستوحي هذا المعنى من هذه الآية، من حيث إنّ فائدة الجهاد تعود على الإنسان نفسه، ويتّضح ويتجلّى أكثر في الجهاد مع النفس، وخصوصاً أنّ الآية التي جاءت قبلها، تكلّمت عن لقاء الله: (وَمَنْ كَانَ يَرجُوا لِقاءَ اللهِ... )، ونعلم أنّ لقاء الله، و الشهود و القرب منه، هو الهدف الأصلي للجهاد مع النفس. و كذلك جاء في آخر آية من سورة العنكبوت: (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الُمحسِنِينَ ). وهذه الآية أيضاً ناظرةٌ حسب الظاهر إلى الجهاد الأكبر، وذلك لقرينة: (فينا)، و جملة: "لَنَهْدِيَنَّهُم سُبُلَنا"، أو تتضمن مفهوماً عاماً يستوعب كلا النَّحوين من الجهاد. وجاء أيضاً في الآية (78) من سورة الحج: (و جاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُم وَمَا 1. وسائل الشيعة، ج11، ص122 (باب 1، جهاد النفس). 2. بحار الأنوار، ج67، ص65. 3. تفسير القمي، ج2، ص148; بحار الانوار، ج67، ص65. [ 105 ] جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّينِ مِنْ حَرج ). فقد فسّر أغلب المفسّرين كلمة الجهاد بمعناها ومفهومها العام، الذي يشمل الجهاد الأصغر والأكبر، أو بخصوص معنى الجهاد الأكبر، وكما قال المرحوم العلاّمة الطّبرسي في كتابه مجمع البيان، أنّ أكثر المفسّرين ذهبوا إلى أنّ المقصود من حقّ الجهاد، هو إخلاص النيّة والأعمال والطّاعات لله تعالى(1). وقد ذكر العلاّمة المجلسي(رحمه الله) هذه الآية، في زمرة الآيات النّاظرة للجهاد الأكبر(2) كذلك. و جاء في الحديث المعروف عن أبي ذرّ(رحمه الله) أنّه قال: قُلتُ يا رسُولَ اللهِ أَيُّ الجِهادِ أَفضَلُ؟ فَقالَ(صلى الله عليه وآله): "أَنْ يُجاهِدَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَهَواهُ"(3). وكما ورد في حديث: جنود العقل وجنود الجهل، هذا المعنى أيضاً، إذ يُشبّه حياة الإنسان بساحةِ حرب، العقلُ جنوده في جهة، و الجهلُ و هوى النّفس و جنودهما في الجهة المقابلة، فهذان المعسكران، يعيشان دائماً في حالة حربِ سِجال، و من خلال هذا النّزاع، و معطيات حالات الصّراع في أعماق النّفس، تتولد الكمالات المعنويّة للإنسان، وذلك عندما ينتصر العقل وجنوده، و النّصر الآني، هو السّبب في التّقدم النّسبي للكمالات الإنسانيّة. -- النظريّة الثّانية: نظريّة الطّب الرّوحاني فقد ذهبوا إلى أنّ الرّوح كجسم الإنسان، تُصاب بأنواع الأمراض، و لأجل الشّفاء يتوجب اللّجوء إلى أطبّاء النّفس و الرّوح، والإستعانة بأدوية الأخلاق الخاصّة، حتى تبقى الرّوح سالمةً و نشطةً و فعّالةً. و الجدير بالذكر، أنّ القرآن الكريم أشار إلى الأمراض الأخلاقية و الروحية، في إثنى عشر موضعاً، و عبّر عَنها بالمرض(4)، ومنها الآية (10) من سورة البقرة، إعتبرت النِّفاق من 1. مجمع البيان، ج7، ص97. 2. بحار الأنوار، ج67، ص63. 3. ميزان الحكمة، ج2، ص141. 4. سورة البقرة، الآية 10; سورة المائدة، الآية 52; سورة الأنفال، الآية 49; سورة التوبة، الآية 125; سورة الحج، الآية 53; سورة النور، الآية 50; سورة الأحزاب، الآية 12 و 32 و 60; سورة محمد، الآية 20 و 29; سورة المدثر، الآية 31. [ 106 ] زمرة الأمراض الروحية، فقالت: (فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُم اللهُ مَرَضاً ); بسبب إصرارهم على النّفاق. وفي الآية (32) من سورة الأحزاب، و صفت عبيد الشّهوة بمرضى القلوب، الذين يتحيّنون الفرص لإصطياد النّساء العفيفات، حيث خاطب الباري تعالى نساء النبي(صلى الله عليه وآله)، فقال: (فَلا تَخْضَعنَ بِالقَولِ فَيَطمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ ). وجاء في الآيات الاُخرى نفس هذا المعنى، أو أوسع منه، بحيث تناولت الآيات، جميع الإنحرافات الأخلاقيّة و العقائديّة. و في معنى عميق آخر، عبّر القرآن الكريم، عن القلوب المليئة بنور المعرفة والأخلاق و التّقوى: بالقلوب السليمة. و جاء ذلك على لسان النّبي إبراهيم(عليه السلام)، حيث قال: (وَ لا تُخْزِنِي يَومَ يُبعَثُونَ * يَومَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ * إلاّ مَنْ أَتىْ اللهَ بِقَلب سَلِيم )(1). "السّليم" من مادة "السّلامة"، و تقع في مقابل الفساد و الإنحراف والمرض، و "القلب السّليم" كما جاء في الرّوايات عن المعصومين(عليهم السلام)، في تفسير هذه الآية، أنّه القلب الذي خَلا من غير الله تعالى، (منزّه من كلّ مرض أخلاقي وروحي). و قال القرآن الكريم في مكان آخر: إنّ إبراهيم(عليه السلام) عندما طلب من الباري تعالى: القلب السّليم، (كما أشارت الآيات الآنفة الذّكر)، تحقّق له ما يُريد، و شملته رحمة ولطف الله تعالى، وأصبح ذا قلب سليم، فنقرأ في الآيات (83 و 84) من سورة الصافات: (وإِنَّ مِنْ شَيعَتِهِ لاَبراهيم * إذْ جاء رَبَّهُ بِقَلب سَليم ). نعم، فإنّ إبراهيم(عليه السلام) كان يتمنى أن يكون ذا قلب سليم، و بالسّعي و الإيثار و محاربة الشرك، و هو النفس من موقع عبادة الله، إستطاع أن يصل بالنّهاية إلى ذلك المقام. -- و نجد في الأحاديث الإسلامية، إشاراتٌ كثيرةٌ حول هذا الموضوع، ومنها: 1. سورة الشعراء، الآية 87 الى 89. [ 107 ] 1 ـ يصف الإمام علي(عليه السلام)، الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في نهج البلاغة، فيقول: "طَبِيبٌ دَوّارٌ بِطِبّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَراهِمَهُ وَأَحمَى مَواسِمَهُ يَضَعُ ذِلِكَ حَيثُ الحاجة إِلَيهِ مِنْ قُلُوب عُمى و آذان صُمٍّ وَأَلسِنَة بُكْم، مُتَتَبِّعٌ بِدوَائِهِ مَواضِعَ الغَفلَةِ وَمَواطِنَ الحَيرَةِ"(1). 2 ـ ورد في تفسير القلب السّليم، الذي ذُكر في الايتين الشّريفتين أعلاه، رواياتٌ كثيرةٌ، فنقرأ أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)، سئل: ما القَلبُ السّلِيم. فقال(صلى الله عليه وآله): "دِينٌ بِلا شَكٍّ وَهُوىً، وَعَمَلٌ بِلا سُمْعَة وَرِياء"(2). ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر(عليه السلام): "لا عِلْمَ كَطَلَبِ السَّلامَةِ، ولاسَلامَةَ كَسَلامَةِ القَلبِ"(3). وجاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين(عليه السلام): "إِذا أَحَبَّ اللهُ عَبداً رَزَقَهُ قَلبَاً سَلِيماً وَخُلْقاً قَويمَاً"(4). 3 ـ وقد ورد التعبير عن الأخلاق الرّذيلة، في الروايات بأمراض القلب. فورد في حديث عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "إِيّاكُم وَالمراءَ وَالخُصُومَةَ فإنّهما يُمرِضانِ القُلُوبَ عَلَى الإِخوانِ، وَ يَنْبُتُ عَلَيهما النِّفاقَ"(5). وجاء أيضاً عن الإمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال: "ما مِنْ شَيء أَفْسَدَ لِلقَلبِ مِنْ خَطِيئَتِهِ"(6). 4 ـ ونقرأ عن الإمام علي(عليه السلام) أيضاً: "أَلا وَ مِنَ البَلاءِ الفاقَةُ، وَأَشَدُّ مِنَ الفاقَةِ مَرَضُ البَدَنِ، وَأَشَدُّ مِنْ مَرَضِ البَدنِ مَرَضُ القَلبِ".(7) 1. نهج البلاغة، الخطبة 108. 2. مستدرك الوسائل، ج1، ص103 (الطبعة الجديدة). 3. بحارالأنوار، ج75، ص 164. 4. غُرر الحِكم، ج3، ص167، (طبعة جامعة طهران). 5. بحار الأنوار، ج70، ص399. 6. المصدر السابق، ص312. 7. نهج البلاغة، الكلمات القصار، كلمة 388. [ 108 ] 5 ـ وجاء أيضاً عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، في معرض حديثه عن الحسد، و أنّه كان ولا يزال على طول التأريخ مرضٌ نفسي عضال، فقال: "أَلا إنَّهُ قَدْ دَبَّ إِلَيكُم داءُ الاُمَمِّ مِنْ قَبلِكُم وَهُوَ الحَسَدُ، لَيسَ بِحالِقِ الشَّعْرِ، لَكِنَّهُ حالِقُ الدِّينِ، ويُنجِي فِيهِ أَنْ يَكُفَّ الإِنسانُ يَدَهُ وَيَحْزُنَ لِسانَهُ وَلا يَكُونَ ذا غَمز عَلَى أَخِيهِ المُؤمِنُ"(1). 6 ـ و قد ورد في التّعبير عن الرذائل الأخلاقيّة، في كثير من الرّوايات بـ: "الدّاء" و مفهومها المرض، وجاء مثلاً في الخطبة (176) من نهج البلاغة، حيث يصف الإمام(عليه السلام) فيها القرآن الكريم: "فَإسْتَشفُوهُ مِنْ أَدوائِكُم... فَإِنَّ فِيهِ شِفاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالغيُّ والضَّلالُ". ونرى أيضاً هذا التعبير في روايات كثيرة اُخرى. -- و خلاصة القول، إنّ الفضائل و الرّذائل، و طبقاً لهذه النظرية و الرؤية، علامةٌ لسلامة و مرض الرّوح عند الإنسان، والأنبياء(عليهم السلام) والأئمّة المعصومين(عليهم السلام)، كانوا معلمي أخلاق، و أطباء نفسيين، و تعاليمهم تجسّد في مضمونها الدّواء النّافع و العلاج الشافي. و على هذا، فكما هو الحال في الطّب المادي، ولأجل الوصول إلى الشّفاء الكامل، يحتاج المريض إلى الدواء، و يحتاج إلى الحُمية من بعض الأكلات، فكذلك في الطّب النّفسي و الرّوحي الأخلاقي، يحتاج إلى الإمتناع عن أصدقاء السّوء، و المحيط الملّوث بالمفساد الأخلاقيّة، و كذلك الإمتناع عن كلّ ما يَساعد على تفّشي الفساد، في واقع الإنسان النفسي، و محتواه الداخلي. فالطّب المادي جعل العمليّة الجراحيّة كعلاج لبعض الحالات، و كذلك جعل الطّب 1. ميزان الحكمة، ج1، ص630. [ 109 ] الرّوحي الحدود و التّعزيرات و العُقوبات كوسيلة، ودواء رادع، عن الأعمال المنافيَة للأخلاق، و هي بِمنزلة إجراء العمليّة الجراحيّة في الطّب المادي. وكما نرى في الطّب المادي، أنّه جعل العلاج في مرحلتين، مرحلة الوقاية: و هي المحافظة على الصّحة البدنيّة، و الثّانية: مرحلة العلاج للمريض، فكذلك في الطّب الرّوحي و الأخلاقي، يمرّ بمرحلتين: مرحلة الإرشاد والتعليم من قبل معلمي الأخلاق، للمحافظة على نفوس الناس من التلّوث بالرذائل، و الثّانية: مرحلة العلاج للمذنبين الملوّثين بالرّذائل. و ما جاء في الخطبة (108) من نهج البلاغة، في وصف الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و معالجاته بالمراهم والكيّ للجروح، يبيّن مدى التّنوع في الطّب الرّوحي، كما هو الحال في الطّب المادي. ففي الطّب المادي (الجسماني)، توجد مجموعة إرشادات و أوامر كليّة لعلاج الأمراض، و قسمٌ من الأوامر التي تخص كلّ مرض بذاته، فكذلك الطّب الرّوحي، فالتّوبة و ذكر الله والعبادات الاُخرى، والمحاسبة والمراقبة للنفس، هي اُصولٌ كليّةٌ للعلاج، وكلّ مرض أخلاقي، نجد الأوامر والإرشادات الخاصة به، مذكورةٌ في الكتب الإسلاميّة و الأخلاقيّة. النظريّة الثالثة: نظريّة السّير و السّلوك وقد شبّه الإنسان في هذه النظريّة، بمسافر إنطلق من نقطةِ العدم، إلى لقاء الله تعالى، و يتحرك في سلوكه بهدف لقاء الله، و القرب من الذّات المقدّسة اللاّمتناهية. ففي هذا السّفر، و كما هو الحال بالنسبة لأسفارنا الماديّة، يجب تحضير المركب و المتاع، و إزالة الموانع التي تقف في الطّريق، و التّفكير في كيفية التّصدي للّصوص وقطاع الطّريق و الأعداء، للمحافظة على المال والأرواح، فهذا السّفر الرّوحاني و المعنوي، فيه منازل وطرق ملتوية وصعبة العبور، و مطبّاتٌ خطرةٌ، و لا يمكن العبور منه بسلامة، إلاّ بمعونة الدليل المطّلع و العارف بالطّريق، و العُبور منها واحداً بعد واحد حتّى الوصول إلى محطّ الرّحال ومنزل المقصود. و يصرّ البعض أنّ السّير و السّلوك إلى الله تعالى، و معرفته و منازله، و زاده و أدلاّئه، و [ 110 ] الطّريق الموصل إليه، هو علمٌ غير علم الأخلاق، و منفصلٌ عنه، ولكن و بنظرة أوسع، نرى أنّ السير و السّلوك الرّوحي، يلتقي في نفس الطّريق التي تهدف إليه التربية الأخلاقية، و تحصيل الفضائل في خط التّكامل المعنوي، أو على الأقل أنّ الأخلاق الإلهيّة هي أحد أبعاد السّير و السّلوك الرّوحاني. وعلى أيّة حال، فإنّ الآيات و الروايات، أشارت إلى هذه النّظرية أيضاً، ومنها: الآية (156) من سورة البقرة، حيث تقول: (الَّذِينَ إذا أَصابَتْهُم مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا للهِ وَإِنّا إِلِيهِ راجِعُونَ ). فمن جهة، يرى الإنسان نفسه أنّه مُلكٌ لله تعالى، و من جهة اُخرى، يرى نفسه أنّه مُسافر، و يتحرّك بإتّجاه الله تعالى شأنه. و نقرأ أيضاً في سورة العَلق: (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجعى )(1). وجاء في سورة الإنشقاق: (يا أَيُّها الإنسانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدحاً فَمُلا قِيهِ )(2). و جاء في سورة الرّعد: (رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيرِ عَمَد تَرَونَها... يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُم بِلَقاءِ رَبِّكُم تُوقِنُونَ )(3). ويوجد أكثر من (20 آية)، تحدثت عن أن لقاء الله تعالى، في الواقع هو مقصود السّالكين إلى الله والعارفين به، و يعني اللّقاء المعنوي و الرّوحي مع المحبوب، و المقصود الذي لا مثيل له. و صحيحٌ أنّ هذه الآيات، و آياتُ الرّجوع إلى الله تعالى، تستوعب جميع هذه المعاني، ولكن هذا لا يمنع من أنّ سير وسلوك المؤمن و الكافر، من ناحية الفِطرة والخلقة، هو بإتّجاه الباري تعالى، فبعضٌ ينحرف عن طريق الفطرة، فيسقط في واد سحيق، ولكن أولياء الله و مع إختلافهم بالمراتب، يصلون إلى المقصود، مثل الحيامن التي تسير جميعاً في عالم الرّحم لِتكوين الجَنين، فبعضها تموت في المراحل الأولى بسبب بعض الآفات، و تتوقف عن الحركة، وبعضها يستمر في طريقه، ليصل أحدها إلى الهدف. و أفضل و أوضح من هذه التّعابير، هو تعبير القرآن الكريم، حيث يقول: (إِنَّ خَيرَ الزَّادِ 1. سورة العلق، الآية 8. 2. سورة الإنشقاق، الآية 6. 3. سورة الرّعد، الآية 2. [ 111 ] التَّقوى )، (وعادةً كلمة: الزّاد، تقال للطعام الذي يحمله المسافر معه، ولكنّها في الأصل موضوعةٌ لمعنى أشمل: بحيث تشمل كلَّ ذخيرة). و على هذا الأساس يقول: إنّ التّقوى هي خيرُ الزّاد، و هي إشارةٌ إلى سير الإنسان في طريق التّوحيد الخالص، و على كلّ حال فإنّ هذا السّفر الرّوحاني يحتاج إلى زاد، وزاده لابدّ وأن يكون معنوياً أيضاً. و نرى مثل هذا التعبير، واردٌ بكثرة في الرّوايات الإسلاميّة. و في موارد متعدّدة من نهج البلاغة، أتى ذكر التّزود للآخرة: ففي الخطبة (157) يقول الإمام(عليه السلام): "فَتَزَوَّدوا فِي أَيّامِ الفَناءِ لأَيَّامِ البَقَاءِ". وفي الخطبة (132) نرى تعبيراً أوضح، فيقول(عليه السلام): "إِنّ الدُّنيا لَمْ تُخْلَقُ لَكُم دارَ مُقام، بَل خُلِقَتْ لَكُم مَجازاً لِتَزَوَّدُوا مِنها الأَعمَالَ إِلَى دارِ القَرارِ". وجاء في الخطبة (133)، تعبير ألطَف و أدَق، فقال(عليه السلام): "وَالبَصِيرُ مِنها مُتَزَوُّدُ والأَعمى لَها مُتَزَوُّدُ". وهناك آيات في القرآن الكريم، يمكن أن تحمل في مضمونها إشاراتٌ لهذه النظريّة، و منها: (صِراطُ العَزِيزِ الحَميدِ )(1)، و (الصِّراطُ المُستَقِيمَ )(2)، و (سَبِيلِ اللهِ )، موجودةٌ في آيات كثيرة من القرآن الكريم، و(لِيَصُدّوا عنْ سَبِيلِ اللهِ )(3)، وأمثالها يمكن الإشارة بها إلى هذه النظرية. -- 1. سورة إبراهيم، الآية 1. 2. فاتحة الكتاب، الآية 6. 3. سورة الأنفال، الآية 36. [ 112 ] [ 113 ] 9 / تنوع الطرق لأرباب السير والسلوك 9 تنوع الطّرق لأرباب السّير و السّلوك من الجدير بالذكر، أنّ أرباب السّير و السّلوك، و العلماء الذين سلكوا هذا الطريق، وإتخذوا من القرآن الكريم و السّنة الشّريفة دليلاً لهم، (لا الصّوفيين الذين تأثروا بالمذاهب غير الإسلاميّة الأجنبيّة)، فكلّ واحد من اُولئك الأفاضل إقَتَرح طريقةً تختص به، أو بتعبير أدق، إتّخذوا منازل و مراحل، سنأتي بها بصورة ملخّصة، حتّى يكتمل البحث، و يكون أكثر فائدة: 1 ـ السّير و السّلوك المنسوب: "للسيد بحر العلوم" هناك كتاب منسوب للعلاّمة الفقيه العالم: "السيد بحر العلوم"، و رغم أنّ بعض أبحاثه لا يمكن القول بصدورها منه، إلاّ أنّ بعض أقسامه و الحقّ يقال، في غاية الأهميّة، فقد ذكر السّيد في هذا الكتاب أربعة عوالم و منازل، مهمّة للسّير و السّلوك إلى الله تعالى، و القرب منه، وهي: 1 ـ الإسلام. 2 ـ الإيمان. 3 ـ الهجرة. 4 ـ الجهاد. [ 114 ] و كلّ واحد من هذه العوالم الأربعة، ذكر له ثلاث مراحل، فيصبح المجموع إثني عشرةَ مرحلةً، و بعد تجاوز هذه المراحل الإثني عشر، يصل السّالك إلى الله، و إلى عالم الخُلوص والفناء، والمراحل أو المنازل الإثني عشر هي: المنزل الأول: الإسلام الأصغر، والقصد منه هو إظهار الشّهادتين و التّصديق بهما في الظّاهر، و أداء الوظائف الدينيّة. المنزل الثاني: الإيمان الأصغر، وهو عبارة عن التّصديق القلبي والإعتقاد الباطني بكل المعارف الإسلاميّة. المنزل الثالث: الإسلام الأكبر، و هو عبارةٌ عن التّسليم في مقابل كلّ حقائق الإسلام، و الأوامر و النّواهي الإلهيّة. المنزل الرابع: الإيمان الأكبر، و هو عبارةٌ عن روح ومعنى الإسلام الأكبر، و الّذي ينتقل من مرتبة الطاعة، إلى مرتبة الشّوق و الرّضا و الرّغبة. المنزل الخامس: الهجرة الصّغرى، و هي الإنتقال من "دار الكفر"، إلى "دار الإسلام"، و هي شبيهةٌ بهجرة المسلمين، من مكّة التي كانت مقرّ للكفار إلى المدينة. المنزل السّادس: الهجرة الكبرى، و هي الهجرة والإبتعاد عن أهل الذنوب والعصيان، وعدم الجلوس مع الظّالمين والملّوثين. المنزل السابع: الجهاد الأكبر، و هو عبارةٌ عن محاربة جنود الشّيطان، بالإستمداد من جنود الرّحمان، و هي جنود العقل . المنزل الثامن: منزل الفتح و الظّفر على جنود الشيطان، و التّحرر من سلطتهم، و الخروج من عالم الجهل و الطّبيعة. المنزل التاسع: الإسلام الأعظم، و هو عبارةٌ عن الغلبة على جنود الشّهوة والآمال البعيدة، فتنتصر العوامل الموقظة الخارجية، على العوامل الإنحرافيّة الداخليّة، و هنا يكون القلب، مركزاً للأنوار الإلهيّة، و الإضافات الرّبانيّة. المنزل العاشر: الإيمان الأعظم، وهو الفناء في الله تعالى، ومرحلة الدّخول في عالم: [ 115 ] (فآدخُلِي فِي عِبادِي وادخُلِي جَنَّتِي )، وعندها تظهر حقيقة العبوديّة لله تعالى في واقع النّفس. المنزل الحادي عشر: الهجرة العظمى، و هي هجرة الذّات و نسيانها، و السّفر إلى عالم الوجود المطلق، و التّوجه الكامل للذّات المقدّسة للباري تعالى، و هي الّتي تدخل في جملة خطاب: (وادخُلِي جَنَّتِي ). المنزل الثّاني عشر: الجهاد الأعظم، فبعد هجرة الذّات، يتوسل بالله تعالى أن يمحو كلّ آثار الأنا، و يضع القدم على بساط التّوحيد المطلق. فبعد أن تُطوى هذه العوالم الإثنا عشر، يدخل في عالم الخُلوص، و يكون مصداقاً لقوله تعالى: (بَل أَحياءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ ).(1) -- كيفية السّير و السّلوك في هذه الطريقة: في رسالة السّير و السّلوك المنسوبة للعلاّمة بحر العُلوم، و بعد ذكره للعوالم والمنازل المذكورة آنفاً، يتطرق إلى كيفية السّير في هذا الطريق الصعب، و الملىء بالمفاخر، و يذكر (25) أمراً للوصول إلى المقاصد العليا، ونذكرها بشكل مختصر: فالسّالك إلى الله تعالى، و المريد للقرب منه، لأجل الوصول إلى هذه العوالم، وبعد إطّلاعه الكامل على اُصول الدين و فروعه، و أحكامه الإسلامية من الطُرق المعتبرة، يشدُّ الرحال ويأخذ طريقه في عملية السّلوك، من خلال الإلتزام بالمراحل الـ (25)، ليصل إلى المقصود: أولاً: ترك الآداب و الرّسوم والعادات التي تقف عقبةً في الطريق، وتغرقه في بحر الآثام. ثانياً: العزم القاطع للسّير في هذا الطّريق، فلا يخاف شيئاً، و لايتردّد، وليعتمد على لُطف الله تعالى. ثالثاً: الرّفق و مُداراة النّفس، فلا يحمّلها أكثر من طاقتها، كي لا تنفر ولا تنطفيء جذوتها، 1. للإطّلاع، يرجى مراجعة: رسالة السّير و السّلوك للمرحوم السيّد بحر العلوم(قدس سره)، و فيه تفاوت و إختلاف بينه و بين رسالة العلاّمة الطباطبائي، لبّ اللّباب، وهنا في الواقع تلفيق من الإثنين. [ 116 ] ولئلاّ تنقطع عن المسير. رابعاً: الوفاء، وهو الوفاء بالبقاء على العهد في التّوبة، و تركه للذّنوب وَ عدم العودة إليها، وليكون وفيّاً مع اُستاذه أيضاً. خامساً: الثّبات و الدّوام، يعني الدّوام على ما إختاره من برامج لنفسه، حتى تُصبح عادةً عنده، و ليغلق طريق العودة على نفسه. سادساً: المُراقبة، وهي عبارة عن الإنتباه لنفسه في كل الاُمور و الأحوال، ولِئّلا تصدر منه المخالفة. سابعاً: المحاسبة، كما جاء في حديث: "لَيسَ مِنّا مَنْ لَم يُحاسِبْ نَفسَهُ كُلَّ يَوم"(1). ثامناً: المؤآخذة، حيث يوآخذ نفسه في كلّ خطأ يصدر منه ويعاقبها. تاسعاً: المسارعة، يعني يعمل بمقتضى أمر: (سَارِعُوا إِلى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُم )(2)، الوارد في القرآن الكريم، فيُسارع في كلّ خير، لئلاّ يسبقه الشّيطان ويوسوس له في تركه. عاشراً: خُلوص الباطن، وهو تطهير الباطن، بحيث لا يكون أدنى غش في قلبه، والحب التام لرسول الله(صلى الله عليه وآله) صاحب الشّريعة، و الأوصياء المعصومين(عليهم السلام). الحادي عشر: الأدب، حفظ حُرمة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و أوصياءه المعصومين(عليهم السلام)، بحيث لا يلفظ بلفظ يدل على عدم الرّضا منهم، و الإعتراض عليهم(عليهم السلام)، و حفظ حرمة الأكابر، ولبيان حاجته في الدّعاء لا يستعمل ألفاظاً تدل على الأمر والنّهي. الثاني عشر: النيّة، و تعني إخلاص القصد في هذا المسير و الحركة، و جميع الأعمال لله تعالى. الثالث عشر: الصّمت، ويعني الإكتفاء بالمقدار اللاّزم من الكلام. الرابع عشر: الجوع و قلّة الأكل، و هو من الشّروط المهمّة لسلوك هذا الطريق، ولكن ليس للحدّ الذي يبعث على الضّعف وعدم القدرة. 1. إرشاد القلوب للديلمي، باب 39. 2. سورة آل عمران، الآية 133. [ 117 ] الخامس عشر: الخلوة، و هي عبارةٌ عن العزلة عن أهل العصيان، و طلاّب الدنيا و أصحاب العقول الناقصة، و التّوجه الخالص لله عند العبادة و الذّكر، و الإبتعاد عن الضّوضاء و عناصر التّشويش الذهني. السادس عشر: السّهر، و خصوصاً في الثّلث الأخير من الليل، الذي أكدّت عليه الآيات و الرّوايات. السابع عشر: الدّوام على الطّهارة، وهو أن يكون على وضوء دائماً، حيث ينوّر الباطن بأنوار خاصّة. الثامن عشر: التّضرع لله تعالى، والتحرك على مستوى اظهار الخضوع له، أكثر و أكثر. التاسع عشر: عدم إعطاء النفس ما تريد و إن كان مُباحاً، بالقدر الذي يستطيع. العشرون: كتمان السّر، وهو من أهم الشّروط، و هو ما يؤكد عليه أساتذة هذا الأمر، حتى لا يجرّ الإنسان للرياء و التّظاهر، وإذا ما حصلت له المكاشفة، يجب أن لا يخبر أحد لئلاّ يُصاب بالعجب. الواحد والعشرون: يجب الإلتزام في عمليّة السّلوك المعنوي باُستاذ، سواء كان الأستاذ عامّاً للسّير و السّلوك أو خاصّاً، و هو رسول الله(صلى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومين(عليهم السلام). و يجب على السّالك الإنتباه إلى أنّ هذه المرحلة، هي مرحلةٌ دقيقةٌ جداً، حتى لا يختبر أحداً و لا يطّلع على صلاحيّته العلميّة و الدينية، ولا يعمتد على إرشاداته بصورة كليّة، لأنّه يوجد بعض الشياطين يتلبّسون بلباس الأساتذة، وذئاب تلبس ثوب الرّاعي، فتحرف السّالك عن الجادّة. ويقول المرحوم العلاّمة الطباطبائي في هذا المجال: إنّ الإطّلاع على العلوم والأسرار الغريبة، و ما وراء الطّبيعة وأسرار الإنسان، والمشي على الماء والنار والإخبار بالمغيّبات، كلّها لا تؤكد أنّ ذلك الإنسان قد وصل إلى مرحلة الكمال، لأنّ كلّ تلك الاُمور تحصل في مرتبة المكاشفة الرّوحيّة، و الطّريق طويل حتّى الوصول إلى الكمال. الثاني والعشرون: "الأوراد"، و هي عبارةٌ عن الأذكار التي تفتح للسّالك الطّريق و المرور [ 118 ] من المطّبات الصّعبة، و تعينه في المسير إلى الله تعالى. الثالث والعشرون: نفي الخواطر، وهو تسخير القلب، والحكومة عليه و الّتمركز الفكري، بحيث لا يمر من خاطره شيء، إلاّ بإختياره وإذنه، أو بتعبير آخر، لا يشغل تفكيره الأفكار المُشوّشة، و هو من الاُمور الصّعبة. الرابع والعشرون: التّفكر، والقصد منه أنّ السّالك يسعى من خلال التّفكير الصحيح، و العميق، في إكتساب المعرفة الحقّة، ويحصر تفكيره في عالم الصّفات، والأسماء الإلهيّة و تجلّياته و أفعاله. الخامس والعشرون: الذِكّر، و المراد منه التّوجه القلبي للذّات المقدّسة للباري تعالى، وليس الذّكر اللّساني الذي يسمّى بالوِرد، أو بعبارة اُخرى، يكون كلّ نظره جمال الإله، ولا يرى شيئاً غيره. هذه هي خلاصة، ما نسب للعلاّمة بحر العلوم في دائرة السّير و السّلوك، و تبعه في ذلك مع إختلاف يسير، العلاّمة الطّباطبائي، و ذلك كما جاء في رسالته "لبّ اللباب". -- 2 ـ طريقة المرحوم الملكي التّبريزي وهو المرحوم "الحاج ميرزا جواد الآقا تبريزي"، وهو من الاساتذة المعروفين في السّير و السّلوك إلى الله، و قد إنتهج في رسالته (لقاء الله)، نهجاً يختلف عمّا جاء به في الرّسالة المنسوبة للعلاّمّة بحر العلوم. فهو يُذكر في البداية، أنّ لقاء الله هو الغاية القصوى، و الهدف الأعلى، للسّير و السّلوك، و يستشهد لذلك بآيات متعدّدة من القرآن الكريم، وكذلك بالروايات الكثيرة لُمدّعاه، و يصرّح بأنّ لقاء الله تعالى ليس هو المشاهدة العينية، لأنّ الباري تعالى منزّه عن الكيفيات التي توجب رؤيته بالبصر، و لا هو لقاء النّعيم و الثّواب في يوم القيامة، بل هو نوع من "الشّهود"، واللّقاء القلبي والروحي والمشاهدة بالبصيرة. ا ص199 - ص135[ 119 ] وبعدها يقترح برنامجاً للسّير في هذا الطريق الطويل، و المحفوف بالمخاطر، و يتلخص في عدّة اُمور: 1 ـ العزم والنيّة لسلوك هذا الطريق. 2 ـ التّوبة النّصوح من الأعمال السّالفة، و هي التّوبة التي تنفذ في أعماق الوجدان و الوعي، في واقع النفس، و تعمل على تغييره، و غسل آثار الذّنوب وأدران الخطايا من جسمه وورحه. 3 ـ حمل الزّاد للطريق، و ذكرَ له عدّة برامج: الف: صباحاً، المشارطة: (يشرط على نفسه أن لا يمضي إلاّ في طريق الحق)، وفي النّهار المراقبة: (الإنتباه لئلاّ يحيد عن الطريق)، ومساءاً المحاسبة: (لنفسه على ما فعله في النّهار). ب ـ التّوجه للأوراد و الأذكار، و وظائف اليقظة والمنام. ج ـ التّوجه لصلاة اللّيل، و الخَلوة بالله تعالى، و إحياء الليل وترويض النفس في حالات النوم والأكل، بحيث لا يتجاوز عن الحدّ الضروري. 4 ـ الإستفادة من سوط السّلوك، و هو عبارة عن مُؤاخذة النّفس و توبيخها، لتوجُّهِها للدنيا و تقصيرها في طلب الحق، و عدم وفائها، و إطاعة الشّيطان في معصية الله تعالى، ويستغفر الله على كلّ ذلك ويعزم على السّعي في طريق الإخلاص والإيمان و الصلاح. 5 ـ عند التّحول، وفي هذه المرحلة، و قبل كلّ شيء، يجب أن يفكّر في الموت، ليميت حبّ الدنيا في قلبه و يصلح الصّفات القبيحة عنده، و هو دواءٌ نافعٌ في هذا المجال، (وبعدها يفكر في عظمة الله وأسماءه و صفاته، ويذكر أولياء الحق، وليسعى بأن يُشابِههم في صفاتهم). 6 ـ عند القرب من منزل المقصود، يشير إلى أنّ الإنسان لديه ثلاثة عوالم: 1 ـ عالم الحسّ والطّبيعة. 2 ـ عالم الخيال والمثال. 3 ـ عالم العقل والحقيقة. فعالم الحسّ و الطّبيعة كلّه ظلمات، وإذا لم يعبره فلن يستطيع الوصول لعالم المثال، و هو العالم الذي تكون فيه الحقائق لها صورٌ عاريةٌ عن المادّة. [ 120 ] وما دام يراوح في عالم المثال، فلن يستطيع الوصول إلى عالم العقل، الذي هو عالم الحقيقة والأصل للنفس الإنسانية، الذي لا صورة ولا مادة فيه، فإذا وصل لعالم العقل، و أدرك نفسه خاليةٌ عن المادة و الصّورة، فسيصل إلى معرفة الباري تعالى، و يكون مصداق لقوله: "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ(1)"(2). -- 3 ـ طريقةٌ اُخرى في رسالة "لقاء الله" للعالم والمحقق الكبير، الآقا المصطفوي، أشار إلى برنامج آخر للسّير و السّلوك، في رسالته الجامعة و الغنية، و المعتمدة على الآيات والأخبار، حيث أشار أولاً إلى الآيات المتعلّقة بلقاء الله، وبعدها شرع في تفسير معنى اللّقاء; أنّ المراد منه اللّقاء المعنوي و الرّوحي، وأضاف أنّ الإنسان ولأجل وصوله للقاء الله تعالى في هذا السير المعنوي، عليه أن يكسر حدود المادة والمكان و الزّمان، و كذلك الحدود الذّاتية لكلّ المُمكنات، و يفنى في عالم اللاّهوت، و يكون المخاطب لقوله تعالى: (يا أَيَّتُها النَّفسُ المُطمَئِنَّةُ ارجَعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرضِيَّةً فادخُلِي فِي عِبـادِي و ادخُلي جَنَّتي )(3). و أقترح خمسة مراحل للوصول إلى المقصود الأكبر: المرحلة الاُولى: التّحرك على مستوى تكميل وتقوية الإعتقادات، و التّوجه الخاص لاُصول الدّين. المرحلة الثانية: التّوبة من الذنوب، و التّحرك من هذا الموقع للإتيان بالأعمال الصّالحة وأداء الواجبات. المرحلة الثالثة: السّعي الجاد لتطهير النّفس من الرذائل، و تحليتها بالفضائل الأخلاقية. 1. بحار الأنوار، ج2، ص32. 2. للتفصيل يرجى الرجوع إلى رسالة لقاء الله المرحوم التبريزي(قدس سره). 3. سورة الفجر، الآية 27 إلى 30. [ 121 ] المرحلة الرابعة: محو الأنانيّة، و الفناء في مُقابل عظمة الحق. و في هذه المرحلة التي ينقطع الإنسان فيها عن التّعلقات المادية، من الأهل والأموال والأولاد واللّذات، تكون الشّهوات الماديّة و الخياليّة قد تغيّرت و تبدّلت، إلى تعلّق و إرتباط روحي ومعنوي، والذي يبقى هو التّعلق بالذّات و النّفس، و هذا التعلّقً متجذّر و قويّ لدرجة كبيرة جدّاً، ولشدّة ظهوره: خفي، و تبقى ملاحظةٌ واحدةٌ و هي، أنّ هدف السّالك في جميع هذه المراحل هو الوصول إلى لقاء الله، وفي الواقع والباطن أنّ كلّ عمل يكون قد أدّاه هو له ولنفسه. وبعبارة اُخرى: كان يُريد الوصول إلى المقامات العليا، و القُرب من الله تعالى، و الحصول على الكمالات المعنوية و الروحية، فكلّ ذلك كان بدافع النّفس و الذّات، و ليس لِلهدف الأصلي، و لذلك فهو عند وصوله لمثل هذا المقام يفرح غاية الفرح، ولكن إذا وصل غيره إلى هذا المقام، فسوف لن يكون فرحاً لهذا الحد، وهنا يجب أن تُحذف "الأنا" و تُنسى، ويكون المحبوب للسّالك هو تجلّي الله سبحانه، لا من خلال حبّ الذّات، أو بعبارة أوضح، يجب أن تُمحى "الأنا"، و هي الحِجاب الأكبر و المانعُ الأقوى، و آخر الحُجب للوصول إلى الله تعالى ولقائه. ولإزالة هذا المانع، توجد عدّة طرق: 1 ـ طريق التّوجه القلبي لله تعالى، و التّوحيد الذّاتي و الصّفاتي والأفعالي، و منه يفهم أنّ غيره لا شيء في مُقابله. 2 ـ التّفكر و الإستدلال للوقوف بوجه "الأنانية" وحجاب النفس، بمعنى أن يرى أنّ الله تعالى غير محدود بحدٍّ، و هو الأزلي و الحقّ المطلق، والنفس هي الموجود المحدود في كلّ شيء، و في منتهى الضّعف و العجز و الفقر والحاجة إلى الله تعالى، ومن دون المدد الإلهي فإنّها لا تستطيع الصّمود و لا لِلِحظة واحدة. 3 ـ المعالجة بالأضداد، بمعنى أنّه كلّما أحسّ بوجود "الأنا" في وعيه، يعالج هذا الموقف بالتّوجه لله و الصّالحين من عباده، لكي يعيش في الحضور الدّائم مع الباري تعالى. المرحلة الخامسة: في هذه المرحلة يصبح السّالك إنساناً ملكوتياً، و يدخل في عالم [ 122 ] الجبروت!. و القصد من الدخول في مرحلة الجبروت، هو أنّ الإنسان يصل إلى مرحلة من الصّفاء و الإخلاص، يكون فيها مندّكاً في ذاتِ الله تعالى، وله نفوذٌ و سلطةٌ على الاُمور، فيتحرك في أداء وظائفه الإلهيّة، و إرشاد الناس، و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من موقع المسؤولية و الإنضباط في خط الرّسالة، و يكون على بصيرة كاملة من أمره. أو الأحرى، ينسى نفسه، ويكون على علم بكلّ المسائل والوظائف والأحكام والآداب الشرعية، و طرق السّير و السّلوك، و يكون تشخيصه لِلأمراض والأدوية دقيق جدّاً، كالطّبيب الحاذق الذي يعرف الدّاء و الدّواء و يشخصه جيّداً(1). و الجدير بالذّكر أنّه قد استدلّ لكلّ هذه المطالب في كتابه، بالآيات و الرّوايات الإسلاميّة، كشاهد على مُدّعاه. خلاصة ما تقدم من مذاهب السّير و السّلوك: يُستفاد ممّا تقدّم من تعليمات أرباب هذا الفن، و الطريق: (الذين مشوا في نهج الإسلام الأصيل وطريق أهل البيت(عليهم السلام) لا المتصوفة)، اُصولٌ مشتركةٌ في عمليّةِ السّيرِ و السّلوك إلى الله و هي: 1 ـ أنّ الهدف الأصلي، هو لقاء الله وشهود ذاته المقدسة، بالبصيرة و الحُضور الروحي المعنوي عنده. 2 ـ للوصول لهذا الهدف، ينبغي التّحرك أولاً من موقع التوبة من جميع الذنوب و الرذائل الأخلاقية، و التّحلي بالفضائل. 3 ـ في هذا الطريق يجب أن لا ينسى الآداب الأربعة: المشارطة، والمراقبة، والمحاسبة، و المعاقبة، يعني يُشترط في الصّباح على نفسه، أن لا يذنب ولا يخالف رضا الباري تعالى، و يراقب نفسه في طول النّهار و في اللّيل و عند النوم، يجلس للمحاسبة، و إذا ما صدرت منه مخالفةٌ يعاقب نفسه بتركه لأنواع اللّذائذ. 4 ـ التّصدي لهوى النفس من موقع المخالفة، لأنّ الهوى هو من أكبر السّدود في هذا 1. للإطّلاع، يرجى الرجوع إلى كتاب: "لقاء الله"، للعلاّمة الكبير المُصطفوي. [ 123 ] الطّريق، و مخالفته هي من أوجب الواجبات. 5 ـ التّوجه لأذكار و أوراد وردت في الشّرع المقدس، و أمثال: "لا حَولَ وَلا قُوَّةَ بِالله"، و ذكر "لا إِلـهَ إِلاّ أَنْتَ سُبحانَكَ إِنَّي كُنتُ مَن الظَّالِمِينَ"، وذكر "يا الله" و"يا حَيُّ" "يا قَيُّوم" وهي الزاد في هذا الطّريق و السبب للقوّة. 6 ـ التوجه القلبي لحقيقة التّوحيد للذات و الصّفات و الأفعال لله تعالى، و الغرق في صفات كماله وجماله، وهي زاد آخر لهذا الطريق الوعر المليء بالمطبّات و التّحديات الصعبة. 7 ـ كسر أكبر الأصنام، و هو صنم الأنانيّة و الّذات الفرديّة، و هو من أهم الشّروط للوصول للمقصود. 8 ـ و قد إشترط البعض الإستعانة بالاُستاذ، و السّير في هذا الطريق تحت إشرافه، فيكون كالطبيب الذي يعمل على معالجته، والبعض لا يعتمدون على الاُستاذ، و حصل في كثير من الموارد، و للأسف الشديد، الوقوع في حبائل الشيطان، و ذلك بسبب الإعتماد على الاُستاذ، حيث يعتبرونه كالملاك، فيذهب دينهم وإيمانهم وأخلاقهم إدراج الرّياح!. و يرى البعض الآخر، أنّ وظيفة الإرشاد والسير على هدي الأنبياء والأولياء، والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، هي آخر المراحل، ولكن كثيراً منهم لم يذكروا شيئاً، وتركوا السّالك بحاله. والغرض من الإتيان بهذا البحث، في المباحث الأخلاقية، في هذا الكتاب، هو: أولاً: سرد عصارة من التّفكرات التي لها علاقة بالمباحث الأخلاقية، حتى يتنور القاريء ويتحرك في طريق التّهذيب و إصلاح الذّات. ثانياً: نحذّر طلاب الحقيقة، أنّ الحدّ بين الحقّ و الباطل ضيئل جدّاً، فكثيرٌ من الشّباب من ذوي القلوب النّقية، كان هدفهم الوصول إلى الحقّ و العين الصّافية، ولكنّهم إنجرفوا في طريق الضّلالة، و تركوا طريق العقل و الشّرع، ولذلك تاهوا في وادي الحيرة، و غرقوا في مستنقع الخطيئة، ولم يسلموا من مخالب الذّئاب الضّارية، الذين يرتدون مسوح الزّهد و القداسة، فأضاعوا وفقدوا كلّ ما لديهم. -- [ 124 ] [ 125 ] 10 / هل يلزم وجود المرشد في كلّ مرحلة 10 هل يلزم وجود المُرشد في كلّ مرحلة؟ يعتقد كثير من أرباب السّير و السّلوك، أنّ السّائرين في طريق الكمال و الفضيلة، و التقوى و الأخلاق، والقرب إلى الله تعالى، يجب أن يكونوا تحت إشراف الاُستاذ والمرشد، كما ذكر في رسالة السّير والسلوك للعلاّمة بحر العلوم، و رسالة لبّ الألباب للمرحوم العلاّمة الطّباطبائي، في الفصل الحادي والعشرون من وظائف السّائر إلى الله، هو التّعليم و التعلم تحت نظر وإشراف الاُستاذ، سواء كان الاُستاذ عالِم كالعلماء الذين مشوا في هذا الطريق، أم الأساتذة الخصوصيين، و هم الأنبياء الأئمة و المعصومين(عليهم السلام). ولكن المطّلعين من أهل الفن، يُحذّرون السّائرين على طريق التّقوى و التّهذيب، من عدم الإلتجاء بسهولة لأيٍّ كان، وإذا لم يطمئنّوا إطمئناناً كافياً، ولم يختبروا صلاحيتهم العلميّة والدينية، فلا يسلّموهم أنفسهم، ولا يكتفوا حتى بإخبارهم للمستقبليات، و لا أعمالهم غير الطبيعيّة، ولا حتى مرورهم على الماء والنار، لأنّ صدور هذه الأعمال ممكن من المرتاضين غير المهذّبين أيضاً. وقال البعض الآخر: إنّ الرّجوع للاُستاذ لازم في المراحل الأوليّة، وأمّا بعد السّير و عبور عدّة مراحل، فلا يحتاج إلى الاُستاذ، و الرّجوع للاُستاذ الخصوصي و هو الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)والأئمّة المعصومين(عليهم السلام)، حتّى نهاية المراحل، يكون لازماً و ضرورياً. [ 126 ] و قد إستدلوا على لزوم الرّجوع للاُستاذ تارةٌ، بهذه الآية الشّريفة، التي تقول: (فَاسْئلُوا أَهلَ الذِّكْرِ إن كُنتُم لا تَعلَمُونَ )(1). فرغم أنّها تتناول التعليم لا التربية، ولكن الحقيقة أنّ التربية تعتمد على التّعليم في كثير من الموارد، فلذلك يجب الرّجوع للمطلعين في مثل هذه الموارد، وهذا المعنى يختلف إختلافاً واضحاً عن إختيار شخص خاص ليكون ناظراً على أعمال وأخلاق الإنسان. ويستشهد القائلون بضرورةِ المرشد تارةٌ اُخرى; بحكاية موسى مع الخضر(عليهما السلام)، فقد كان موسى(عليه السلام) بحاجة للخضر، مع ما أنّه كان من الأنبياء وأولي العزم، وقطع قسماً من الطّريق بمساعدته(عليه السلام). ولكن و بإلقاء نظرة فاحصة على قصّة موسى والخضر(عليهما السلام)، نرى أنّ موسى(عليه السلام)عندما تعلم من الخضر(عليه السلام)، إنّما كان بأمر من الله تعالى لأجل الاطّلاع على أسرار الحكمة الإلهيّة بالنسبة للحوادث التي تحدث في هذا العالم، والاُخرى أنّ علم موسى(عليه السلام) كان عملا ظاهرياً، "ويتعلّق بدائرة التّكليف"، و علم الخضر(عليه السلام) علماً باطنياً، (خارج عن دائرة التكليف)(2)، وهذا الأمر يختلف عن مسألة إختيار الاُستاذ و المرشد، في كل مراحل التّهذيب للنفس و السيّر في طريق التّقوى، وإن كان يشير ولو بالإجمال إلى أهميّة كسب الفضيلة، في محضر الاُستاذ في خط التّكامل المعنوي. وقد يستشهد لذلك أيضاً بحكاية لقمان الحكيم و إبنه، فهو اُستاذ إلهي أخذ بيد إبنه و ساعده في سلوك ذلك الطريق(3). ونقل العلاّمة المجلسي في بحار الانوار، عن الإمام السجّاد(عليه السلام) أنّه قال: "هَلَكَ مَنْ لَيسَ لَهُ حَكِيمٌ يَرشُدُهُ"(4). ولكن و من مجموع ما ذُكر، لا يمكن إستفادة لزوم المرشد في دائرة السّلوك الأخلاقي و 1. سورة الأنبياء، الآية 7. 2. يرجى مراجعة تفسير الأمثل، ذيل الآية 60 إلى 82 من سورة الكهف. 3. يرجى الرجوع لتفسير الأمثل، في تفسير سورة لقمان. 4. بحار الانوار، ج75، ص159. [ 127 ] تهذيب النفس، بحيث إذا لم يكن تحرك الإنسان في خطّ التّهذيب النّفسي و التّزكية الأخلاقية، تحت إشراف المرشد، فسوف يختل برنامج التربية و الأخلاق و التّقوى، و يتعطل السّير و السّلوك في حركة الواقع النفسي والمعنوي لدى الفرد، لأنّ الكثير من الأشخاص إلتزموا بالرّوايات والآيات والأحاديث الإسلامية، و عملوا بها، و وصلوا إلى مقامات عالية و درجات كبيرة دون الإستعانة بمرشد أو معلّم خاص على مستوى التّربية الأخلاقيّة، و طبعاً لا يمكن إنكار فائدة الأساتذة و المرشدين و توجيهاتهم القيّمة، فهم عناصر جيّدة للوصول إلى المقصود من أقرب الطرّق، و معدّات فاعلةٌ لمواجهة المشاكل الأخلاقيّة لتحديات الواقع، و حلّها وفق مستجدّات الواقع و مستلزمات العقيدة. و جاء في نهج البلاغة أيضاً: "أيُّها النّاسُ استَصبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصبَاح، وَاعظٌ مُتَّعِظٌ"(1). ولكن وللأسف نجد في كثير من الموارد، أنّ النّتيجة كانت عكسيّة، فكثير من الأشخاص عرّفوا أنفسهم بأنّهم مرشدون للناس في سلوك سبيل التّربية و التّهذيب، ولكن اتّضح بأنّهم قطّاع طُرق، وكمْ من الأشخاص الطّاهرين الطالبين للحقّ إنخدعوا بهم، و ساروا في طريق التّصوف أو الإنحراف، و سقطوا في منحدر الرّذيلة، و ارتكبوا مفاسد أخلاقية كبيرة; و عليه فنحن بدورنا نحذّر السّائرين على هذا الطّريق، إذا ما أرادوا الإستفادة من الحضور، عند اُستاذ و مرشد في المسائل الأخلاقيّة، فيجب أن يتوخّوا جانب الحذر و الإحتياط، و ليتأكدوا من حقيقة الأمر، و لا يغترّوا بالمظاهر الخادعة، بل ليتفحّصوا عن سوابقهم، وليشاوروا أصحاب الفنّ في هذا المجال، كي يصلوا إلى غايتهم المنشودة. دور الواعظ الداخلي (الباطني): تكلّمنا عن دور الواعظ الخارجي بصورة كافية، والآن جاء دور الواعظ الداخلي; حيث يستفاد من بعض الأخبار والروايات الإسلامية أنّ الضّمير الحيّ هو الواعظ الداخلي والباطني للإنسان، وله دور مهم في السّير على طريقِ التّكامل الأخلاقي و التّقوى، وبالأحرى 1. نهج البلاغة، الخطبة 105. [ 128 ] لا يمكن السّير بدونه، في مواجهة التحديات الصّعبة و قوى الإنحراف. فقد جاء في حديث عن الإمام على بن الحسين(عليهما السلام)، أنّه قال: "يا إبنَ آدمَ إِنَّكَ لاتَزَالُ بِخَير ما كانَ لَكَ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِكَ، وَما كانَتِ الُمحاسَبَةُ مِن هَمِّكَ"(1). و نُقل أيضاً عنه(عليه السلام)، مشابهٌ لهذا المعنى، مع قليل من الإختلاف(2). وجاء في نهج البلاغة أيضاً، أنّ: "وَاعَلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حتّى يَكُونَ لَهُ مِنْها وَاعِظٌ وَزَاجرٌ، لَم يَكُن لَهُ مِنْ غَيرِها لا زَاجرٌ وَلا واعِظٌ"(3). ومن البديهي أنّ الإنسان في هذا الطّريق يحتاج إلى واعظ قبل كلّ شيء، ليكون معه في كلّ حال،: ويعلم أسراره الداخلية، ويكون رقيباً عليه ومعه دائماً، وأيّ عامل أفضل من الواعظ الداخلي وهو الوجدان، يتولي القيام بهذا الدّور، و ينبّه الإنسان إلى منزلقات الطّريق، و تعقيدات المسير، و يصدّه عن الإنحراف و السّقوط في الهاوية. ونقرأ في حديث عن الإمام عليّ(عليه السلام): "إِجْعَلْ مِنْ نَفْسِكَ عَلى نَفْسِكَ رَقِيباً"(4). وجاء في حديث آخر عنه(عليه السلام): "يَنبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُهَيمِناً عَلى نَفْسِهِ مُراقِباً قَلْبَهُ، حافِظاً لِسانَهُ"(5). 1. بحارالأنوار، ح75، ص137. 2. المصدر السابق. 3. نهج البلاغة، الخطبة 90. 4. غرر الحكم. 5. المصدر السابق. [ 129 ] 11 / العناصر اللاّزمة لتربية الفضائل الأخلاقيّة 11 العناصر اللاّزمة لتربية الفضائل الأخلاقيّة إضافةً لما ذكرنا من برنامج للصّعود بالإنسان في أجواء التربية الأخلاقيّة، يوجد هناك عناصر اُخرى، لها أثرها الكبير في منح الإنسان قوّة التّصدي، لحالات الضعف أمام الرّذائل الأخلاقيّة، وتقوية اُصول الفضائل في واقع الإنسان، و حركته التّكاملية في الحياة، و منها: 1 ـ طهارة وصفاء المحيط ممّا لا شك فيه أنّ المحيط الذي يعيش فيه الإنسان ، يعكس أثره الكبير على سلوكيّات و روحيّات ذلك الإنسان، حيث يسترفد كثيراً من صفاته وأفعاله من المحيط الإجتماعي و الثّقافي، فالمحيط النّظيف و الطّاهر غالباً ما يفرز اُناساً طاهرين، والعكس صحيح. و رغم أنّ الإنسان يمكن أن يعيش نظيفاً وطاهراً في الوسط الملّوث، وبالعكس يمكنه أن يسير في طريق الرّذيلة والإثم في المحيط الطّاهر، و بعبارة اُخرى إنّ الظّروف الإجتماعيّة و الثّقافية التي يعيش فيها الإنسان، ليست العلّة التّامة في صلاح و إنحراف الإنسان، ولكنّها يمكن أن تُهيىء الأرضية لذلك قطعاً، وهذا ممّا لا يقبل الإنكار. و قد يقول البعض، بأنّ الإنسان يخضع لإجبار المحيط و المجتمع، "فيبقى الإنسان كما هو الموجود فعلاً"، ولكننا ننكره جملة و تفصيلاً، من دون أن ننكر دور العوامل القويّة في عمليّة [ 130 ] إخضاع الفرد لمتطلبات الواقع و تحدياته، في أجواء التّفاعل الإجتماعي. بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم، و نقرأ الآيات التي تؤيّد تأثير المحيط في شخصيّة الإنسان، بالدّلالة الإلتزاميّة، أو المطابقيّة للكلام، لنستوحي منها المفهوم القُرآني في هذا الإطار: 1 ـ (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاْيَاتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ )(1). 2 ـ (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْم يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَام لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ )(2). 3 ـ (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً )(3). 4 ـ (يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ )(4). 5 ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الاَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً )(5). تفسير و إستنتاج: "الآية الاُولى" تحدّثت عن تأثير المحيط في أعمال وأفعال الإنسان، ببيان لطيف و جذّاب، و قد إختلف المفسّرون في تفسير هذه الآية، و ذهب كلّ واحد منهم إلى رأي... فبعضهم قال: إنّ المراد منها، أنّ ماء الوحي الرّقراق كقطرات المطر، ينزل على أرض 1. سورة الاعراف، الآية 58. 2. سورة الأعراف، الآية 138. 3. سورة نوح، الآية 26 و 27. 4. سورة العنكبوت، الآية 56. 5. سورة النساء، الآية 97. [ 131 ] القلوب فترتوي منه القلوب الطاهرة، و تنبتُ ورود المعرفة وفواكه التّقوى و الطّاعة اللّذيذة، ولكن القلوب السّوداء والملوثة، لا تتأثر به من موقع الإستفادة في حركة الحياة، وعندما نرى أنّ ردود الفعل، قبال دعوات الأنبياء، و تعاليم الوحي ليست متساوية عند الجميع، فهذا لا يدلّ على وجود النقص والخلل في فاعليّة الفاعل، بل أنّ الإشكال إنّما هو في قابليّة القابل(1). و الأمر الآخر أنّ الغرض من بيان هذا المثال، هو أن يكون طلب الفضائل والمحاسن من محلّها المناسب، لأنّ السّعي في المحل غير المناسب ليس هو إلاّ إهدار و تضييع للطاقات(2). الإحتمال الثالث، في تفسير هذه الآية و يمكن الإستفادة منه هنا، هو أنّ في هذا المثال شبّه الإنسان بالنبات، ولكن الأرض التي تنبت فيها النباتات إمّا حلوة أو سبخة، ممّا تنعكس تأثيراته على النّبات أيضاً، و في المحيط الملّوث، لا يمكن تربية الإنسان في إطار التعاليم الإلهيّة والقيم الأخلاقيّة، مهما كانت التعليمات وأساليب التربية قويّةٌ و مؤثرةٌ، فكما أنّ قطرات المطر المُوجبة لبعث الحياة للأرض، لا يمكن أن تؤثر في الأرض السّبخة، فكذلك الحال في عناصر التربية في المحيط الملّوث، وبناءاً عليه، يجب علينا أن نهتم بإصلاح المحيط الإجتماعي، و الثّقافي، الذي نعيشه ونتفاعل معه دائماً، للتوصل إلى تهذيب النفوس، و تحكيم الأخلاق الصالحة، في واقع الإنسان والحياة. و بالطّبع لا يوجد تقاطع بين التفسيرات الثلاثة المتقدّمة، والمثال الآنف الذّكر، يمكن أن يكون ناظراً لهذه التفسيرات الثّلاثة على السّواء. نعم، فإنّ المحيط الإجتماعي الملّوث بالرذيلة، هو عدوّ للفضائل الأخلاقيّة، والحال أنّ المحيط السّالم و الطّاهر، يهيىء أحسن و أفضل الفرص، لغرض تهذيب النّفوس، في معارج الكمال الرّوحي والمعنوي. و قد ورد في الحديث المعروف عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) مُخاطباً أصحابه: "إِيّاكُم وَخَضراءِ الدِّمَنِ"، قِيلَ يا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ خَضراءُ الدِّمَنِ قال(صلى الله عليه وآله): "المَرأةُ 1. هذا التفسير جاء به الفخر الرازي، و أتى به بعنوان الإحتمال الأول في معنى الآية،: (تفسير الفخر الرازي، ج14، ص114) ونقله جماعَة اُخرى عن إبن عباس 2. جاء هذا التفسير في مجمع البيان، في تفسيره لسورة الحديد في ذيل الآية الآنفة الذكر. [ 132 ] الحَسناءِ فِي مَنْبَتِ السُّوءِ"(1). هذا التّشبيه البليغ، يمكن أن يكون إشارةً، لتأثير المحيط الصّالح و السّيء في شخصية الإنسان، على المستوى الإيجابي و السّلبي، أو هو إشارةٌ لمسألة الوراثة، و تأثيرها على مُجمل الشّخصية، أو إشارةٌ للإثنين معاً. وفي "الآية الثانية": إشارةٌ لقوم بني إسرائيل، الّذين بقوا لسنوات طويلة، تحت إشراف وتعليمات النّبي موسى(عليه السلام)، في عمليّة الهداية الرّوحية و المعنويّة، و في مجال التوحيد و سائر الاُصول الدينيّة، ورأوا باُمّ أعينهم المعجزات الإلهيّة، كإنفلاق البحرلهم، ونجاتهم من براثن فرعون وجنوده، ولكن وبمجرد أن صادفوا في طريقهم للشام والأرض المقدسة، قوماً يعبدون الأصنام، تأثّروا بهم و بمحيطهم الملّوث، وقالوا: (يَا مُوسَى اُجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ). فتعجّب موسى(عليه السلام) من هذا الإنقلاب، و غضب غضباً شديداً، من قولهم هذا وقال لهم: (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ). وأخذ يبيّن لهم مفاسد عبادة الأصنام. والعجيب أنّ قوم بني إسرائيل، و بعد التّوضيحات الصّريحة و المكرّرة لموسى(عليه السلام)، بقوا تحت تأثير هذا المحيط المسموم السّلبي، بحيث إستطاع السّامري أن يتحرك من موقع إغوائهم، و تفعيل عناصر الإنحراف لديهم في غيبة موسى(عليه السلام)، و الّتي إستغرقت عدّة أيّام، حيث صنع لهم صنماً من ذهب، و تبعه الغالبيّة من هؤلاء القوم، و تحوّلوا من أجواء التّوحيد إلى أجواء الشّرك. فهذا الأمر يمثل علامةً واضحةً على تأثير المحيط السّلبي، في صياغة السّلوك الإنساني، من موقع الانحراف والزيغ في دائرة المسائل الأخلاقية، بل و حتّى العقائديّة أيضاً، ولا شك أنّ بني إسرائيل وقبل مرورهم باُولئك القوم، كانت لديهم الأرضيّة المساعدة لعبادة الأصنام، وذلك إثر بقائهم مع الوثنييّن المصرييّن لمدة طويلة، فعندما رأوا ذلك المنظر، عادوا في دائرة الذّاكرة إلى ذلك الماضي الأسود، وعلى كل حال فإنّ كلّ هذه الاُمور، هي دليل واضح على تأثير 1. وسائل الشيعة، ج14، ص19، ح7 ـ بحار الانوار، ج100، ص232، ح10. [ 133 ] المحيط الإجتماعي، في أخلاق و عقائد الإنسان في حركة الواقع النّفسي. وفي "الآية الثالثة": نجد شاهداً آخر على تأثير المحيط على أفكار وأفعال الإنسان، و هو ما نراه في سلوك نوح(عليه السلام)، و دعاؤه على قومه الكفّار بالفناء و الَمحق. إنّ نوحاً(عليه السلام) لم ينطلق في دعائه عليهم من موقع الذات والانفعال، بل من موقع العقل و البرهان، فقال الله تعالى في القرآن الكريم، على لِسان نوح: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ). فهم في الحال الحاضر كفّار ومنحرفون، و في حالة إستمرارهم في التّكاثر و التّناسل فسوف يؤثّرون على أولادهم في عمليّة الإيحاء لهم بالكفر، و يربّوهم تربيةً منحرفةً. و من "الآيتين الرابعة والخامسة"، نستوحي لزوم الهجرة من المجتمع والمحيط المنحرف، حيث يخاطب الباري تعالى عباده في الآية الرابعة، يقول: (يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ ). وفي الآية الخامسة، يحذّر المؤمنين من البقاء في المجتمع الغارق في الضّلالة، و يؤكّد لهم لزوم الهجرة، و أنّ عذرهم غير مقبول في حالة البقاء والتكاسل، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الاَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ). وفي الحقيقة إنّ مسألة الهجرة هي من الاُصول الأساسيّة في الإسلام، و قد شيّد الإسلام دعائمه عليها، حيث تتضمن عمليّة الهجرة، حكمٌ و غاياتٌ عديدةٌ و أهمّها الهروب و الفرار من المحيط الملّوث، و النجاة من تأثيراته السيّئة على واقع الإنسان و محتواه الداخلي. و ليست الهجرة مختصة بزمان صدر الإسلام، كما يعتقد البعض، بل هي جارية في كلّ عصر و زمان يتعرض فيها المسلمون لضغوط قوى الشرك و الفساد و الكفر، التي تشكّل عناصر ضغط على الرّوح المنفتحة على الله والخير، وليفّروا بدينهم وأخلاقهم وعقائدهم من أجواء المحيط الملّوث، فجاء في الحديث عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ مِنْ أَرْض إِلى أَرْض وَإِنْ كانَ شِبراً مِنَ الأَرضِ إِستَوجَبَ الجَنَّةَ وَكانَ [ 134 ] رَفِيقَ مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله) وَإِبراهِيمَ(عليه السلام)"(1). فالتأكيد على مقدار الشّبر، إنّما يدلّ على أهميّة المسألة في دائرة الإحتفاظ بالإيمان; فلو تسنّى للإنسان ذلك، و بأيّ مقدار وأيّ زمان و مكان، فمعناه التوافق مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) و إبراهيم(عليه السلام) في خطّ الرّسالة و الدّين. و الخلاصة، أنّ المحيط والمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، كان ولا يزال عاملاً مهمّاً في تكوين وصياغة شخصية الإنسان، و أخلاقه و مؤثّراً فيها، وإن كان الأمر ليس على وجه الجَبر، وبناءاً على ذلك فإنّ تطهير أجواء المحيط الإجتماعي من أهم العوامل لتهذيب الأخلاق وتربية الملكات الفاضلة في المحتوى الداخلي للإنسان. و إذا لم يستطع أنّ يغيّر الإنسان من أجواء المحيط شيئاً، فيجب عليه أن يُهاجر و يترك ذلك المحيط الغارق في الزّيغ و الضّلالة، و كما أنّ الإنسان، و عندما تتعرض حياته المادية للخطر، يتحرك من موقع الإبتعاد والهجرة من أرضه، فكذلك عليه أن يُهاجر منها، عندما تتعرض قِيمَهُ الأخلاقيّة و حياته المعنويّة، التي هي أهم من حياته الماديّة، للخطر...، و لا ينبغي أن يتذرّع بأنواع الحجج و الأعذار، ليبقى فيها بحجّة أنّها أرضي و أرضَ آبائي...، وغير ذلك من الأعذار و التّبريرات الواهية، و يستسلم لعناصر التّلوث و الإنحراف التي تؤثر عليه و على أولاده، في الدائرة السّلبية و لا يهاجر منها؟ فيتوجب على جميع علماء الأخلاق، أن يتحركوا في عمليّة التربية، لغرض إحياء الفضائل الأخلاقية، و تفعيل عناصر الخير و الإيمان، من خلال إصلاح المحيط والمجتمع، و بدون ذلك، فإنّ السّعي الفردي و الآني في هذا الخط، سيكون أثره ضعيفاً في حركة التّربية و التّهذيب. 2 ـ دور الأصدقاء والعِشرة و الموضوع الآخر، الذي أثبتت التجربة تأثيره العميق على السلوك الأخلاقي، و إتّفق عليه جميع علماء الأخلاق والتربية والتعليم، هو عنصر الأصدقاء ودور المعاشرة معهم، ففي 1. نور الثقلين. ج1، ص541. [ 135 ] حال كون الصّديق فاسداً و منحرفاً، في دائرة السّلوك الأخلاقي، فسيؤثّر على صديقه السليم، من موقع الانحراف كذلك، والعكس صحيح أيضاً، فالكثير من المؤمنين، و الأقوياء الإرادة، إستطاعوا أن يؤثّروا على زملائهم الفاسدين، على مستوى الهداية و الإصلاح، بحيث جعلوا منهم اُناساً أتقياء، و ملتزمين في دائرة السّلوك الدّيني و الأخلاقي. ا ص136 - ص148ونعود للقرآن الكريم، و الآيات الّتي تتناول هذ الموضوع: 1 ـ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ )(1). 2 ـ (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الُْمصَدِّقِينَ* أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِي * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الُْمحْضَرِينَ )(2). 3 ـ (وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَني وَ كَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولا )(3). تفسير و إستنتاج: الآيات الاُولى، التي وردت في محلّ البحث، تحدّثت عن جلوس الشّيطان، مع الغافلين عن ذكر الله، من منطق الغُواية، وتوضح تأثير قرين السّوء، في السّلوك الأخلاقي للإنسان ومستقبله، فتقول أولاً: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ )(4). 1. سورة الزخرف، الإية 36 إلى 38. 2. سورة الصافات، الآية 51 إلى 57. 3. سوره الفرقان، الآية 27 إلى 29. 4. ذكروا معان مختلفة لكلمة "نُقيّض"، و التي هي من مادة قيض، فالبعض قال: إنّها بمعنى التسبيب،والبعض الآخر: بمعنى التقدير، والبعض الآخر: كالراغب قال: هي بمعنى إستيلاء القيض على البيض، و هو القشر الأعلى. [ 136 ] و بعدها يُبيّن القرآن الكريم، دور قرين السّوء في حركة الإنسان و الحياة، فإنّ الشّياطين يوصدون طريق الهداية و الحركة إلى الله تعالى، أمام الإنسان، و يقفوا عقبةً في طريق الوصول إلى الهدف المقدس، والأنكى من ذلك، أنّ هؤلاء المنخدعين يحسبون أنّهم مهتدون: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ). وبعدها يتطرّق القرآن الكريم إلى النتيجة، فيقول: إنّ هذا الإنسان عندما يرد في عرصات القيامة، و عند حضور الجميع عند الله تبارك و تعالى، و كشف الأسرار والحقائق، يقول لقرينه الشّيطاني: (حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ). حيث نستوحي من هذه التعبيرات، بأنّ قرين السّوء، يمكن أن يحرف الإنسان من موقع الأغواء، عن طريق الباري تعالى، و يصدّه عن سبيل الهداية و الصّلاح، فيهدم عليه دعائم الأخلاق، و يشوّه الواقع النّفسي و الفكري له، فينخدع هذا المسكين ويحسب أنّه على هدىً، فإرجاعه عن غيّه، و العودة به إلى الصّراط المستقيم، سيكون ضرباً من المحال، ولن يستيقظ من أوهام الغفلة، إلاّ وقد فات الأوان، و بعد غلق طريق العودة عليه. و كذلك يُستفاد من الآية الشريفة، أنّ قرين السّوء يبقى دائماً مع الإنسان في حياته الاُخرويّة الأبديّة، و كم هو مؤلم، أن يرى الشّخص المسبّب في بؤسه و هلاكه، يعيش معه دوماً، ولن تنفع معه اليوم الأماني و الآمال بالإنفصال عنه ومفارقته، فيقول: (وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ )(1). وفي مضمون الآيات الآنفة الذّكر، الآية (25) من سورة فصّلت، فتقول: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالاِْنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ). -- "الآية الثانية": من هذه الآيات محل البحث، تتحدث عن الأشخاص الذين عاشوا مع 1. سورة الزخرف، الآية 39. [ 137 ] أصحاب السّوء، و كانوا يتحركون معهم في أجواء الضّلالة و الإنحراف، ولكن اللّطف الإلهي شملهم، و إستطاعوا بسعيهم وجدّهم في التّحرك بعيداً عن وساوس الشّيطان، و أنقذوا أنفسهم من الوقوع في براثنه، بعد أن كانوا قد وصلوا إلى حافّة الهاوية، فُهنا يتحدث القرآن الكريم عن تأثير قرين السّوء في تكوين عقائد الإنسان وأخلاقه، ولكن ليس بالشّكل الذي يكون فيه الإنسان مجبوراً و غيرُ قادر على إنقاذ نفسه من شراك الزيغ فقال: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنّي كَانَ لي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الُْمصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ )(1). و في هذا الأثناء يذكر قرينه القديم، و يشرع بالبحث عنه، فينظر من أعالي الجنّة، فإذا به يراه في أعماق الجحيم: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ). فقال له: (قَالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الُْمحْضَرِينَ ). فنرى من هذه الآيات، أنّ قرين السّوء بإمكانه أن يؤدي بالإنسان إلى الجحيم، لولا الإيمان و التّقوى ولطف الله تعالى في واقع الإنسان. -- و في "الآية الثالثة": نرى التأسف الشّديد و التأثرّ العميق، الذي يعيشه الظالمون في يوم القيامة، بسبب إختيارهم ومصاحبتهم لأصدقاء السّوء، لأنّهم كانوا العامل الأساس في محنتهم الفعلية: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولا ). وبناءاً على ذلك فإنّ الظّالم في يوم القيامة، أول ما يتأسف على تركه الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و قطعه للعلاقة معه، وبعدها يتأسف على توثيق العلاقة مع أصدقاء السّوء، و بعدها يصرّح، أنّ 1. سورة الصافات، الآية 50 إلى 53. [ 138 ] العامل الأصلي لضلاله، هو نفس هؤلاء الأصدقاء المنحرفين، و مرضى القلوب، و أن تأثيرهم عليه كان أشدّ من تأثير النداءات الإلهيّة: (طبعاً عند المنحرفين فقط). و أمّا "الآية الأخيرة": فقد تحدثت عن أصدقاء السوء، و عبّرت عنهم بجنود الشيطان و أنّهم من شياطين الإنس، والجدير بالذكر، أنّ التعبير عن تأسّف هذه الجماعة، ورد بجملة: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ... )، و هي أعلى مراحل التّأسف، ففي البداية، يعضّ الإنسان إصبعه بدافع الندم، و في مرحلة أقوى يعضّ باطن كفّه، و في مرحلة أشدّ يعضّ على يديه الإثنتين، وهو في الحقيقة نوعٌ من الإنتقام من نفسه، و أنّه لماذا قصّر في حقّ نفسه ورماها في التهلكة؟ فما يُستفاد من الآيات الآنفة الذّكر، هو أنّ الأصدقاء و الأصحاب، لهم أثرهم الكبير في سعادة أو شقاء الإنسان، ليس على مستوى التّأثير في السّلوك الأخلاقي فحسب، بل وعلى مستوى العقائد أيضاً، فهنا يجب على المرشد أن يهتم في عمليّة صيانة الأفراد من الزيغ و الإنحراف، و يرعاهم بتوجيهاته بعيداً عن أجواء التلوّث، و خصوصاً في عصرنا الحاضر، الذي إنتشرت فيه وسائل الفساد، عن طريق رِفاق السّوء بصورة مُخيفة، و أصبحت سبباً من أسباب الإنحراف و السّير في خطّ الباطل. -- دور الأخلاّء في الرّوايات الإسلاميّة: وردت روايات وأحاديث مستفيضة في هذا المضمار عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و الأئمّة الأطهار(عليهم السلام)، تعكس أهميّة هذه المسألة، ففي حديث الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "المَرءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ وَقَرِينِهِ"(1). وجاء هذا المعنى أيضاً في حديث آخر، نقل عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنّه قال: "وَلاْ تَصحَبُوا أَهْلَ البِدَعِ وَلاْ تُجالِسُوهُم فَتَصيرُوا عِنْدَ النّاسِ كَواحِد مِنْهُم". 1. اُصول الكافي، ج2، ص375: باب مجالسة أهل المعاصي، ح3. [ 139 ] قالَ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله): "المَرءُ عَلى دِينِ خَلِيلِهِ وَقَرِينِهِ"(1). و نفس هذا المعنى ورد عن الإمام علي(عليه السلام) أيضاً، وفيه تصوير عن حالة التّأثير المُتقابل، في دائرة التّفاعل المشترك بين الأفراد فقال: "مُجالَسةِ الأخيارِ تَلحَقُ الأَشرارِ بالأخيارِ وَمُجالِسةِ الأَبرارِ لِلفُجَّارِ تَلحَقُ الأبرارِ بِالفُجَّارِ" . وجاء في ذيل هذا الحديث، عبارةٌ في غاية الأهميّة، حيث يقول: "مَنْ إِشتَبَهَ عَلَيكُمِ أَمرُهُ وَلَم تَعرِفُوا دِينَهُ فانظُرُوا إِلى خُلَطائِهِ"(2). وفي بعض الروايات، ورد هذا المعنى في دائرة الّتمثيل، فقال: "صُحبَةُ الأَشرارِ تَكسِبُ الشَّرَّ كَالرِّيحِ إُذا مَرَّتْ بِالنَّتِنِ حَمَلَتْ نَتِناً"(3). و يُستفاد من هذه التّعبيرات: أنّه وكما أنّ المعاشرة و الصّحبة للأراذل، تهيىء الأرضية لحركة الإنسان نحو الانزلاق في طريق الشر، فإنّ المعاشرة مع الأَخيار تنير قلب الإنسان بضياء الهدى، و تحُيي فيه عناصر الخير. ونقرأ هذا المعنى في حديث عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال: "عَمارَةُ القُلُوبِ في مُعاشَرَةِ ذَوِي العُقُولِ"(4). و جاء في حديث آخر عنه(عليه السلام)، أنّه قال: "مُعاشَرَةُ ذَوِي الفَضائِلِ حَياةُ القُلُوبِ"(5). فتأثير الُمجالسة على قدر من الأهميّة، بحيث قال فيه النّبي سليمان(عليه السلام): "لا تَحْكُمُوا عَلى رَجُل بِشيء حَتّى تَنْظُرُوا إِلى مَنْ يُصاحِبُ فَإِنَّما يُعْرَفُ الرَّجُلُ بِأَشكَالِهِ وَأَقرَانِهِ; ويُنْسَبُ إِلى أَصحابِهِ وَأَخدَانِهِ"(6). ونقرأ في حديث جاء عن لقمان الحكيم، في نصائحه لإبنه، فقال له: 1. اُصول الكافي، ج 2، ص 375: باب مجالسة أهل المعاصي، ح 3. 2. كتاب صفات الشيعة، للصدوق، (طبقاً لنقل بحار الانوار، ج71، ص197). 3. غُرر الحِكم. 4. المصدر السابق. 5. المصدر السابق. 6. بحار الأنوار، ج71، ص188. [ 140 ] "يا بُنَيَّ صاحِبِ العُلَماءَ، وأَقرِبْ مِنْهُم، وَجالِسهُم وَزُرهُم فِي بِيُوتِهِم، فَلَعَلَّكَ تَشْبَهُهُم فَتَكُونَ مَعَهُم"(1). و على كلّ حال، فإنّ الرّوايات الشّريفة، مليئة بمثل هذه النصائح، في دائرة الإهتمام بالرّفقة و أثر الصّديق في أخلاق وسلوك الإنسان، ولو جُمعت في إطار واحد لأمكن تأليف بحث شامل كامل في هذا المضمار. و نختم الكلام بحديث عن الإمام علي(عليه السلام)، في وصاياه لإبنه الحسن الُمجتبى(عليه السلام): "قارِنْ أَهْلَ الخَيرِ، تَكُن مِنْهُم، وبايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ مِنْهُم"(2). تأثير العِشرة في التحليلات المنطقيِّة: يقولون: إنّ أحسن وأفضل دليل لإمكان الشيء، هو وقوعه، و في موضوع بحثنا، فإنّ رؤية نماذج عينيّة من مُعاشرة بعض الأفراد للأراذل، و كيف أنّها أصبحت مصدراً لأنواع المفاسد و الإنحرافات الخُلقيّة لهم، و بالعكس، فإنّ مُصاحبة الأخيار، ساهمت لدى البعض، على تطهير أنفسهم، من شوائب الرّذيلة و الزّيغ، و هذه الموارد هي خير دليل على بحثنا هذا. فالتشبيه القديم القائل: إنّ الأخلاق القبيحة، مثل الأمراض السّارِيَة، تنتشر بين الأصدقاء و الأقارب بسرعة فائقة، هو تشبيهٌ صحيحٌ، خصوصاً في الموارد التي يكون فيها الشخص، حَدث السّن أو ضعيف الإعتقاد و الإيمان، و تكون نفسه مستعدّةً لقبول أخلاق الآخرين، فالمُعاشرة لمثل هؤلاء الأفراد، مع أصدقاء السّوء، تكون بمثابة سهم مُهلك و قاتل في دائرةِ الإيمان، و عناصر الخَير في الشّخصية، و قد شاهدنا الكثير من الأفراد والأشخاص من الطيّبين، الذين تغيّروا بالكامل بسبب معاشرتهم لرفقاء السوء، و تحوّل مجرى حياتهم من أجواء الخير إلى أجواء الشّر، و هُناك إثباتاتٌ و أدلّةٌ مختلفةٌ من تقرير هذه الحالةٌ في واقع الإنسان من النّاحية النّفسية و الرّوحية: 1. بحارالأنوار، ج 71، ص189. 2. نهج البلاغة، وصيّة الإمام علي(عليه السلام) للإمام الحسن(عليه السلام) (رسالة 31). [ 141 ] 1 ـ من جملة الاُمور الّتي توصل إليها علماء النّفس، هو وجود روح الُمحاكاة في الإنسان، يعني أنّ الأفراد ينطلقون في حركة الحياة، من موقع الشّعور أو اللاّشعور، بمُحاكاة أصدقائهم وأقاربهم، فالأشخاص الّذين يعيشون حالة الفرح و السرور، ينشدون الفرحة و الحُبور من حواليهم، والعكس صحيح. فالأفراد المُتشائمين، الذين يعيشون اليأس و سوء الظن، يؤثرون على أصحابهم، و يجعلونهم يعيشون حالة سوءِ الظّن، و هذا الأمر يبين لنا السّبب في تأثير الأصدقاء بعضهم بالبعض الآخر بسرعة. 2 ـ مَشاهدة القبائح و تكرارها، يُقلّل من قبحها في نظر المشاهد، و بالتدريج تصبح أمراً عاديّاً، ونحن نعلم أنّ إحدى العوامل المؤثّرة في ترك الذنوب و القبائح، هو الإحساس بقبحها في الواقع النّفسي للإنسان. 3 ـ تأثير التّلقين في الإنسان غير قابل للإنكار، و أصدقاء السّوء يؤثرون دائماً على رفقائهم في دائرة الفكر و السّلوك من خلال عمليّة التلقين والايحاء، فيقلبون عناصر الشرّ في إعتقادهم إلى عناصر الخير، ويغيّرون حسّ التّشخيص لديهم لعناصر الخير و الشرّ في منظومة القيم، فتختلط عليهم الاُمور، في خطّ المستقبل و كيفيّة التعامل مع الغير. 4 ـ المُعاشرة لرفاق السّوء، يشدّد سوء الظن في الإنسان مع الجميع، وتفضي به هذه الحالة النّفسية السلبيّة إلى السّقوط في وادي الذّنوب والفساد الأخلاقي، فنقرأ في حديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام): "مُجالَسَةُ الأَشرارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بالأَخيارِ"(1). وجاء في حديث آخر عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أنّ معاشرة رفاق السّوء تميت القلب، فقال: "أَربَعٌ يُمِتنَ القَلبَ... وَمُجالَسَةُ المَوتى; فَقِيلَ لَهُ يا رَسُولَ اللهِ وَمَا المَوتى؟، قَالَ(صلى الله عليه وآله): كُلُّ غَنِيٍّ مُسْرِف"(2). وهذا الموضوع، يعني سريان الحُسن و القُبح الأخلاقي بين الأصدقاء، في أجواء المُعاشرة إلى درجة من الوضوح، ممّا حدى بالشّعراء إلى نظم الشعر في هذا المضمار، من قبيل قولهم: 1. صفات الشيعة، الصدوق نقلاً عن بحارالأنوار، ج71، ص197. 2. الخصال، (طبقاً لنقل بحار الأنوار، ج71، ص195). [ 142 ] عن المرء لا تسلْ وسلْ عن قرينه *** فكلّ قرين بالمقارن يقتدي 3 ـ تأثير الاُسرة والوراثة في الأخلاق من المعلوم أنّ أوّل مدرسة لتعليم القيم الأخلاقيّة، يدخلها الإنسان هي الاُسرة، فكثيرٌ من اُسس الأخلاق، تنمو في واقع الإنسان هناك، فالمحيط السّليم أو الملّوث للاُسرة، له الأثر العميق في صياغة السّلوك الأخلاقي، لأفراد الاُسرة، إنّ على مستوى الأخلاق الحسنة أو السيئة، فالحجر الأساس للأخلاق في واقع الإنسان يوضع هناك. و تتبيّن أهميّة الموضوع، عندما يتّضح أنّ الطفل في حركته التكامليّة، و مسيرته في خط التّربية: أولاً: يتقبّل ويتأثر بالمحيط بسرعة كبيرة. ثانياً: إنّ ما يتعلمه الطّفل في صغره، سوف ينفذ إلى أعماق نفسه و روحه، و قد سمعنا الحديث الشريف عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، يقول فيه: "العِلمُ فِي الصِّغَرِ كالنَّقشِ فِي الحَجَرِ"(1). فالطفل يستلهم كثيراً من سجايا أبيه واُمّه واُخوته وأخواته، فالشّجاعة و السّخاء و الصّدق و الوفاء، و غيرها من الصّفات و السّجايا الأخلاقيّة الحميدة، يأخذها و يكسبها الطّفل من الكبار بسهولة، و كذلك الحال في الرّذائل، حيث يكسبها الطّفل من الكبار بسهولة أيضاً. و بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الطّفل يكسب الصّفات من أبويه عن طريق آخر، و هو الوراثة، فالكروموسومات لا تنقل الصفات الجسمانية فحسب، بل تنقل الصفات الأخلاقيّة أيضاً، ولكن من دون تدخل عنصر الإجبار، حيث تكون هذه الصّفات قابلةٌ للتغيير، ولا تسلب المسؤوليّة من الأولاد أيضاً. و بعبارة اُخرى، أنّ الأبوين يؤثران على الطّفل أخلاقياً من طريقين، طريق التّكوين، و 1. بحار الأنوار، ج 1، ص224. [ 143 ] طريق التّشريع، و المراد من التّكوين هو الصفات و السّجايا المزاجيّة و الأخلاقيّة المتوفرة في الكروموسومات و الجينات، و الّتي تنتقل لا إرادياً للطفل في عمليّة الوراثة. و الطريق التشريعي يتمثل في إرشاد الأبناء، من خلال أساليب التّعليم و التّربية للصفات الأخلاقيّة، التي يكتسبها الطفل من الأبوين بوعي وشعور. و من المعلوم أنّ أيّاً من هذين الطّريقين، لا يكون على مستوى الإجبار، بل كلّ منهما يُهيّىء الأرضيّة لنمو و رشد الأخلاق في واقع الإنسان، ورأينا في كثير من الحالات أفراداً صالحين و طاهرين، لأنّ بيئتهم كانت طاهرةً و سليمةً، والعكس صحيح أيضاً. ولا شك من وجود إستثناءات في الحالتين تبيّن أنّ تأثير هذين العاملين، و هي: "التربية والوراثة"، لا يكون تأثيراً على مستوى جَبر، بل يخضع لأدوات التّغيير و عنصر الإختيار. و نعود بعد هذه الإشارة إلى أجواء القرآن الكريم، لنستوحي من آياته الكريمة ما يرشدنا إلى الحقيقة: 1 ـ (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً )(1). 2 ـ (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُول حَسَن وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا )(2). 3 ـ (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(3). 4 ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )(4). 5 ـ (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً )(5) تفسير و استنتاج: "الآية الاُولى": تتحدث عن نوح ودعائه على قومه بالهلاك، حيث إستدلّ على ذلك 1. سورة نوح، الآية 27. 2. سورة آل عمران، الآية 37. 3. سورة آل عمران، الآية 33 و 34. 4. سورة التحريم، الآية 6. 5. سورة مريم، الآية 28. [ 144 ] بقوله: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ). فهذا الكلام يدلّ على أنّ الفجار و المنحرفين، لا يلدون إلاّ الفجّار و المنحرفين، و لا يستحقون الحياة الكريمة من موقع الرّحمة، بل يجب أن ينزل عليهم العذاب أينما وجدوا وحلّوا، و الحقيقة أنّ البيئة، و تربية الاُسرة وكذلك الوراثة، كلّها عوامل تؤثر في الأخلاق و العقيدة، في حركة الحياة والإنسان، والمهم في الأمر أنّ نوحاً(عليه السلام)، قطع بكفر وفساد أولادهم اللاّحقين، لأنّ الفساد إنتشر في المجتمع بصورة كبيرة جدّاً، فلا يمكن لأحد أن يفلت منه بسهولة، و طبعاً وجود مثل هذه العوامل، لا يعني سلب الإرادة من الإنسان، وقد ذهب البعض إلى أنّ نوح(عليه السلام)، توجّه لهذه الملاحظة عن طريق الوحي الإلهي، عندما قال له الباري تعالى: (إنَّهُ لَن يُؤمِنَ مِن قَومِكَ إلاّ مَن آمن )(1). و من الواضح، أنّ هذه الآية لا تشمل الأجيال القادمة، لكنّه لا يُستبعد أنّه(عليه السلام)حكم عليهم بالإعتماد على الاُمور الثلاثة السّابقة الذّكر، و هي: (البيئة، وتربية الاُسرة، و عامل الوراثة). و قد ورد في بعض الرّوايات أنّ الكفّار من القوم، كانوا يأتون بصبيانهم المميزين عند نوح(عليه السلام)، و يقول الأب لإبنه; أترى هذا الشّيخ يا بُني؟ إنّه شيخٌ كذّاب، فلا تقترب منه، هكذا أوصاني أبي، "وإفعل أنت ذلك مع إبنك أيضاً". و ظلّ الأمر على هذا المنوال على تعاقب الأجيال(2). -- و في "الآية الثانية": يحدثنا القرآن الكريم عن السيّدة مريم(عليها السلام)، والتي تعتبر من أهم وأبرز الشخصيات النسائية في العالم، و قد ورد في النّصوص الدينيّة، ما يبيّن أنّ مسألة التربية والوراثة و البيئة، لها أهميّة كبيرةٌ في رسم وصياغة شخصيّة الإنسان، في خطّ الحقّ أو الباطل، و لأجل تربية أفراد صالحين، يجب علينا التّوجه لتلك الاُمور. و من جملتها، حالة الاُم في زمان الحَمل، فترى أنّ اُمّ مريم كانت تستعيذ بالله تعالى من 1. سورة هود، الآية 36. 2. تفسير الفَخر الرازي، و المُراغي، للآية مَورد بحثنا. [ 145 ] الشّيطان الرجيم ، وكانت تتمنى دائماً أن يكون من خُدّام بيت الله ،بل نذرت أن يكون وليدها كذلك. فتقول الآية الكريمة: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُول حَسَن وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ). تشبيه الإنسان الطّاهر بالنبات الحَسن، هو في الحقيقة إشارةٌ إلى أنّ الإنسان كالنبات، يجب ملاحظته ملاحظةً دقيقةً، فالنبات ولأجل أن ينبت نباتاً حسناً مثمراً، يجب في بادىء الأمر الإستفادة من البذور الصّالحة، و الإعتناء به من قبل الفلاّح في كل مراحل رشده، إلى أن يصبح شجرةً مثمرةً، فكذلك الطفل في عَمليّة التربية، حيث ينبغي التّعامل معه من منطلق الرّعاية و العناية، و تربيته تربيةً صحيحةً، لأنّ عامل الوراثة يؤثر في نفسه وروحه، و الاُسرة التي يعيش فيها، و كذلك البيئة والمحيط الذي يَتعايش معه، كلّها تمثل عناصر ضاغطة في واقعه النّفساني و المزاجي. و الجدير بالذّكر، أنّ الله سبحانه جاء بجملة: "وكَفّلَها زكَريا" في ذيل الآية، وهي الكفالة لمريم(عليها السلام)(1)، و معلوم حال من يتربى على يد نبيٍّ من أنبياء الله تعالى، بل الله تعالى هوالذي إختاره لكفالتها ورعايتها. فلا غرابة والحال هذه، أن تصل مريم(عليها السلام) لدرجات سامية، من الإيمان و التّقوى، و الأخلاق و التربية، ففي ذيل هذه الآية، يقول القرآن الكريم: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الِْمحرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب ). نعم فإنّ التربية الإلهيّة: تُثمر الأخلاق الإلهيّة، و الرزق من الله في طريق التّكامل المعنوي للإنسان. -- وقد ورد في "الآية الثالثة": مقدّمةٌ لقضية مريم(عليها السلام)، و كفالة زكريّا(عليه السلام) لها، وفيها الكلام عن تأثير العامل الوراثي، و عامل التربية في تكريس الطهارة و التقوى و الفضيلة، في مضمون 1. يجب التنويه إلى أنّ "كفل"، إذا قُرىء بدون التّشديد، يعنى: التّعهد بالإدارة والكفالة، وا ذا قُرىء بالتّشديد بمعنى: إختيار الكفيل لآخر، وبناءً على ذلك فإنّ الله تعالى إختار زكريّا(عليه السلام) لتربية مريم(عليها السلام)، "وكفّل": أخذ مفعولين، أحدهما: (هاء)، يعود إلى مريم(عليها السلام)، و الآخر إلى: زكريا(عليه السلام). [ 146 ] الإنسان و محتواه الداخلي، فقال تعالى: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). فالذرّية التي بعضها من بعض، إشارة لعامل الوراثة أو التربية الاُسريّة، أو كلاهما وهو شاهد حيٌّ يؤيد مُدّعانا من تأثير عناصر الوراثة و التربية، في الشّخصيّة و معطياتها في خط التّقوى و الفضيلة. و أشارت الرّوايات التي نُقلت في ذيل هذه الآية، لذلك المعنى(1) أيضاً، وعلى كل حال، فإنّ الآيات الآنفة الذّكر، تدلّ على مدى تأثير معطيات التربية والبيئة و الوراثة، في نفسية الإنسان، و أثرها العميق في صياغة قابليّاته، و الإرتفاع به للتّصدي لمقام الرئاسة المعنويّة على الخلق، ولا يمكن إنكار تلك المَعطيات، و لا يمكن أبداً مُقايسة هؤلاء الأطهار الذين عاشوا أجواءَ الفضيلة، بالّذين ورثوا الكفر و الفساد و النّفاق من آبائهم وأجدادهم. -- و في "الآية الرابعة": خاطب الباري تعالى المؤمنين وقال لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ). وقد تَلت هذه الآية، الآيات الّتي جاءت في بداية سورة التّحريم، و التي حذّرت فيها نساء النّبي(صلى الله عليه وآله) من أعمالهنّ، وبعدها ذكر المطلب بصورة حكم عامٍّ شمل كلّ المؤمنين. و من المعلوم أنّ المقصود من هذه النار، هي نار الآخرة، ولا يمكن الإتقاء من تلك النار، إلاّ بالإهتمام بعمليّة التعليم و التربية السّليمة في واقع الاُسرة، و التي بدورها توجب ترك المعاصي، و الإقبال على الطّاعة و تقوى الله تعالى. و بناءً على ذلك فإنّ هذه الآية تعيّن و تبيّن وظيفة ربّ الاُسرة، و دوره في التّربية والتعليم، وكذلك تبيّن أهميّة و تأثير عنصر التربية و التعليم، في ترشيد الفضائل و الأخلاق الحميدة، و السيّرة الحسنة. و يجب الإهتمام في ترجمة هذا البرنامج، إلى عالم الممارسة و التطبيق، من أوّل لبنة توضع في بناء الاُسرة، أي منذ إجراء عقد الزّواج و الرّباط المُقدس، و يجب الإهتمام بإسلوب التربية، من أوّل لحظة يولد فيها الطّفل، و يستمر البرنامج التّربوي في كلّ المراحل التي تعقبها. 1. يرجى الرجوع إلى نور الثقلين: (ج1، ص331). [ 147 ] فنقرأ في حديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أنّه عندما نزلت هذه الآية الشّريفة، سأله أحد أصحابه، عن كيفيّة الوقاية من النار، له و لعياله، فقال له الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "تَأمُرُهُم بِما أَمَرَ اللهُ وَتَنهاهُم عَمّا نَهاهُم اللهُ إنْ أَطاعُوكَ كنْتَ قَدْ وَقَيتَهُم وَإِنْ عَصَوكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيتَ ما عَلَيكَ"(1). و يجب أن يكون معلوماً، أنّ الأمر بالمعروف يعدّ من الوسائل الناجعة لوقاية الاُسرة من الإنحراف و السّقوط في هاوية الجحيم، ولأجل الوصول إلى هذا الهدف، علينا الإستعانة بكلّ الوسائل المتاحة لدينا، و كذلك الإستعانة بالجوانب العملية والنفسية و الكلامية، ولا يُستبعد شمول الآية لمسألة الوارثة، فمثلاً أكل لقمة الحلال عند إنعقاد النّطفة و ذكر الله، يُؤثر إيجابياً في تكوين النّطفة، و تنشئة الطّفل و حركته في المستقبل في خطّ الإيمان. -- "الآية الخامسة والأخيرة": تشير إلى قصّة مريم(عليها السلام) و ولادتها للمسيح(عليه السلام)، الذي وُلد من دون أب، و تعجّب قومها من ذلك الأمر الفظيع بنظرهم!، فقال الباري تعالى على لسان قومها: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ). فهذا التعبير، (و خصوصاً نقل القرآن الكريم من موقع الإمضاء و التأييد)، إن دل على شيء فهو يدلّ على معطيات عوامل الوراثة من الأب والاُم، وكذلك تربية الاُسرة وتأثيرها في أخلاق الطفل، وكلّ الناس لمسوا هذه الأمر بالتجربة، فإذا شاهدوا أمراً مُخالفاً للمعهود، إستغربوا و تعجّبوا. -- و من مجموع ما تقدم، يمكننا أن نستوحي هذه الحقيقة، وهي أنّ الوراثة و التربية، من العوامل المهمّة، في رسم و غرس القيم الأخلاقيّة في حركة الواقع النفسي للإنسان، إن على مستوى الأخلاق الحسنة أو السيئة. -- 1. نور الثقلين: (ج 5، ص 372). [ 148 ] الأخلاق والتربية في الأحايث الإسلاميّة: لا شكّ أنّ المدرسة الأولى للإنسان، هي واقع الاُسرة، فمنها يتعلم الإنسان الدّروس الاُولى للفضيلة أو الرذيلة. وإذا ما تناولنا مفهوم التربية بشكله العام: "التكوين والتشريع"، فإنّ أوّل مدرسة يدخلها الإنسان، هي رحم الاُم وصلب الأب، و الّتي تؤتي معطيّاتها بصورة غير مباشرة على الطفل، و تهيىء الأرضيّة للفضيلة، أو الرّذيلة في حركته المستقبليّة. و قد ورد في الأحاديث الإسلاميّة، تعبيراتٌ لطيفةٌ و دقيقةٌ جدّاً في هذا المجال، نشير إلى قسم منها: 1 ـ قال عليٌّ(عليه السلام): "حُسْنُ الأَخلاق بُرهانُ كَرَمِ الأَعراقِ"(1). ا ص149 - ص162و بناءً عليه فإنّ الاُسر الفاضلة، غالباً ما تقدّم للمجتمع أفراداً متمّيزين على مستوى الأخلاق الحسنة، وبالعكس فإنّ الأفراد الطالحين، ينشؤون غالباً من عوائل فاسدة. 2 ـ ورد في حديث آخر عن الإمام علي(عليه السلام) أنّه قال: "عَلَيكُم فِي طَلبِ الحَوائِجِ بأشراف النُّفُوسِ وَذَوي الاُصُولِ الطَّيِّبَةِ، فإِنَّها عِنْدَهُم أَقضى، وَهِي لَدَيهِم أَزكَى"(2). 3 ـ و في عهد الإمام علي(عليه السلام) لمالك الأشتر(رحمه الله)، ووصاياه له في إختيار الضّباط للجيش الإسلامي، قال له: "ثُمَّ الصَقْ بِذَوي المُروُءاتِ والأَحسابِ وَأَهلِ البُيُوتاتِ الصَّالِحَةِ والسَّوابِقِ الحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجدَةِ وَالشَّجَاعَةِ والسَّخاءِ وَالسَّمَاحَةِ فإِنَّهُم جِماعُ مِنَ الكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ العُرفِ"(3). 4 ـ وورد عن الإمام الصادق(عليه السلام)، حديث يُبيّن تأثير الآباء الفاسدين على شخصية الأطفالِ و سلوكهم الأخلاقي، فقال: "أَيَّما إِمرَأَة أَطاعَتْ زَوجَها وَ هُوَ شارِبٌ لِلخَمْرِ، كَانَ لَها مِنَ الخَطايا بِعَدَدِ نُجُومِ السَّماءِ وَكُلُّ مَولُود يُولَدُ مِنْهُ فَهُوَ نَجِسٌ"(4). 1. غُرر الحِكم. 2. المصدر السابق. 3. نهج البلاغة. 4. لئالي الأخبار. [ 149 ] وقد ورد النّهي الأكيد، في روايات اُخرى كثيرة عن تزويج الشّارب للخمر، و السّيء الأخلاق(1). 5 ـ و قد ورد في الحديث النبوي المشهور، بالنّسبة إلى تأثير تربية الأب والاُم على الأولاد، أنّه قال: "كُلُّ مَولُود يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ حتى يَكُونَ أَبواهُ هُمَا اللَّذانِ يُهِوِّدانِهِ وَيُنَصِّرانِهِ"(2). فالتربية التي تعمل على تغيير إيمان و عقيدة الطّفل، كيف لا تعمل على تغيير سلوكه الأخلاقي في الدّائرة الإجتماعية؟ 6 ـ و هذا الأمر جعل مسألة التربية الصّالحة، من أهم حقوق الطّفل على الوالدين، فنقرأ في الحديث النبوي الشّريف: "حَقُّ الوَلَدِ عَلى الوَالِدِ أَنْ يُحْسِنَ إسمَهُ وَيُحْسِنَ أَدَبَهُ"(3). فمن الواضح أنّ مداليل الأسماء، لها أثرها الأكيد على نفسيّة و روحيّة الطّفل، فأسماء الشّخصيات الكبيرة من أهل التّقوى والفضيلة، تجذب الإنسان المُسمّى بأسمائهم إليهم، و تدعوه للتّقرب إليهم، و بالعكس، فإنّ أسماء الفسقة و الكفّار، تقرّب من يتسمى بأسمائهم منهم أيضاً(4). 7 ـ و نقرأ في النبوي الشريف أيضاً: "ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ أَفضَلَ مِنْ أَدب حَسَن"(5). 8 ـ وقال الإمام السجّاد(عليه السلام)، بتعبير أوضح: "وَإِنَّكَ مَسؤولٌ عَمَّا وَلِّيتَهُ بِهِ مِنْ حَسَنِ الأَدبِ وَالدَّلالَةِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّوَجَلَّ وَ المَعُونَةَ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ"(6). 9 ـ و قال الإمام علي(عليه السلام)، بأنّ أخلاق الأبوين، هي عبارةٌ عن ميراث الأبناء منهما، 1. وسائل الشيعة، ج14، ص53 و 54. 2. تفسير مجمع البيان، ذيل الآية 30 من سورة الروم. 3. كنز العمّال، 45192. 4. وسائل الشيعة، ج15، ص122 و 132. 5. كنز العمّال، ح45411. 6. بحار الأنوار، ج71، ص6 (جوامع الحقوق). [ 150 ] فيقول(عليه السلام): "خَيرُ ما وَرَّثَ الآباءُ الأَبناءَ الأَدَبَ"(1). 10 ـ و نختم هذا البحث بحديث آخر عن الإمام على(عليه السلام)، حيث بيّن الإمام(عليه السلام)، شخصيته للجهّال الذين يقيسونه بغيره، فقال: "وَقَدْ عَلِمْتُم مَوضِعي مِنْ رَسُولِ اللهِ بِالقَرابَةِ القَريبَةِ وَالمَنزِلَةِ الخَصِيَّةِ، وَ ضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدرِهِ... يَرفَعُ لِي كُلَّ يَوم عَلَماً مِنْ أَخلاقِهِ وَ يَأَمُرُنِي بِالإِقتِداءِ..". و اللطيف في الأمر، أنّ الإمام(عليه السلام) وفي أثناء حديثه، بيّن قسماً من أخلاق الرّسول(صلى الله عليه وآله)، فقال: "وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ(صلى الله عليه وآله) مِن لَدُنْ أَن كانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَك مَِنْ مَلائِكَتِهِ يَسلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخلاقِ العالَمِ لَيلَهُ و نَهارَهُ"(2). -- و صحيح أنّ الصفات النفسية و الأخلاقيّة، سواء كانت سيئة أم حسنة، فهي تنبع من باطن الإنسان وإرادته، ولكن لا يمكن إنكار معطيات البيئة وأجواء المحيط، في تكوين وترشيد الأخلاق الحسنة والسّيئة، و كذلك عنصر الوراثة من الوالدين والاُسرة بصورة أعم، و توجد شواهد عينيّة كثيرة، و أدلة قطعيّة على ذلك، ترفع الشّك و الترديد في المسألة. وبناءً على ذلك، و لأجل بناء مجتمع صالح و أفراد سالمين، علينا الإهتمام بتربية الطّفل تربيةً سليمةً، و الإنتباه لعوامل الوراثة و أخذها بنظر الإعتبار، في واقع الحياة الفرديّة و الإجتماعيّة. -- 4 ـ معطيّات العلم و المعرفة في التربية ومن العوامل الاُخرى، في عمليّة تهذيب الأخلاق وترشيدها، هو الصعود بالمستوى 1. غُرر الحِكم. 2. نهج البلاغة، الخطبة 192، (الخطبة القاصعة). [ 151 ] العلمي والمعرفي للأفراد، فإنّ التجربة أثبتت أنّ الإنسان، كلّما إرتقى مستواه في دائرة العلوم والمعارف الإلهيّة، أينعت سجاياه الإنسانيّة، و تفتحت فضائله الأخلاقيّة، و العكس صحيح، فإنّ الجهل وفقدان المعارف الإلهيّة، يؤثر تأثيراً شديداً على دعامات و اُسس الفضيلة، و يهبط بالمستوى الأخلاقي للفرد، في خطّ الإنحراف و الباطل. و في بداية هذا الكتاب، في مبحث علاقة العلم بـالإخلاق، ذكرنا أبحاثاً مختصرةً عن الأواصر الحاكمة بين هذين العاملين، و أشرنا إلى أنّ بعض الفلاسفة و العلماء، بالغوا في الأمر و إدعوا أنّ: "العلم يساوي الأخلاق". وبعبارة اُخرى: أنّ العلم أو الحكمة و المعرفة، هي المنبع الرّئيسي للأخلاق، "كما نُقل عن سقراط الحكيم"، و أنّ الرّذائل الأخلاقيّة سببها الجهل. فمثلاً المتكبّر و الحاسد، إنّما إبتلى بهذين الرذيلتين، بسبب عدم علمه بواقع الحال، فلا توجد عنده صورةٌ واضحةٌ عن أضرارهما وتبعاتهما السلبيّة، على واقع الإنسان الدّاخلي، ويقولون أنّه لا يوجد إنسان يخطو خطوةً نحو القبائح عن و عي و علم بها. و بناءً على ذلك، إذا تمّ الصّعود بالمستوى العلمي لدى أفراد المجتمع، فإنّ ذلك بإمكانه، أن يكون عاملاً مساعداً، لتشييد صرح الهيكل الأخلاقي السّليم في المجتمع. و بالطّبع فإنّ هذا الكلام فيه نوع من المُغالاة و المُبالغة، و يُنظر للمسألة من زواية خاصّة، رغم أننا لا ننكر أنّ العلم يُعدّ من العوامل المهمّة لتهيئة الأرضيّة، و خَلقِ الأجواء الملائمة لِسيادة الأخلاق، بناءً على ذلك فإنّ الأفراد الاُميّين و الجهلة، يكونون أقرب إلى منحدر الضّلالة والخطيئة، وأمّا العلماء الواعون، فيكونون على بصيرة من أمرهم ويبتعدون عن الرّذيلة، من موقع الوضوح في الرّؤية، ولا ننسى أنّ لكلّ قاعدة شَواذ. و قد ورد في القرآن الكريم هذا المعنى، في بيان الهدف من البعثة: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الاُْمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَل مُبِين )(1). 1. سورة الجمعة، الآية 2. [ 152 ] و بناءً على ذلك، فإنّ النّجاة من الضّلال المبين، و الطّهارة من الأخلاق الرّذيلة و الذنوب، تأتي بعد تلاوة الكتاب المجيد، و تعليم الكتاب والحكمة، و هو دليلٌ واضحٌ على وجود العلاقة و الإرتباط بين الإثنين. و قد أوردنا في الجزء الأوّل من الدّورة الاُولى من نفحات القرآن الكريم، شواهد حيّةً و كثيرةً من الآيات القرآنية، حول علاقة العِلم والمعرفة بالفضائل الأخلاقيّة، و كذلك علاقة الجهل بالرذائل الأخلاقيّة، ونشير هنا بشكل مختصرٌ إلى عشرة نماذج منها: 1 ـ الجهل مصدرٌ للفساد و الإنحراف نقرأ في الآية (55) من سورة الّنمل: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ). فقرن هنا الجهل، بالإنحراف الجنسي والفساد الأخلاقي. 2 ـ الجهل سبب للإنفلات و التّحلل الجنسي ورد في الآية (33) من سورة يوسف على لسان يوسف(عليه السلام)، في أنّ الجهل قرينٌ للتحلل الجنسي، فقال تعالى: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمّا يَدْعُونَني إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ ). 3 ـ الجهل أحد عوامل الحسد ورد في الآية (89) من سورة يوسف(عليه السلام)، أنّه عندما جلس يوسف(عليه السلام) على عرش مصر، و تحدّث مع إخوانه الذين جاءوا من كنعان إلى مصر، لإستلام الحنطة منه، فقال: (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ). أي أنّ جهلكم هو السبب في وقوعكم في أسر الحسد، الذي دفعكم إلى تعذيبه، و السّعي لقتله، و القائه في البئر. [ 153 ] 4 ـ الجهل مصدر التّعصب و العناد و اللؤم في الآية (26) من سورة الفتح، نرى أنّ تعصّب مشركي العرب في الجاهلية، كان بسبب جهلهم و ضلالهم: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ). 5 ـ علاقة الجهل بالذرائع تاريخ الأنبياء مليءٌ بمظاهر التبرير، و خلق الذّرائع من قبل الأقوام السّالفة، في مواجهة أنبيائهم، وقد أشار القرآن الكريم مراراً إلى هذه الظاهرة، و مرًّة اُخرى يشير إلى علاقة الجهل بها، فنقرأ في الآية (118) من سورة البقرة: (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ). فالتأكيد هنا على أنّ عدم العلم أو الجهل، هو الذي يتولى خلق الأرضيّة للتذرع، و تبيّن الآية الكريمة، العلاقة الوثيقة بين هذا الإنحراف الأخلاقي مع الجهل، وكما أثبتته التجارب أيضاً. 6 ـ علاقة سوء الظنّ مع الجهل ورد في الآية (154) من سورة آل عمران، الكلام عن مُقاتلي اُحد: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ). ولا شك في أنّ سوء الظّن، هو من المفاسد الأخلاقيّة، و مصدر لكثير من الرذائل الفردية و الإجتماعيّة في حركة الواقع والحياة، وهذه الآية تبيّن علاقة الظّن بالجهل بصورة واضحة. 7 ـ الجهل مصدر لسوء الأدب ورد في الآية (4) من سورة الحجرات، إشارةً للّذين لا يحترمون مقام النبوة، و قال إنّهم قوم لا يعقلون: [ 154 ] (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ). فقد كانوا يزاحمون الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، في أوقات الرّاحة، و في بيوت أزواجه، و يُنادونه بأعلى أصواتهم قائلين: يا مُحَمِّد! يا مُحَمِّد! اُخرُجُ إلَينا. فكان الرّسول(صلى الله عليه وآله) ينزعج كثيراً من سوء أدبهم وقلّة حيائهم، ولكن حياؤه يمنعه من البوح لهم، وبقي كذلك يتعامل معهم من موقع الحياء، حتى نزلت الآية، و نبّهتهم لضرورة التأدّب أمام الرسول(صلى الله عليه وآله)، و شرحت لهم كيف يتعاملون معه(صلى الله عليه وآله)، من موقع الأدب و الإحترام. و في تعبير: "أكثرهم لا يعقلون"، إشارة لطيفة للسّبب الكامن وراء سوء تعاملهم، و قلّة أدبهم وجسارتهم، وهو في الغالب عبارةٌ عن هُبوط المستوى العلمي، و الوعي الثقافي لدى الأفراد. 8 ـ أصحاب النّار لا يفقهون لا شك أنّ أصحاب النّار هم أصحاب الرذائل، و الملوّثين بألوان القبائح، وقد نوّه إليهم القرآن الكريم، و عرّفهم بالجُهّال، و عدم التّفقه، و يتّضح منه العلاقة بين الجهل و إرتكاب القبائح، فنقرأ في الآية (179) من سورة الأعراف: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالاِْنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ ). فقد بيّنت هذه الآية وآيات كثيرةٌ اُخرى، العلاقة الوطيدة بين الجهل، و بين أعمال السوء و إرتكاب الرذائل. 9 ـ الصبر من معطيات العلم الآية (65) من سورة الأنفال، تنبّه المسلمين على أنّ الصّبر الذي يقوم على أساس الإيمان و المعرفة، بإمكانه أن يمنح المسلمين قوّة للوقوف بوجه الكفّار، الذين يفوقون المسلمين عدداً وعدّةً، تقول الآية: [ 155 ] (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ ). نعم فإنّ جهل الكافرين، هو السبب في عدم إستطاعتهم في الصّمود بوجه المؤمنين، و في مقابل ذلك فإنّ وعي المؤمنين هو السّبب في صمودهم، بحيث يُعادل كلّ واحد منهم عشرة أنفار من جيش الكفّار. 10 ـ النّفاق والفرقة ينشآن من الجهل أشار القرآن الكريم في الآية (14) من سورة الحشر إلى يهود (بني النضير)، الذين عجزوا عن مُقاومة المسلمين، لأنّهم كانوا مُختلفين و مُتفرقين، رغم أنّ ظاهرهم يحكي الوحدة و الإتفاق، فقال: (لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَة أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ ). وبناءً على ذلك فإنّ النّفاق والفرقة و التشتت، و غيرها من الرذايل الأخلاقيّة، الناشئة من جهلهم وعدم إطّلاعهم على حقائق الاُمور. -- النتيجة: تبيّن ممّا جاء في أجواء تلك العناوين العشرة السّابقة، التي وردت في سياق بعض الآيات القرآنية، علاقة الفضيلة بالعلم من جهة وعلاقة الرذيلة بالجهل، من جهة اُخرى، و قد ثبت لنا بالتجربة ومن خلال المشاهدة، أنّ أشخاصاً كانوا منحرفين بسبب جهلهم، وكانوا يرتكبون القبيح و يمارسون الرّذيلة في السّابق، ولكنّهم إستقاموا بعد أن وقفوا على خطئهم، و تنبّهوا إلى جهلهم، و أقلعوا عن فعل القبائح و الرذائل، أو قلّلوها إلى أدنى حدٍّ. و الدّليل المنطقي لهذا الأمر واضح جدّاً، وذلك لأنّ حركة الإنسان نحو التّحلي بالصّفات والكمالات الإلهيّة، يحتاج إلى دافع و قصد، وأفضل الدّوافع هو العلم بفوائد الأعمال الصّالحة ومضار القبائح، وكذلك الإطّلاع و التعرّف على المبدأ و المعاد، و سلوكيات الأنبياء والأولياء [ 156 ] ومذاهبهم الأخلاقية، فكلّ ذلك بإمكانه أن يكون عاملاً مساعداً، يسوق الإنسان للصّلاح و الفلاح، و الإبتعاد عن الفساد والباطل في حركة الحياة والواقع. و بالطّبع المراد من العلم هنا، ليس هو الفنون والعلوم الماديّة، لأنّه يوجد الكثير من العلماء في دائرة العلوم الدنيويّة، ولكنّهم فاسدين ومفسدين ويتحركون في خط الباطل و الإنحراف، ولكن المقصود هو العلم والاطّلاع على القيم الإنسانية، و التعاليم والمعارف الإلهيّة العالية، التي تصعد بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي و الأخلاقي، في مسيرته المعنوية. -- علاقة "العلم" و "الأخلاق" في الأحاديث الإسلاميّة: الأحاديث الإسلاميّة من جهتها، مشحونة بالعبارات الحكيمة الّتي تبيّن العلاقة الوثيقة بين العلم والمعرفة من جهة، وبين الفضائل الأخلاقيّة من جهة اُخرى، وكذلك علاقة الجهل بالرّذائل أيضاً. وهنا نستعرض بعضاً منها: 1 ـ بيّن الإمام علي(عليه السلام) علاقة المعرفة بالزهد، الذي يُعدّ من أهمّ الفضائل الأخلاقيّة، فقال: "ثَمَرةُ المَعرِفَةِ العُزُوفُ عَِنْ الدُّنيا"(1). 2 ـ وَ وَرد في حديث آخر عنه(عليه السلام)، قال: "يَسيرُ المَعرِفةِ يُوجِبُ الزُّهدَ فِي الدُّنيا"(2). و المعرفة هنا يمكن أن تكون إشارةً لمعرفة الباري تعالى، فكلّ شيء في مقابل ذاته المقدّسة لا قيمة له، فما قيمة القَطرة بالنسبة للبحر، و نفس هذا المعنى يمثّل أحد أسباب الزهد في الدنيا وزبرجها، أو هو إشارةٌ لعدم ثبات الحياة في الدّنيا، و فناء الأقوام السّابقة، و هذا المعنى أيضاً يحثّ الإنسان على التّحرك في سلوكه و أفكاره، من موقع الزّهد، و يوجّهه نحو الآخرة و النّعيم المقيم، أو هو إشارةٌ لجميع ما ذُكر آنفاً. 1. غرر الحكم. 2. المصدر السابق. [ 157 ] 3 ـ وَ وَرد عنه(عليه السلام) في حديث آخر، بيان علاقة الغِنى الذّاتي، و ترك الحرص على الاُمور الدنيوية، بالعلم والمعرفة، فقال: "مَنْ سَكَنَ قلْبَهُ العِلْمُ بِاللهِ سُبحانَهُ سَكَنَهُ الغِنى عَنْ الخَلْقِ"(1). و من الواضح أنّ الذي يعيش المعرفة، بالصّفات الجماليّة و الجلاليّة للباري تعالى، و يرى أنّ العالم كلّه، هو إنعكاسةٌ أو و مضةٌ، من شمس ذاته الأزليّة الغنيّة بالذات، فيتوكل عليه فقط، و يرى نفسه غنيّاً عن الناس أجمعين، في إطار هذا التوكّل والإعتماد المطلق على الله تعالى. 4 ـ و جاء في حديث عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، حول معرفة الله وعلاقتها بحفظ اللّسان من الكلام البذيء، و البطن من الحرام، فقال(صلى الله عليه وآله): "مَنْ عَرَفَ اللهَ وَعَظَمَتَهُ مَنَعَ فاهُ مِنْ الكَلامِ وَبَطْنَهُ مِنَ الحَرامِ"(2). 5 ـ وَرَد عن الإمام الصّادق(عليه السلام)، علاقة المعرفة بالخوف منه تبارك و تعالى، الذي هو بدوره مصدر لكلّ أنواع الفضائل، فقال: "مَنْ عَرَفَ اللهَ خافَ اللهَ وَمَنْ خافَ اللهَ سَخَتَ نَفْسَهُ عَنِ الدُّنيا"(3). 6 ـ بالنّسبة للعفو وقبول العذر من الناس، قال أمير المؤمنين(عليه السلام): "أَعْرَفُ النَّاسِ بِاللهِ أَعْذَرَهُم لِلنّاسِ و إِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُم عُذراً"(4). (و من البديهي أنّ هذا الحديث ناظرٌ إلى المسائل الشخصيّة، لا المسائل الإجتماعيّة). 7 ـ حول معرفة الله و ترك التكبّر، قال(عليه السلام): "وَ إِنَّهُ لا يَنبَغِي لَمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللهِ أنْ يَتَعَظَّمُ"(5). 8 ـ حول العلم والعمل، قال(عليه السلام): "لَن يُزَّكى العَمَلُ حتّى يُقارِنَهُ العِلْمُ"(6). 1. غرر الحكم. 2. اُصول الكافي، ج2، ص237. 3. المصدر السابق، ص68، ح4. 4. غُرر الحِكم. 5. نهج البلاغة، الخطبة 147. 6. غُرر الحِكم. [ 158 ] ومن المعلوم أنّ طهارة العمل لا تنفكّ عن طهارة الأخلاق. 9 ـ و نقرأ في حديث آخر عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، حول هذا الموضوع: "بِالعِلمِ يُطاعُ اللهُ وَيُعبَدُ وَبالعِلمِ يُعْرَفُ اللهُ وَيُوَحَّدُ وَبِهِ تُوصَلُ الأَرحامُ وَيُعْرَفُ الحَلالُ وَ الحَرامُ وَ العِلمُ إِمامُ العَمَلِ".(1) ففي هذا الحديث، إعتبر كثيراً من السّلوكيّات الأخلاقيّة الإيجابيّة، هي ثمرةٌ من ثمار العلم و المعرفة. 10 ـ ورد نفس هذا المعنى بصراحة أقوى عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال: "ثَمَرَةُ العَقلِ مُداراةُ النَّاسِ"(2). و في مقابل الأحاديث التي تتحدث عن العلم و المعرفة، و علاقتها بالفضائل الأخلاقيّة توجد أحاديث شريفة اُخرى، وردت في المصادر الإسلاميّة حول علاقة الجهل بالرذائل، و هي تأكيد آخر لموضوع بحثنا هذا ومنها: 1 ـ في حديث عن علي(عليه السلام) قال: "الجَهلُ أَصلُ كُلِّ شرٍّ"(3). 2 ـ و ورد أيضاً عنه(عليه السلام): "الحِرصُ وَالشَّرَهُ والبُخلُ نَتِيجَةُ الجَهلِ"(4). لأنّ الحريص أو الطّماع، غالباً ما يتحرك في طلب اُمور زائدة عن إحتياجه، و في الحقيقة فإنّ ولعه بالمال و الثّروة و المواهب الماديّة، ولعٌ غير منطقي و غير عقلائي، وهكذا حال البخيل أيضاً فبِبُخله يحرص، و يحافظ على أشياء لن يستفيد منها في حياته، بل يتركها لغيره بعد موته. 3 ـ و نقل عنه(عليه السلام) في تعبير جميل: "الجَاهِلُ صَخْرَةٌ لا يَنْفَجِرُ مائُها! وَشَجَرَةٌ لا يَخْضَرُّ عُودُهـا! وَأَرْضٌ لا يَظهَرُ عُشْبُها!"(5). 1. تحف العقول، ص21. 2. غُرر الحِكم. 3. المصدر السابق. 4. المصدر السابق. 5. المصدر السابق. [ 159 ] 4 ـ وَ وَرد عنه(عليه السلام) أيضاً، في إشارة إلى أنّ الجاهل يعيش دائماً في حالة إفراط أو تفريط، فقال: "لا تَرى الجَاهِلَ إلاّ مُفْرِطاً أو مُفَرِّطاً"(1). فطبقاً للرأي المعروف عن علماء الأخلاق، أنّ الفضائل الأخلاقيّة هي الحد الأوسط بين الإفراط و التفريط، الذي ينتهي إلى السّقوط في الرذائل، ويُستفاد من الحديث أعلاه، أنّ العلاقة بين الجهل من جهة و الرذائل الأخلاقيّة، من جهة اُخرى، هي علاقةٌ و طيدةٌ جدّاً. 5 ـ يقول كثير من علماء الأخلاق، أنّ الخُطوة الاُولى لإصلاح الأخلاق، و تهذيب النّفس، هي المحافظة على اللّسان و الإهتمام بإصلاحه، وقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة، تأكيد على علاقة الجهل ببذاءة اللّسان، فنقرأ في حديث عن الإمام الهادي(عليه السلام): "الجَاهِلُ أَسِيرُ لِسانِهِ"(2). و خُلاصة القول، أنّ الرّوايات الإسلاميّة الكثيرة أكدت على علاقة العلم بالأخلاق الحسنة، و الجهل بالأخلاق السيّئة، و كلّها تؤيد هذه الحقيقة، و هي أنّ إحدى الطّرق المؤثرة لتهذيب النّفوس، هو الصّعود بالمستوى العلمي و المعرفي لِلأفراد، و معرفة المبدأ و المعاد، والعلم بمعطيات الفضائل و الرذائل الأخلاقية، في واقع الإنسان والمجتمع. هذا الصعود بالمستوى العلمي للأفراد على نحوين: النحو الأول: زيادة المعرفة بسلبيات السّلوك المنحرف، و الإطّلاع على أضرار الرذائل الأخلاقية بالنسبة للفرد والمجتمع، فمثلاً عندما يُحيط الإنسان علماً، بأضرار المواد المخدّرة أو المشروبات الكحولية، وأنّ أضرارها لا يمكن اصلاحها على المستوى القريب، فذلك العلم سيهيّىء الأرضيّة في روح الإنسان، للإقلاع عن تلك السلوكيّات المضرّة، و بناءً عليه فكما أنّه يجب تعريف النّاس بمضرّات المخدرات، و المشروبات الكحولية، وعلينا تعريف النّاس بطرق مُحاربة الرّذائل و إحصاء عُيوبها، و أساليب تنمية الفضائل، و إستجلاء محاسنها، ورغم أنّ ذلك لا يُمثّل العلّة التّامة لإحداث حالة التغيير، و التّحول في الإنسان، ولكّنه بلا شك يمهّد 1. نهج البلاغة، الكلمات القصار، الرقم 70. 2. بحار الانوار، ج75، ص368. [ 160 ] ويهيّىء الأرضيّة المساعدة لذلك. القسم الثاني: الصّعود بالمستوى العلمي بصورة عامّة، فعندما يطّلع الإنسان على المعارف الإلهيّة، ومنها المبدأ و المعاد، و أقوال الأنبياء و الأولياء، و ما شابه ذلك، فإنّ الإنسان سيجد في نفسه ميلاً نحو الفضائل، و رغبةً في الإبتعاد عن الرّذائل. و بعبارة اُخرى: إنّ تدنّي المستوى العلمي بالاُمور العقائدية، كفيل بخلق محيط مناسب لنمو الرذائل، والعكس صحيحٌ فإنّ زيادة المعرفة تبعث في روح الإنسان الرّغبة و الشّوق نحو ممارسة الفضيلة. -- 5 ـ دور الثّقافة الإجتماعيّة في تربية الفضائل والرذائل: الثّقافة عبارة عن مجموعة من الاُمور، التي تبني فكر وروح الإنسان، و تمنحه الدّافع الأصلي للتحرك نحو المسائل المختلفة. وعلى مستوى المِصداق، تمثّل الثّقافة مجموعةً من العقائد، و التاريخ و الأدب و الفن، و الآداب و الرّسوم لمجتمع ما. و قد تكلمنا في السّابق عن بعض معطيات البيئة و المحيط و المعرفة، و دورها في إيجاد الفضائل و الرّذائل، و نتطرّق الآن لباقي أقسام الثّقافة الإجتماعيّة، و دورها في تحكيم و تقوية عناصر الخير، ودعامات الفضائل في واقع النّفس، أو تعميق عناصر الرّذيلة فيها. وأحد هذه الاُمور، العادات و التقاليد و السّنن لقوم من الأقوام، فإذا إستوحت مقوّماتها من الفضائل، فستكون مؤثّرة في خلق الأجواء المناسبة لتربية و تهذيب النّفوس، وأمّا لو إسترفدت قوتها وحياتها من الرّذائل الأخلاقيّة، فستكون البيئة مهيّئة لتقبل أنواع القبائح أيضاً. وَ وَرد في القرآن الكريم إشاراتٌ واضحةٌ في هذا المجال، تبيّن كيفيّة إنحراف الأقوام السّابقة، بسبب الثّقافة المنحرفة والتقاليد والأعراف المنحطة لديهم، و الّتي أدّت بهم إلى السّقوط في [ 161 ] منزلقات الخطيئة، و الإنحدار في هاوية الرذائل الأخلاقية، ومنها: 1 ـ (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )(1). 2 ـ (وَإِذَا قِيلَ لَهُم اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ )(2). 3 ـ (إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَها عَابِدِينَ )(3). 4 ـ (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَة مِنْ نَذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ )(4). 5 ـ (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ )(5). 6 ـ (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاُْنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُون أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ )(6). 7 ـ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ )(7). -- تفسير و إستنتاج: ما نستوحيه من الآيات الكريمة محلّ البحث، هو أنّ ثقافة الأقوام والاُمم السّالفة، لها دورٌ 1. سورة الأعراف، الآية 28. 2. سورة البقرة، الآية 170. 3. سورة الأنبياء، الآية 52 و 53. 4. سورة الزخرف، الآية 23. 5. سورة الأعراف، الآية 82. 6. سورة النّحل، الآية 58 و 59. 7. سورة الفتح، الآية 29. [ 162 ] فاعل في تربية و نمو الصفات الأخلاقيّة، أيّاً كانت، فإذا كانت الثّقافة السّائدة بمستوى مرموق، فمن شأنها أن تفرز لنا أفراداً ذوي صفات حميدة و أخلاق عالية، والعكس صحيح، والآيات الكريمة السّابقة الذّكر، تُشير إلى المعنيين أعلاه. ففي "الآية الاُولى": نقرأ قول الأقوام السّالفة، الّذين يعيشون الإنحراف، و يمارسون الخطيئة من موقع الوضوح في الرؤية، فإذا سُئلوا عن الدّافع لمثل هذه التصرفات الشائنة، و السلوكيات المنحرفة، قالوا بلغة التّبرير: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا... ). ولم يكتفوا بذلك بل تعدّوا الحدود، و قالوا: (وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا ). بناءً على ذلك، فإنّهم إتخذوا سُنّة الّذين مَضوا من قبلهم دليلاً على حسن أعمالهم، ولم يخجلوا من أفعالهم القبيحة، على مستوى النّدم و الإحساس بالمسؤوليّة، بل كانوا يعطوها الصّبغة الشرعيّة أيضاً. -- "الآية الثّانية": طرحت نفس المعنى ولكن بشكل آخر، فعندما كان الأنبياء يدعون أقوامهم إلى الشريعة الإلهيّة النّازلة من عند الله تعالى، كانوا يتحرّكون في المقابل من موقع العناد و التكبّر، و يقولون بِغرور: (سنتّبع سنّة آبائنا). ا ص163 - ص176ولم يكن سبب ذلك، إلاّ لأنّهم وجدوا آبائهم يؤمنون بها و يتّبعونها، و بذلك لبست ثياب القداسة و إعتبروها ديناً في حركة الحياة والواقع، فهي عندهم أفضل من آيات القرآن الكريم، و شرائع الباري تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )، وعليه، فلماذا فضّلوا العمل بسنّة الجهلاء، على إتّباع آيات الوحي الإلهي؟. و يضيف القرآن الكريم قائلاً: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ). -- وَوَرد في "الآية الثّالثة": الكلام عن السّنن وعادات الأقوام أيضاً، و دور الثّقافة الخاطئة في صياغة الأعمال المتقاطعة مع الأخلاق، ففي بيان يشابه الآيات الماضية، نقرأ قصّة إبراهيم [ 163 ] وعبدة الأصنام في بابل، فعندما كان يلومهم إبراهيم(عليه السلام)لعبادتهم الأصنام التي لا تضرّ و لا تنفع، كانوا يقولون بصراحة: وجدنا آباءنا لها عاكفين: (إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ). فأجابهم إبراهيم(عليه السلام) بأشدّ الكلام و أغلظه، بقوله: (وَقَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤكُمْ فِي ضَلال مُبِين ). ولكن وللأسف الشديد، إنتقل هذا الضّلال المبين إلى الأجيال، جيلاً بعد جيل، فأصبح جزءاً من ثقافتهم، و أكسبه توالي الزّمن عليه مسوح القداسة، فلم يمح قبحه فحسب، بل أصبح من إفتخاراتهم على المستوى الحضاري و الدّيني. -- "الآية الرابعة": توحي لنا نفس المعنى، ولكن بشكل آخر، ففي معرض جوابهم على السّؤال القائل: لماذا تعبدون هذه الأصنام رغم أنّكم تعيشون سلامة العقل؟، تقول الآية على لسانهم: (بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدنا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ). فليس أنّهم لم يعتبروا هذه الحماقة، ضلالةً فحسب، بل إعتبروها هدايةً و فلاحاً، و رثوه عن آبائهم الماضين، وذكرت "الآية التي بعدها" أنّ هذا هو طريق ومنطق كلّ المترفين على طول التاريخ، وقالت: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ في قَرْيَة مِنْ نَذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ). و من البديهي أنّ ذلك التقليد الأعمى، الذي كان يظهر جميلاً في ظلّ تلك القبائح، له أسبابٌ كثيرةٌ و أهمّها تبدّل ذلك القُبح إلى سُنّة و ثقافة بمرور الزّمن. و ورد نفس هذا المعنى في الآية (103 و 104) من سورة المائدة، فقد إبتدع عرب الجاهليّة بدَعاً ما أنزل الله بها من سلطان، فكانوا يحلّون الطعام الحرام ويحرّمون الطعام الحلال، وكانوا يتمسكون بالخرافات و العادات السيئة، و لا يقلعون عنها أبداً، و يقولون: (حَسْبُنا ما وَجَدنا عَلَيهِ آبائَنا ). و يتبيّن ممّا تقدم من الآيات الكريمة، تأثير العادات الخاطئة و السّنن البائدة، في قلب [ 164 ] الاُمور رأساً على عقب، بحيث يضحى الخطأ صواباً في الواقع الأخلاقي والفكري لدى النّاس. -- و في "الآية الخامسة": يوجد موضوع جديد بالنّسبة لِدَور العادات و السّنن في تحول القيم الأخلاقيّة، و هو: أنّ قوم لوط الذين سوّدوا وجه التّأريخ بأفعالهم الشّنيعة، (و لِلأسف الشّديد، نرى في عصرنا الحاضر، أنّ الحضارة الغربيّة أقرّت تلك الأفعال على مستوى القانون أيضاً)، فعندما دعاهم لوط(عليه السلام)، والقلّة من أصحابه، إلى التّحلي بالتّقوى و الطّهارة في ممارساتهم وأفعالهم، تقول الآية أنّهم إغتاظوا من ذلك بشدّة: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ). فالبيئة الملوّثة، و السّنن الخاطئة و الثّقافة المنحطّة أثّرت فيهم تأثيراً سلبياً، ممّا حدى بهم إلى إعتبار الطّهارة و التّقوى جنايةً، و الرّذيلة والقبائح من عناصر العزّة و الإفتخار، و من الطّبيعي، فإنّ الرذائل تنتشر بسرعة في مثل هذه البيئة، التي تعيش أجواء الإنحطاط و الخطيئة، و تندرس فيها الفضائل كذلك. -- "الآية السادسة": تقصّ علينا قصّة وأدِ البنات الُمريعة في العصر الجاهلي، ولم يكن سبب ذلك سوى تحكيم الخُرافات و السّنن الخاطئة في واقع الفكر والسلوك لدى الأفراد، فقد كانت ولادة البنت في الجاهليّة عاراً على المرء، و إذا ما بُشّر أحدهم بالاُنثى يظلّ وجهه مسودّاً من فرط الألم، و الخجل، على حدّ تعبير القرآن الكريم(1): (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاُْنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُون أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ). و لا شكّ أنّ القتل من أقبح الجرائم، و خصوصاً إذا كان القتيل طفلاً وليداً جديداً، ولكن 1. قال بعض المفسّرين: بناءً على العلاقة الوثيقة بين القلب والوجه، فإذا ما فرح الإنسان، يتحرك الدّم الشّفاف نحو الوجه ويصبح الوجه مضيئاً ونورانياً، وعندما يهتم ويغتم الإنسان فإنّ الدورة الدموية تقل سرعتها ويصفّر الوجه ويسود، وتعتبر هذه الظاهرة، علامةً للفرح أو الحُزن: (تفسير روح المعاني ... ذيل الآية الشريفة). [ 165 ] السّنن الخاطئة والتقاليد الزائفة، التي كانوا عليها مَحَقت القُبح من هذه الجريمة النّكراء، و جعلت منها فضيلةً. و بالنّسبة لوأد البنات الفضيع، جاء في بعض التّفاسير: أنّ البعض من هؤلاء الجاهلين، كانوا يستخدمون اُسلوب الدّفن للبنات، و بعض يغرقونهن، والبعض الآخر كانوا يفضّلون رميهنّ من أعلى الجبل، وقسم آخر كانوا يذبحون بناتهم(1)، وأمّا بالنسبة لظهور هذا الأمر عند العرب، و تأريخه والدافع الأصلي له، فقد وردت أبحاثٌ مفصّلة لا يسع المقام لذكرها الآن(2). والكلام في كيفيّة تمهيد الطريق للرذائل الأخلاقيّة، من خلال تلك السّنن الخاطئة، و العادات الزّائفة، وكيف تحلّ الرذائل مكان الفضائل، هو دليلٌ و شاهدٌ آخر على أنّ الثّقافة تُعتبر من الدّواعي المهمّة لتفعيل عناصر الفضيلة، أو تقوية قوى الإنحراف و الرذيلة، في واقع الإنسان، و بالتّالي فإنّ أوّل ما يتوجب على المصلحين، في حركتهم الإصلاحية، هو إصلاح ثقافة المجتمع والسير بها في خط العقل و الدّين. و نرى في عصرنا الحاضر ثقافات زائفة، لا تتحرك بعيداً عمّا كان في عهد الجاهليّة، حيث أضحت مصدراً لأنواع الرذائل الأخلاقيّة في حركة الحياة الإجتماعية، و قد إنعقد في السّنوات الأخيرة مؤتمراً عالمياً في بكين عاصمة الصين، و شارك فيه أغلب دول العالم، ونادى فيه المشاركون بالعمل لتثبيت ثلاثة اُصول، و أصرّوا عليها من موقع إحترام حقّ الإنسان وهي: 1 ـ حريّة العلاقات الجنسيّة للمرأة. 2 ـ الجنسيّة المثليّة. 3 ـ حرّية إسقاط الجنين. و قد واجهت هذه الاُمور معارضةً شديدةً من قبل بعض الدول الإسلامية، و منها الجمهورية الإسلامية. و من الطبيعي، عندما يُدافع نواب الدّول المتحضّرة عن مثل هذه الاُمور الشنيعة، تحت 1. تفسير روح المعاني، ج14، ص154، في ذيل الآية المبحوثة. 2. تفسير الأمثل، ذيل الآية 58 من سورة النحل. [ 166 ] ذريعة الدفاع عن حقوق المرأة، فأيّة ثقافة سوف تظهر للوجود؟، و أيّة رذائل ستنتشر في المجتمع؟، الرذائل التي لا تضرّ بالمسائل الأخلاقيّة للناس فحسب، بل و ستؤثر أيضاً على حياتهم الإجتماعيّة و الإقتصاديّة، من موقع إهتزاز المبادىء الإنسانيّة في منظومة القيم. -- "الآية السابعة": تستعرض علاقة الفضائل بثقافة المحيط والبيئة، فما وردنا من أحاديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، تبيّن مدى الرّقي الأخلاقي الذي حصل في المجتمع المظلم آنذاك، نتيجة النّهضة الفكريّة و الأخلاقيّة التي جاء بها الإسلام إلى ذلك المجتمع، فيقول القرآن الكريم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ). و عبارة: "فالذين معه"، لا تحصر هذه المعيّة في زمانِ خاصٍّ، و مكان معيّن، بل تمتد إلى المعيّة في القيم الأخلاقيّة، و الأفكار الأنسانيّة، فكلّ من يقبل تلك الثّقافة الإلهيّة المحمديّة يكون من مصاديق الآية. -- علاقة الآداب و السّنن بالأخلاق في الرّوايات الإسلاميّة: أعطى الإسلام أهميةً كبيرةً لهذه المسألة، ألا و هي، سنّ السنن الصّالحة، و الإبتعاد عن السنن السّيئة، و للمسألة إنعكاساتٌ و أصداءٌ كبيرةٌ في الأحاديث الإسلامية، و يستفاد من مجموع تلك الأحاديث، أنّ الهدف هو سنّ العادات الصّالحة، كي تتهيّأ الأرضية اللاّزمة للتحلّي بالأخلاق الحميدة، و إزالة الرذائل الأخلاقية من واقع النفس و السّلوك، ومنها: 1 ـ ما ورد عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "خَمْسٌ لا أَدَعُهُنَّ حَتّى المَماتِ الأَكْلُ عَلَى الحضِيضِ مَعَ العَبِيدِ...، وحَلْبُ العَنزِ بِيَدي وَلَبْسُ الصُّوفِ وَالتَّسلْيمُ عَلَى الصِّبيـانِ، لَتَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعدِي"(1). 1. بحار الأنوار، ج73، ص66. [ 167 ] و الهدف من كلّ ذلك، هو إيجاد روح التّواضع عند الناس من خلال الإقتداء بالرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، في حركة السّلوك الإجتماعي. 2 ـ و جاء في حديث آخر عنه(صلى الله عليه وآله). أنّه قال: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً عُمِلَ بِها مِنْ بَعْدِهِ كانَ لَهُ أَجْرَهُ وَمِثلَ اُجُورِهِمْ مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ اُجُورِهِمْ شَيئَاً، ومَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيَّئَةً فَعُمِلَ بِها مِنْ بَعْدِهِ كانَ عَلَيهِ وِزْرَهُ وِمثلَ أَوزارِهِم مِنْ غَيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوزَارِهِمْ شَيئاً"(1). و ورد في بحارالأنوار نفس هذا المضمون. و نقل هذا الحديث بتعابير مختلفة عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و الإمام الباقر و الإمام الصّادق(عليهما السلام)، و هو يُبيّن أهمية الّتمهيد للأعمال الأخلاقيّة، و أنّ التّابع و المتبوع هما شريكان في الثواب و العقاب، و الهداية و الضّلال. 3 ـ ولذلك أكّد الإمام علي(عليه السلام)، على مالك الأشتر هذا المفهوم أيضاً، لحفظ السنن الصالحة، والوقوف في وجه من يريد أن يكسر حرمتها، فيقول: "لا تَنْقُضْ سُنَّةً صالِحَةً عَمِلَ بِها صُدُورُ هذِهِ الاُمَّةِ و إجتَمَعَتْ بِها الاُلفَةُ وَصَلُحَتْ عَلَيها الرَّعِيَّةٌ، ولا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشيء مِنْ ماضِي تِلكَ السُّنَنِ فَيَكُونُ الأَجرُ لِمَنْ سَنَّها وَالوِزرُ عَلَيكَ بِما نَقَضَتْ مِنْها"(2). و بما أنّ السّنن الحسنة تساعد على تعميق عناصر الخير، و نشر الفضائل الأخلاقيّة في واقع المجتمع، فهي تدخل في مصاديق الإعانة على الخير و نشر السّنن الحميدة، و أمّا إحياء السّنن القبيحة والرذائل الأخلاقية، فتدخل في مصاديق الإعانة على الإثم والعدوان، و نعلم أنّ فاعل الخير و الدّال عليه شريكان في الأجر، وكذلك فاعل الشّر و الدّال عليه شريكان في العقاب أيضاً، من دون أن يقل من ثواب العاملين، أو عقابهم شيء. و السّنة الحسنة بدرجة من الأهمية، بحيث قال الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، في الرواية المعروفة في 1. كنز العمال، ح43079، ج15، ص780. 2. نهج البلاغة، رسالة 53. [ 168 ] حقّ جدّه الكريم: "كَانَتْ لِعَبدِ المُطَّلِبِ خَمساً مِنَ السُّنَنِ أَجراها اللهُ عَزَّوَجَلَّ فِي الإِسلامِ: حِرَّمَ نَساءَ الآباءِ عَلَى الأبناءِ، وَ سَنَّ الدِّيَةَ فِي القَتْلَ مأَة مِنَ الإبلَ، وَ كَانَ يَطُوفُ بِالبَيتِ سَبَعَةَ أَشواط، وَ وَجَدَ كَنزاً فَأَخْرَجَ مِنْهُ الخُمسَ، وَسَمّى زَمزَمَ حِينَ حَفَرَهـا سِقايَةَ الحاجِّ". ويستخلص من مجموع ما تقدم أنّ الآداب و السّنن و العادات، لها معطياتٌ مهمّةٌ، على مستوى إيجاد الفضائل أو تكريس الرّذائل على حدّ سواء، ولذلك أكّد عليها الإسلام تأكيداً شديداً و جعل الثّواب لمن يسنّ السّنن الصالحة، والعقاب لمن يسنّ السّنن الرّذيلة، و إعتبرها من الذنوب الكبيرة. -- 6 ـ علاقة العمل بالأخلاق صحيح أنّ أعمال الإنسان تتبع أخلاقه الظاهريّة و الباطنيّة، بحيث يمكن القول أنّ الإنسان يتأثر في سلوكه العملي، بأخلاقه الباطنية الكامنة في عالم اللاّشعور، ولكن من جهة اُخرى، يمكن لأعمال الشّخص أن تؤُثر في أخلاقه، من خلال صياغة المضمون للصّفات الأخلاقيّة في واقع الإنسان ومحتواه الباطني، ومعناه أنّ عمليّة الممارسة المستمرة، لعمل ما حسناً كان أو قبيحاً، سيؤثر في نفسيّة الإنسان، و يحوّل ذلك العمل إلى حالة باطنيّة، و بالإستمرار يصبح من ملكات الإنسان الأخلاقيّة الحسنة، أو القبيحة، و بناءً عليه فإنّ من الطرق المؤثرة لتهذيب النّفوس، هو تهذيب الأعمال في حركة الواقع الخارجي، فمن مارس الأعمال القبيحة، فسوف تتحول على أثر التّكرار إلى ملكة سيّئة في أعماق روحه، و تكون السّبب في ظهور الرّذائل الأخلاقيّة في دائرة السّلوك والممارسة. وبناءً على ذلك نرى التأكيد في الرّوايات على أنّ يستغفر الناس بسرعة عند الخطأ، ويغسلوا تلك الآثار بماء التوبة، كي لا تخلّف آثارها السّلبية على القلب، وتتحول إلى ملكات أخلاقيّة قبيحة. و بعكسها نجد التأكيد على تكرار الأعمال الصّالحة، بشكل مستمر كي تصبح عادةً عند [ 169 ] الإنسان، في واقعه النفسي والروحي. بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم، و نستعرض الآيات الشّريفة التي تشير إلى هذا المعنى: 1 ـ (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )(1). 2 ـ (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(2). 3 ـ (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً )(3). 4 ـ (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ )(4). 5 ـ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالاَْخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً )(5). 6 ـ (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيب فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً )(6). 7 ـ (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا )(7). تفسير و إستِنْتاجٌ: في "الآية الاُولى": نجد إشارةً إلى معطيات الذّنوب السّلبية على قلب روح الإنسان، فهي تسلب الصّفاء و النّورانية منه، وتحلُّ الظّلمة مكانه، فيقول الله تعالى في القرآن الكريم: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ). فجملة: (مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )، جاءت بصيغة الفعل المضارع، الذي يدلّ على الإستمرار، 1. سورة المطففّين، الآية 14. 2. سورة يونس، الآية 12. 3. سورة فاطر، الآية 8. 4. سورة النمل، الآية 24. 5. سورة الكهف، الآية 103. 6. سورة النساء، الآية 17. 7. سورة التوبة، الآية 102 [ 170 ] بمعنى أنّ الأعمال القبيحة، بإمكانها أن توجد تغييرات وتحولات كبيرة، في قلب الإنسان وروحه، فهي كالصّدأ الذي يحجب نورانيّة وصفاء المرآة ويكدّرها. فالرّذيلة تُقسّي القلب وتسلبه الحَياء، في مقابل الذّنب، فيغلب عليه الشّقاء و الظّلمة، أمّا "الرّين" على وزن "عين"، فهو الصّدأ يعلو على الأشياء الثمينة، نتيجةً لرطوبة الجوّ، فيكوّن طبقةً حمراء تُغطّي ذلك الشّيء، وهو علامة على فساد ذلك الفِلِز. فإختيار هذا التعبير هو إختيار مُناسب جدّاً، حيث أكدت عليه الرّوايات الإسلامية، مراراً و تكراراً، و بحثنا الآتي سيكون حول هذا الموضوع. -- و في "الآية الثانية": تعدّت مرحلة الرّين وأشارت إلى مرحلة "التّزيين"، وبناءاً عليه فالتكرار لعمل ما، يبعث على تزيينه في عين الإنسان و نظره، و تتوافق معه النفس الإنسانية، لدرجة يعتبره الإنسان من المواهب و الإفتخارات التي يتميز بها على الآخرين، فيقول الله تعالى: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ). فجملة: (مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )، و كذلك "المسرفين"، هي دليلٌ واضحٌ على تكرارِ الذّنب من قبلهم، فالتّكرار لها، لا يمحو قُبحها فقط، بل و بالتّدريج ستتحول الخطيئة إلى فضيلة في نظرهم، و هذا يعني في الحقيقة المسخ لشخصيّة الإنسان، و هو من النتائج المشؤومة لتكرار الذّنوب. وهناك خلافٌ حول الفاعل، الذي يزيّن لهؤلاء الأفراد أعمالهم القبيحة... فقد ورد في بعض الآيات الكريمة، إنتساب ذلك الفعل إلى الباري تعالى، و إعتبره كعقاب لهم، لأنّهم أصرّوا على الذّنوب، فالتّزيين هو إستدراج لهم، وليذوقوا وبال أعمالهم فقال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ )(1). و في الآية (43) من سورة الأنعام، نسب ذلك الفعل للشّيطان الرّجيم، فيقول عن الكفّار 1. سورة النمل، الآية 4. [ 171 ] المعاندين، الذين لا يحبون النّاصحين: (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ). و مرةً اُخرى نسب ذلك الفعل للأصنام، فيقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِير مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)(1). و اُخرى (وكما ورد في الآية التي هي مورد بحثنا الآن)، ورد بصورة الفعل المبني للمجهول: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ). و بنظرة فاحصة نرى، أنّ هذه التّعابير لا تتقاطع فيما بينها، بل أحدها يكمّل الآخر، فمرةً تكون الزّينة عاملاً على تكرار العمل، فالتّكرار يُقلّل من قبح العمل، و يصل إلى مرحلة لا يحسّ معها بالذّنب، و بالإستمرار يحسُن في نظر صاحبه، فيُقيّده و لا يستطيع التّحرر من ذلك الفخ، الذي نُصب له، و هي حقيقةٌ يمكن للإنسان أن يلمسها، بالتتّبع و النّظر لحال المجرمين. و في موارد اُخرى، فإنّ الوساوس الشّيطانية الخارجيّة، و الوساوس الباطنيّة النفسيّة، تزيّن للإنسان سوء عمله، و يصل الأمر به إلى إرتكاب الكبائر، بحجة أنّه يؤدّي واجبه الدّيني فيغتاب شخصاً ما، بدون ذنب و هو يتصور أنّه على حقٍّ، ولكن الحسد في الواقع هو الذي يدفعه الى ذلك، و التأريخ مليءٌ بمثل هذه الجنايات الفظيعة، فوساوس النّفس و الشّيطان لا تعمل على التّستر على قبح العمل فقط، بل تجعله من إفتخاراته. و ربّما يعاقب الباري تعالى، أشخاصاً لعنادهم، و عدم قبولهم النّصحية، و لا يكون العقاب إلاّ بتزيين سوء عمل الإنسان، لتشتدّ عقوبته ويفتضح أكثر فأكثر. و يجب التّنويه، إلى أنّه و طبقاً للتّوحيد الأفعالي، فإنّ كلّ عمل و أثر موجود في هذا العالم، يمكن أن يُنسب إلى الله تعالى، لأنّ ذاته المقدّسة هي علّةٌ العلل، و لا يعني هذا الأمر أنّ الأفراد قد اُجبروا على أفعالهم، فالحمد لله الذي جعل القوّة والقدرة على الفعل ومنَحها لِعباده، واللعنة على الذين يستعملون تلك القوّة في دائرة الشر والذّنوب. و ربّما تقتضي طبيعة الأشياء، التّزيين والزخرفة، فنقرأ في الآيه (14) من سورة آل عمران: 1. سورة الأنعام، الآية 137. [ 172 ] (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَ الْقُنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ... ). وإحدى العوامل لتزيين الأعمال القبيحة في نظر الشّخص، التّكرار لها، فهو يُؤثر في نفس و روح الإنسان، و يغيّر أخلاقه، و العكس صحيحٌ، فإنّ تكرار الأعمال الحسنة يصبح ملكةً بالتدريج عند الإنسان، و يبدّله إلى أخلاق فاضلة، و لذلك و لأجل تهذيب النّفوس و نمو الفضائل الأخلاقيّة، نوصي السّالكين في هذا الطّريق، بالإستعانة بتكرار الأعمال الصّالحة، وأن يحذروا من تكرار الأعمال السيئة، فالأوّل هو المعين الناصح للإنسان، و الثاني عدوّ غدّار. -- و "الآية الثاالثة": تتحدث عن تزيين سوء أعمال الإنسان أيضاً، فيقول تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ). فكما جاء في تفسير الآية السّابقة: فإنّ من العوامل لتزيين سوء الأعمال هو التّكرار، و التّطبيع عليها، و التّدريج يؤدّي إلى أن يفقد الإنسان، الإحساس بِقُبحها، و سوف يولع بها ويفتخر أيضاً. و اللّطيف أنّ القرآن الكريم، عندما يسأل ذلك السّؤال، لا يذكر النّقطة المقابلة لها، بصورة مباشرة، و يفسح المجال للسّامع، أن يتصور النّقطة المقابلة بنفسه، ويتفهمها أكثر، فهو يريد أن يقول: هل أنّ هذا الفرد، يتساوى مع من يميّز الحق من الباطل في حركة الحياة؟، أو هل أنّ هؤلاء الأفراد، يشبهون الأفراد من ذوي القلوب الطّاهرة، الذين يعيشون حالة الإهتمام بمحاسبة أنفسهم، والبعد عن القبائح ...؟. و يجب الإنتباه، الى أنّ الله تعالى يقول، في ذيل الآية مخاطباً رسوله الكريم: "فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ". و هو في الحقيقة عقابٌ للّذين يفعلون القبائح، فيجب أن تكون عاقبتهم كذلك. وقد جاء في تفسير، "في ظلال القرآن": أنّ الباري تعالى إذا أراد أن يهدي الإنسان للخير، "بسبب نيّته و عمله"، فيجد في قلبه الحساسيّة و التّوجه الخاص لسوء الأعمال، فهو دائماً على حذر من الشّيطان و الخطأ و الزّيغ ولا يأمن الإختبار، و ينتظر المَدد الإلهي دائماً، وهنا يكون [ 173 ] الفصل بين طريق الهداية والفلاح، وبين خطّ الضّلال و الهلاك(1). و قد ورد، أنّ أحد أصحاب الإمام الكاظم(عليه السلام)، (او أحد أصحاب الإمام الرضا(عليه السلام))، قال: سألت الإمام(عليه السلام) ما هو العجب الذي يبطل عمل الإنسان؟ فقال(عليه السلام): "العُجبُ دَرَجاتٌ مِنْها أَنْ يُزَيَّنَ لِلعَبْدِ سُوءُ عَمَلِهِ فَيَراهُ حَسَناً فَيُعْجِبُهُ وَيَحْسَبُ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنعاً"(2). -- و "الآية الرابعة": تتحدث عن مَلِكَة سَبأ، و عاقبتها والأخبار التي جاء بها الهدهد لسليمان(عليه السلام)، من تلك الأرض واُولئك القوم: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ). فالشّمس مع نورها الوهّاج، و عظمتها و فائدتها; لكنّ طلوعها و غروبها، و إنحجابها بالغيوم، تبيّن أنّها هي بدورها أيضاً تابعة لقوانين الكون، و لا إرادة لها أبداً، و لا تستحق التقدير. ولكنّ الآباء علّمت الأبناء، و التربية الخاطئة و السُنّة الضّالة، و تكرار العمل، حَدَت بالنّاس لتصوّر القبيح في صورة حسنة، و في بعض البلدان، يعبدون البقر، و يؤدّون الطّقوس أمامها، و هو مدعاةٌ للسّخريّة و الضَّحِك، ولكنهم يفتخرون بذلك. و من العوامل المهمّة لذلك، هو التّكرار لذلك العمل الذي عوّد الإنسان على القبيح و جعله حسناً. و قد يُنسب هذا الفعل للشّيطان، ولكن في الحقيقة، الشّيطان له وسائل متعدّدة للغواية، و منها التّكرار للقبيح و التعوّد عليه. -- "الآية الخامسة": لها نفس المحتوى الوارد في الآيات السابقة، ولكن بتعبيرات جديدة، حيث قال تعالى، مخاطباً رسوله الكريم: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالاَْخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ). 1. تفسير في ظلال القرآن، ج6، ص675. 2. نور الثقلين، ج4، ص351، ح30. [ 174 ] فالكلام عن المتضرّر الأوّل في المعركة، و هو الذي يصرف عمره وفكره وطاقته في الطّريق الغلط، و هو يحسب أنّه يُحسن صُنعاً، و هو فرحٌ و مسرورٌ و يفتخر بذلك. فلماذا يُبتلى الإنسان بهذه المصائب؟، ليس ذلك إلاّ لأنّه تعوّد على القبائح، و إتّباع هوى النّفس، و الأنانية و العجب، فتجعل الحُجب على قلبه وعقله، فلا يرى الحقيقة واضحةً صائبةً كما هي. و النتيجة لهذا الأمر، جاءت في الآية التي بعدها فقال تعالى: (اُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِم وَلِقائِهِ وَحَبِطَتْ أَعْمَالَهُمُ ). و فسرت الروايات الإسلاميّة، هذه الآية بتفسير و تعبيرات متعددة، وكلٌّ منها هو في الحقيقة مصداقٌ للآية، فبعضها فسّرت الآية بالمنكرين لولاية أميرالمؤمنين(عليه السلام)، و بعضها فسّرت الآية بالرّهبان المسيحيين، فهم الذين يتركون الدنيا بالكامل و لذائذها، وهم في الحقيقة مخطئون، و يتحرّكون في دائرة الفكر والعمل في الطّريق المنحرف. و البعض الآخر من الروايات، ذكرت في تفسيرها أنّهم أهل البدع من المسلمين; واُخرى فسّروها، بخوارج النّهروان، وقال آخرون: أنّها نزلت في أهل البدع من اليهود و النّصارى، فكلّ هؤلاء الأشخاص على خطأ و أعمالهم مليئةٌ بالإجرام و الظّلم، ولكنهم كانوا يحسبون أنّهم على صواب. و تجدر الإشارة إلى أنّ، جملة: "حبطت أعمالهم"، التي جاءت في ذيل الآية، هي من مادة "حبط،" و من معانيها المعروفة هو البعير أو حيوان آخر، يأكل العلف بشراهة، حتى العلف السّام والضار بحيث يؤدي إلى إنتفاخ بطنه، و قد يؤدّي به في بعض الأحيان للموت، فالبعض يتصور أنّ ذلك هو دليل على قوته و قدرته، ولكنّ الحقيقة هي غير ذلك، بل هو المرض بعينه، أو مقدمةٌ لموته، ولكن الجهّال يعتبرونها من القوّة و القدرة. و قسمٌ من النّاس يبتلون بمثل هذه العاقبة، فيكون كلّ سعيهم و قوتهم لهلاك أنفسهم، و هم يتصورون أنّهم سلكوا طريق السّعادة و الرفاه. -- [ 175 ] "الآية السادسة": تتناول مسألة قبول التّوبة من قبل الله تعالى، لمن تتوفر فيهم بعض الشّرائط: 1 ـ الّذين يعملون السّوء بجهالة و لا يعرفون عواقب الذّنوب على نحو الحقيقة. 2 ـ الّذين تابوا بسرعة من أعمالهم القبيحة، فاُولئك الّذين تشملهم الرّحمة الإلهيّة، و يقبل الله تعالى توبتهم، فقال: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيب فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ). والمراد من كلمة "الجهالة"، التي وردت في الآيه، ليس هو الجهل المطلق الذي يوجب العذر; لأنّ العمل في حالات الجهل المطلق، لا يعتبر من الذنب، بل هو الجهل النّسبي الذي لا يعلم معه عواقب ومعطيات الذّنوب في حركة الواقع والحياة. و أمّا جملة: "يتوبون من قريب"، فقال البعض أنّها قبل الموت، ولكن إطلاق كلمة "قريب"، على فترة ما قبل الموت، التي ربّما تستغرق (50) سنة أو أكثر، لا تكون مناسبة لهذا النوع من التّفسير، و إستدل مؤيّدوا هذه النظريّة، بروايات لا تشير إلى هذا التفسير، ولكنّها بيانٌ مستقلٌ و منفصلٌ عنه. و قال البعض الآخر، إنّها الزّمان القريب لإرتكاب الذّنب، حتى تمسح التوبة الآثار السّيئة للذنب في روح و نفس الإنسان، و في غير هذه الصّورة، فستبقى الآثار في القلب، وهو ما يناسب كلمة القريب عُرفاً و لغةً. -- "الآية السابعة": تناولت مسألة الزكاة ومعطياتها، فجاء الأمر للرّسول الكريم: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ). و يتحدث القرآن الكريم عن الزّكاة، و بيان معطياتها الأخلاقيّة و المعنويّة، في خطّ التربية، ويقول: (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ). نعم، فإنّ دفع الزكاة يحدّ من الرّكون إلى الدنيا وزخارفها، ويقمع البخل في واقع النفس [ 176 ] البشريّة، و يحث الإنسان على مراعاة حقوق الآخرين، و يغرس فيه حبّ السّخاء و الإنسانيّة. و علاوةً على ذلك، فإن دفع الزّكاة يقف بوجه المفاسد النّاشئة عن الفقر والحرمان، و بأداء تلك الفريضة الإلهيّة، نكون قد شاركنا في إزالتها نهائياً، من واقع المجتمع، لذلك فإنّ الزّكاة تسهم في رفع الرّذيلة والفقر في حركة الإنسان والحياة، و تُحلّي الإنسان بالفضائل الأخلاقيّة، و هذا الأخير هو موضوع بحثنا، و هو دور العمل الصّالح و الطّالح، في تحريك عناصر الخير و الشّر، و الفضائل و الرذائل الأخلاقية، في واقع الإنسان و المجتمع. ا ص177 -ص 193و جاء نفس هذا التعيبر بشكل آخر في آية الحجاب فيقول تعال: (إذا سَألُتمُوُهُنَّ مَتاعاً فَاسأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجابِ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لَقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ )(1). فهذه الآية الشّريفة، تبيّن بوضوح أنّ التعفف في العمل يبعث على طهارة ونظافة القلب، وبالعكس فإنّ الجرأة على إرتكاب المنكر و عدم الحياء، يلوّث روح و قلب الإنسان، و يعمّق في نفسه الميل إلى الرذائل الأخلاقيّة. النّتيجة: كان الهدف من شرح الآيات الآنفة الذّكر، هو معرفة تأثير الأعمال في الأخلاق، وبلورتها لروح الإنسان، فلأجل بناء الذّات وتهذيب النّفس، يتوجب مراقبة أعمالنا من موقع الحذر و الإنضباط و المسؤوليّة، لأنّ تكرار الذّنب والإثم يذهب بقبحه من جهة، ومن جهة اُخرى يمنح الإنسان التعوّد عليه، وبالتدريج يصبح ذلك العمل ملكةً لديه، ولا يزعجه فقط، بل ويتحول إلى عنصر فخر من إفتخاراته. -- 1. سورة الأحزاب، الآية 53. [ 177 ] كيفيّة تأثير "العمل"، في "الأخلاق" في الرّوايات الإسلاميّة: تعكس الأحاديث الإسلامية بوضوح، ما تقدّم من علاقة العمل بالأخلاق في الآيات الكريمة، ذلك المطلب بوضوح، و من تلك الأحاديث: 1 ـ نقرأ في حديث عن الإمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال: "ما مِنْ عَبْد إلاّ وَفِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيضاءٌ فَإذَا أَذْنَبَ ذَنْباً خَرَجَ في النُّكْتَةِ نِكْتَةٌ سَوداءٌ فَإنْ تابَ ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوادُ، وإنْ تَمادَى فِي الذُّنُوبِ زَادَ ذَلِكَ السَّوادُ حتَّى يُغَطِّي البَياضَ، فَإذَا غَطّى البَياضَ لَمْ يَرْجِعْ صاحِبُهُ إلَى خَير أَبَداً، وَهُوَ قَولُ اللهِ عَزَّوَجَلَّ: (بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )(1). فهذه الرواية، تُبيّن بوضوح، أنّ تراكم الذّنوب يُفضي إلى ظهور الرذائل في سلوكيات الإنسان، و يدفعه بإتجاه الإبتعاد عن الفضائل، ممّا يورّث النّفس الإنسانيّة الغرق في الظّلام الكامل، و عندها لا يجد الإنسان فرصةً للرجوع إلى طريق الخير، والإنفتاح على الله والإيمان. 2 ـ الوصيّة المعروفة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) لابنه الحسن(عليه السلام)، حيث قال له: "إنَّ الخَيرَ عادَةٌ"(2). و ورد نفس هذا المضمون، في كنز العمّال، في حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "الخَيرُ عادَةٌ والشَّرُ لَجاجَةٌ"(3). و أيضاً نقل نفس هذا الحديث، و بشكل آخر، عن الإمام السجّاد(عليه السلام)، أنّه قال: "أُحِبُّ لِمَنْ عَوَّدَ مِنْكُمْ نَفْسَهُ عادَةً مِنَ الخَيرِ أَنْ يَدُومَ عَلَيها"(4). فيستفاد من هذه الروايات، أنّ تكرار العمل، سواء كان صالحاً أم طالحاً، يسبّب في وجود حالة الخير أو الشر عند الإنسان، فإذا كان خيراً فسيشكل مباديء الخير في نفسه، و إن كان شرّاً فكذلك، و بكلمة واحدة هو التأثير المتقابل للأعمال، و الأخلاق في حركة الحياة، و 1. اُصول الكافي، ج2، ص273، ح20. 2. بحار الأنوار، ج74، ص232. 3. كنز العمّال، ح28722. 4. بحار الأنوار، ج46، ص99. [ 178 ] الواقع النّفسي للإنسان. 3 ـ ورد في حديث آخر، عن علي(عليه السلام) في وصيّته المعروفة، للإمام الحسن(عليه السلام): "وَعَوُّدْ نَفْسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى المَكْرُوهِ، وَنِعْمَ الخُلُقُ التَّصَبُّرُ في الحَقِّ"(1) ويتبيّن هنا أيضاً، أنّ "العادة" هي وليدة، التكرار، للعمل مع الصّبر على صعوبات الحياة، من موقع الحقّ و المسؤوليّة. 4 ـ ورد في الرّوايات، التّعجيل بالتّوبة و عدم التّسويف، لئلاّ تبقى آثار الذّنوب فاعلةً في القلب، ممّا يؤدّي إلى تحولها إلى ملكة أخلاقيّة راسخة في النفس، فنقرأ في حديث عن الإمام الجواد(عليه السلام)، أنّه قال: "تَأَخِيرُ التَّوبَةِ إِغتِرارٌ، وَطُولُ التَّسْوِيفِ حَيرَةٌ... وَالإِصرارِ عَلَى الذَّنبِ آمْنٌ لِمَكْرِ اللهِ"(2). و جاء في النّبوي الشّريف حديث آخر، لطيف عن التّوبة و تأثيرها الإيجابي، في تلاشي الذّنوب من واقع النّفس، فقال: "مَنْ تابَ تَابَ اللهُ عَلَيهِ وَأُمِرَتْ جَوَارِحَهُ أَنْ تَسْتُرَ عَلَيهِ، وَبِقاعُ الأرْضِ أَنْ تَكْتُمَ عَلَيهِ وَأُنْسيَتِ الحَفَظَةُ ما كانَتْ تَكْتُبُ عَلَيهِ"(3). فهذا الحديث يبيّن أنّ التوبة، تغسل الذّنوب و تعيد الصّفاء و القداسة الأخلاقيّة للإنسان. و جاء هذا المعنى بصورة أوضح، في الحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام): "التَّوبَةُ تُطَهِّرُ القُلُوبَ وَتَغْسِلُ الذُّنُوبَ"(4). فهذا الحديث يبيّن أنّ الذنب يترك آثاره في القلب، في عمليّة تطبيع نفسي لعناصر المزاج، ولكن التّوبة تزيل هذه الآثار، و لا تفسح المجال لتشكّل تلك الأخلاق السلبية، في المحتوى الداخلي للفرد. و ورد في التعيبر عن التّوبة بأنّها "طهور"، في روايات عديدة، و هو يحكي عن علاقة 1. نهج البلاغة، رسالة 31. 2. بحار الأنوار، ج6، ص30. 3. كنز العمّال، ج10، ص79. 4. غُرر الحِكم، ح3837. [ 179 ] الذّنب بظهور الحالات الباطنيّة القبيحة(1). و ورد في المناجاة: الخمسة عشر، المعروفة للإمام السجاد(عليه السلام)، في القسم الأول منها، و هي مناجاة التّائبين: "وَ أَماتَ قَلْبِي عَظِيمَ جِنايَتِي فأَحْيهِ بِتَوبَة مِنْكَ يا أَمَلِي وَبُغْيتَي"(2). نعم! فإنّ الذّنب يكدّر القلب ويلوث النفس الإنسانية، وبتكرار الذنب فإنّ القلب يذبل و يموت، ولكنّ التوبة بإمكانها، أن تعيد النّشاط و الحياة للقلوب، لتعيش جو الإيمان و الطُّهر. و بناءً عليه، فإنّه يتوجب على السائرين إلى الله تعالى، تحكيم دعائم الفضائل الأخلاقيّة، في وجدانهم وسلوكياتهم، و لينتبهوا لمعطيّات و تبعات أعمالهم الإيجابيّة و السّلبية، فكلّ واحد من تلك الأعمال سيؤثر في القلب، فإنّ كان خيراً فخَير، و إن كان شَرّاً فشرّ. -- 7 ـ علاقة "الأخلاق" و "التّغذية" ربّما سيتعجب البعض من هذا العنوان، و ما هي علاقة الأخلاق والروحيّات والملكات النّفسية بالغذاء، فالأولى للرّوح و الثّانية للجسم، ولكن بالنّظر للعلاقة الوثيقة، بين الجسم والروح في حركة الحياة و الواقع، فلن يبقى مجالاً للتعجب، فكثيراً ما تسبّب الأزمات الرّوحية في الإصابة بأمراض جسديّة، تضعف جسم الإنسان و تشل عناصر القوّة فيه، فيبيض الشّعر، و تظلم العين، وتخور القوى عند الإنسان والعكس صحيح أيضاً، فإنّ الفرح و حالات الرّاحة التي يمرّ بها الإنسان، تنمي جسمه و تقوّي فكره، و قديماً توجّه العلماء لتأثير الغذاء على روحيّة الإنسان وسلوكه المعنوي، و تغلغَلت هذه المسألة في ثقافات الناس، على مستوى الموروث الفكري والوعي الاجتماعي، فمثلاً شِرب الدّم يبعث على قساوة القلب، والعقيدة السّائدة هي أنّ العقل السّليم في الجسم السّليم. ولدينا آياتٌ و روايات تشير إلى هذا المعنى، و منها الآية (41) من سورة المائدة، فقد 1. بحار الانوار، ج96، ص121، و ج91، ص132. 2. المصدر السابق، ج91، ص142. [ 180 ] أشارت إلى فئة من اليهود الذين مارسوا أنواعاً كثيرةً من الجرائم بحقّ الإسلام و المسلمين من قبيل التّجسس و تحريف الحقائق الواردة في الكتب السّماويّة، فقال الباري تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ). و يعقّب مباشرةً قائلاً: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ). و هذا التعبير يبيّن أنّ عدم طهارة قلوبهم، إنّما كان نتيجة لأعمالهم، الّتي منها تكذيب الرّسول والآيات الإلهيّة، وأكلهم للحرام بصورة دائمة، ومن البعيد في خطّ البّلاغة و الفصاحة، أن يأتي بأوصاف لا علاقة لها بجملة: (لَمْ يُرِدْ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ). و منها يعلم أنّ أكل السّحت يسوّد القلب و يُميته، و يكون سبباً لنفوذ عناصر الرّذيلة، و الزيغ، و الإبتعاد عن الخير والفضائل. وفي الآية (91) من سورة المائدة، ورد الحديث عن شرب الخمر ولعب القمار، فقال عزّ من قائل: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ). و لا شك فإنّ العداوة و البغضاء، هي من الحالات الباطنيّة، التي ترتبط برابطة وثيقة مع شرب الخمر ولعب القمار، كما ورد في الآية الشريفة، وهو دليل على أنّ أكل السّحت و الشّراب الحرام يساعد على بروز الرذائل الأخلاقية، و تكريس حالات العداء والخصومة بين الأفراد، في خط الشيطان. ونقرأ في الآية (51) من سورة المؤمنون، قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ). ويعتقد بعض المفسّرين أنّ تقارن ذكر هذين الأمرين: وهما "أكل الطّيبات و العمل الصالح"، هو خير دليل على وثاقة العلاقة بينهما، و هي إشارةٌ إلى أنّ إختلاف و تنوّع الأكلات و الأطعمة، له معطيات أخلاقية مختلفة و متنوّعة أيضاً، فأكل الطيّبات، يطيّب الرّوح و يصلح العمل، وبالعكس فإنّ الأكل الحرام يُظلم الرّوح، و يخبّث العمل(1). و قد إستدلّ في تفسير "روح البيان"، وبعد إشارته لعلاقة العمل الصّالح بأكل الطيّبات، 1. يرجى الرجوع إلى تفسير الأمثل، ذيل الآية 51، من سورة المؤمنون. [ 181 ] بالأشعار التالية: و أشار في تفسير: "الإثني عشري"، في ذيل هذه الآية، إلى علاقة نورانيّة القلب و صفائه، و الأعمال الصّالحة بأكل الحلال(1). -- علاقة التّغذية بالأخلاق في الرّوايات الإسلاميّة: هذه العلاقة لم ترد في الآيات القرآنية بصورة واضحة، ولا يوجد لها سوى إشاراتٌ خفيفةٌ، ولكن هذا الأمر: "علاقة التّغذية بالأخلاق"، له صدى واسع في الرّوايات، و نورد منها: 1 ـ نقرأ في الرّوايات الواردة، أنّ من شروط إستجابة الدّعاء هو الإمتناع عن أكل الحرام، حيث جاء شخص إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، و قال له: اُحِبُّ أنْ يُستَجاب دُعائِي، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): "طَهِّرْ مَأَكَلَكَ وَلا تَدْخُلْ بَطْنَكَ الحَرامَ"(2). و جاء في حديث آخر عنه(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "مَنْ أَحَبَّ أنْ يُستَجابَ دُعاءهُ فَليُطَيِّبْ مَطْعَمَهُ وَمَكْسَبَهُ"(3). و نقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنّه قال: "أَنَّ اللهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعاءً بِظَهْرِ قَلب قاس"(4). و يستنتج من ذلك، أنّ الأكل الحرام يُقسّي القلب، و لأجله لا يستجاب دعاء آكلي الحرام، و تتوضح العلاقة الوثيقة بين خبث الباطن و أكل الحرام، في ما ورد عن الإمام الحسين(عليه السلام)، في حديثه المعروف في يوم عاشوراء، ذلك الحديث المليء بالمعاني البليغة، أمام اُولئك القوم 1. تفسير الإثني عشري، ج9، ص145. 2. بحار الأنوار، ج90، ص373. 3. المصدر السابق، ص372. 4. المصدر السابق، ص305. [ 182 ] المعاندين للحقّ من أهل الكوفة ، فعندما آيس من تحولهم إلى دائرة الحقّ و الإيمان، و إستيقن أنّهم لن يستجيبوا له في خط الرسالة قال لهم: إنّكم لا تسمعون إلى الحق لأنّه قد: "مُلِئَتْ بُطُونُكُم مِنَ الحَرامِ فَطبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِكُم"(1). 2 ـ و يبيّن حديث آخر، علاقة الأكل الحرام بعدم قبول الصّلاة و الصّيام و العبادة، و منها ما ورد عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "مَنْ أَكَلَ لُقْمَةَ حَرام لَنْ تُقْبَلَ لَهُ صلاةُ أَربَعِينَ لَيلَةً، وَلَمْ تُسْتَجَبْ لَهُ دَعوَةُ أَربَعِينَ صَباحاً، وَكُلُّ لَحْم يُنٌبِتُهُ الحَرامُ فَالنَّارُ أَولَى بِهِ، وَإنَّ اللُّقْمَةَ الواحِدَةَ تُنْبِتُ اللَّحْمَ"(2). و من الطبيعي فإنّ قبول الصّلاة له شروطٌ عديدةٌ، و منها: حضور القلب وطهارته من الدّرن و الغفلة، والحرام يسلب منه تلك الطّهارة و الصّفاء، و يخرجه من أجواء النّور و الإيمان. 3 ـ نقل عن الرسول الأكرام(صلى الله عليه وآله)، و الأئمّة(عليهم السلام)، أنّ: "مَنْ تَرَكَ اللَّحْمَ أَربَعِينَ صَباحاً ساءَ خُلُقُهُ"(3). و هذا الحديث يبيّن نصيحة طِبيّةً مهمّةً، و هي أنّ الإنسان إذا ترك أكل اللّحم، لمدّة طويلة، فسيورثه سوء الخلق و الإنقباض في النّفس، في دائرة التّفاعل مع الآخرين، و ورد في مقابله العكس أيضاً، وهو ذمّ الإفراط في تناول اللّحم والإكثار منه، فإنّ من شأنه أن يورثه نفس الأعراض والأمراض الخُلقية. 4 ـ و قد ورد في كتاب: "الأطعمة والأشربة"، روايات ذكرت العلاقة بين الأطعمة والأخلاق الحسنة والسيئة ومنها: ما ورد عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "عَلَيكُم بِالزَّيتِ فإنّهُ يَكْشِفُ المُرَّةَ... وَيُحْسِّنُ الخُلُقَ"(4). 5 ـ في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يَقِلَّ غَيْظَهُ فَلْيَأكُلْ لَحمَ الدُّراجِ"(5). 1. نقلاً عن كتاب "سخنان علي(عليه السلام) از مدينة تا كربلا"، ص232. 2. سفينة البحار، ج1، مادة الأكل. 3. وسائل الشيعة، ج17، ص25، الباب 12. 4. المصدر السابق، ص12. 5. فروع الكافي، ج6، ص312. [ 183 ] وهذا الحديث يبيّن بصورة جيدة علاقة الغذاء بالغضب والصّبر. 6 ـ في رواية مفصّلة وردت في تفسير العياشي، نقلها عن الإمام الصّادق(عليه السلام)، حيث سئل عن علّة تحريم الدم، فقال(عليه السلام): "وَأَمَّا الدَّمُ فَإَنَّهُ يُورِثُ الكَلَبَ وَقَسْوَةَ القَلبِ وَقِلَّةَ الرَّأفَةِ وَالرَّحمَةِ لا يُؤمِنُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَدَهُ وَ والِدَهُ". و في القسم الآخر من نفس الرواية، قال(عليه السلام): "وَ أَمَّا الخَمْرُ فإنَّه حَرَّمَها لِفِعْلِها وَفَسادِها وَ قَالَ إِنَّ مُدْمِنَ الخَمْرِ كَعابِدِ الوَثَنِ، وَ يُورِثُ إِرتِعاشَاً وَيُذْهِبَ بِنُورِهِ وَيَهْدِمَ مُرُوَّتَهُ"(1). 7 ـ ونقل في الكافي روايات متعددة، عن العنب وعلاقته بإزالة الغم، ومنها ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنّه قال: "شَكى نَبِيٌّ مِنَ الأنبِيـاءِإِلى اللهِ عَزَّوَجَلَّ الغَمَّ فَأَمَرَهُ اللهُ عَزَّوَجَلَّ بِأَكْلِ العِنَبِ"(2). فنلاحظ تأكيداً أشدّ على علاقة التغذية بالمسائل الأخلاقية، التي تعكس الحالة النفسية للفرد. 8 ـ الأحاديث التي وردت في أكل الرمان كثيرة، و أنّها تنوّر القلب وتدفع وساوس الشيطان، فجاء عن الإمام الصّادق(عليه السلام): "مَنْ أَكَلَ رُمّانَةً عَلَى الرِّيقِ أَنارَتْ قَلْبَهُ أَربَعِينَ يَوماً"(3). 9 ـ وَردت روايات متعددة في باب "الأكل"، نرى فيها العلاقة المطّردة بين التغذية و المسائل الأخلاقيّة، في دائرة الصّفات و الحالات النفسية، و منها الحديث الوارد عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، في وصيته لجعفر بن أبي طالب(رضي الله عنه)، فقال له: "يا جَعْفِرُ كُلِ السَّفَرجَلَ فَإِنّهُ يُقَوي القَلْبَ وَيُشْجِعُ الجَبَانَ"(4). 10 ـ و نقل عن الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، حديث يروي علاقة فضول الطعام بقساوة القلب، 1. تفسير البرهان، ج1، ذيل الآية 3، سورة المائدة; ومستدرك الوسائل، ج16، ص163. 2. الكافي، ج6، ص351، ح4. 3. المصدر السابق، ص354، ح11. 4. المصدر السابق، ص357، ص4. [ 184 ] فنقل عنه(صلى الله عليه وآله) في كتاب "أعلام الدّين": "إِيَّاكُم وَفُضُولَ المَطْعَمِ فَإِنّهُ يَسِمُ القَلْبَ بِالقَسوَةِ وَيُبْطِيء بِالجَوارحِ عَنِ الطّاعَةِ وَيَصُمُّ الهِمَمَ عَنْ سِمـاعِ المَوعِظَةِ". "فضول الطعام": يمكن أن تكون إشارةً لإدخال الطعام على الطعام، و الأكل الزّائد عن الحاجة، أو أنّها تدل على تناول الطّعام المتبقي من الوجبات السّابقة، أي بقايا الطعام الفاسد، و على أيّة حال، فإنّ الحديث يدل على علاقة التّغذية بالمسائل الأخلاقية، التي تُؤطّر سلوك الإنسان في حركة الحياة. وورد هذا المعنى أيضاً في بحار الأنوار الذي نقل الحديث عن رواة أهل السنة، و نقلوه أيضاً عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)(1). ويستفاد من هذا الحديث ثلاثة اُمور: 1 ـ إنّ الأكل الزائد يُقسّي القلب. 2 ـ ويقعد الإنسان عن العبادة في دائرة الكسل والإسترخاء. 3 ـ يُصمّ آذانه في مقابل الوعظ، فلا تؤثر فيه النّصيحة والموعظة في خطّ التربية، و هذا الأمر ملموس فعلاً، فإنّ الإنسان يثقل عند الأكل الكثير، و لا يكاد أن يؤدّي عبادته من موقع الشّوق و الرّغبة، و لا يبقى لديه نشاط في خطّ العِبادة، و بالعكس في حالة ما إذا تناول طَعاماً خفيفاً، فسيكون دائماً على نشاط في حركة الإيمان، و يؤدّي عباداته و وظائفه في وقتها المعين لها. و كذلك بالنّسبة للصّيام، فهو يرقّق القلب ويهيىء الإنسان لقبول المواعظ، و بالعكس عندما يكون الإنسان مليء البطن، فإنّه لا يكاد يفكر في شيء من عوالم الغيب، و لا يعيش في أجواء المَلكوت. 11 ـ و قد بيّنت الأحاديث الشريفة أيضاً، علاقة العسل بصفاء القلب، فنقل عن أمير 1. بحار الأنوار، ج74، ص182. [ 185 ] المؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال: "العَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ داء وَلا داءَ فِيهِ يُقِلُّ البَلْغِمَ وَيُجَلِّي القَلْبَ"(1). النّتيجة: تبيّن ممّا ذكر آنفاً، العلاقة الوثيقة بين الغذاء و الروحيّات و الأخلاق، و نحن لا ندّعي أبداً أنّ الأكل والغذاء هو العلّة التّامة لبلورة الأخلاق، ولكنّه يمثل عاملاً مُساعداً في ذلك، بحلاله و حَرامه، و أنواعه. و يقول علماء العصر الحاضر، أنّ السّلوكيات الأخلاقية عند الإنسان، تنطلق من خلال ترشّح بعض الهرمونات من الغدد الموجودة في جسم الإنسان، و الغُدد بدورها، تتأثر مباشرةً بما يأكله الإنسان، وعلى هذا الأساس، فإنّ لحومَ، الحيوانات تحمل نفس الصّفات النفسيّة الموجودة في الحيوان، فالضّواري تفعّل فِعْلَ عناصر التّوحش في الإنسان، و الخنزير يذهب بالغيرة عند الإنسان، و هكذا فإنّ لحم أيّ حيوان، يخلف بصماته على روح آكله مباشرةً، و ينقل إليه صفاته. هذا من الناحية الماديّة الطبيعيّة، وأمّا من الناحيّة المعنويّة، فإنّ أكل الحرام يُظلم الروح و القلب، و يُضعف الفضائل الأخلاقيّة كما تقدم. و أخيراً نختم هذا البحث، بنقل قصّة تاريخية نقلها المسعودي في مروجه، فقال: نقل عن الفضل بن الرّبيع أنّ "شريك بن عبدالله"، دخل يوماً على "المهدي"، الخليفة العبّاسي في وقتها فقال له المهدي العباسي: "أي شريك"، أعرض عليك ثلاثة اُمور، عليك أن تختار إحداها، فقال ما هي؟، فقال له: إمّا أن تقبل منصب القضاء، أو أن تعلّم إبني، أو تأكل معنا على مائدتنا، ففكّر شريك قليلاً، وقال إنّ الأخيرة أسهلها، فحجزه المهدي، وقال لطبّاخه، حضّر له أنواعاً من أطباق أمخاخ الحيوانات، المخلوطة بالسّكر و العسل. فعندما أكلَ شريك من ذلك الطعام اللّذيذ، "و طبعاً الحرام"، قال الطبّاخ للمهدي، إنّ هذا الشّيخ لن يُفلح أبداً بعد هذا الطّعام، فقال الرّبيع: وفعلاً قد صدقت نبوءة الطبّاخ، فإنّ شريك 1. بحار الأنوار، ج63، ص394. [ 186 ] بعدها قبل منصب القضاء، و علّم أبناء المهدي أيضاً(1). الصفات و الأعمال الأخلاقيّة: من المعلوم أنّ كلّ فعل يفعله الإنسان له أصلٌ و أساس في باطنه و محتواه الدّاخلي، أو بعبارة اُخرى، إنّ الأعمال هي مرآة باطن الإنسان، فإحداهما بمنزلة الجذر، و الاُخرى بمنزلة السّاق و الأوراق و الّثمر. و بناءً عليه: فإنّ الأعمال الأخلاقيّة، لا تنفك عن الصّفات الأخلاقيّة، فمثلاً النّفاق، له جذوره في روح الإنسان، و يحكي عن إزدواجيّة ذلك الشّخص، و عدم توحيده في دائرة الإيمان، فهذه الصّفة الباطنيّة تحثّ الإنسان على سلوك طريق النّفاق و الرّياء مع الغير. الحسد أيضاً من الصّفات الباطنيّة السلبيّة، حيث يتمنى معه الشّخص الحاسد، زوال النّعم التي أعطاها الباري تعالى لغيره، و تتجلى هذه الصّفة الذّميمة في أعماله و أفعاله، التي يريد بها التّصدي لسعادةِ ذلك المحَسود من موقع العداوة والخصومة. الكِبَر و الغُرور، هي صفاتٌ باطنيّة كذلك، نشأت من جهل الإنسان لقدره و مقامه، و هي ناشئةٌ من عدم تحمل الإنسان لثقل المواهب الإلهيّة، التي يُعطيها الباري له، و يتبيّن هذا الأمر من تصرفاته، و عدم إعتنائه بالغير، و بذاءة لسانه وتحقيره للآخرين. و رُبّما، ولأجل ذلك لم يفرق علماء الأخلاق بين هذين الإثنين في كتبهم الأخلاقيّة، فمرّةً يعرّجون على الصّفات الداخلية للإنسان، واُخرى يتطرّقون للأعمال الخارجيّة، التي تستمد مقوّماتها من عالم الصّفات الباطنيّة، فيطلق على الأول: "الصّفات الأخلاقية"، و على الثاني: "الأعمال الأخلاقيّة". و طبعاً الأعمال الأخلاقية، هي موضوع المباحث الفقهيّة لدى الفُقهاء، ولكن و مع ذلك، فإنّ علماء الأخلاق قد تناولوها بالبحث في دائرة السّلوك الأخلاقي للفرد، ومن الطّبيعي فإنّ نظرة عالِم الأخلاق، تختلف عن نظرة الفقيه، فالفقيه يبحث المسألة في إطار الأحكام الخمسة: 1. سفينة البحار، مادة "شريك"; ومروج الذهب، ج3، ص310. [ 187 ] (الحُرمة، الوُجوب، و الإستحباب، و الكراهة، و الإباحة)، و لربّما تطرّق للثواب و العقاب، للأعمال في نطاق الحياة الآخرة، ولكن عالِم الأخلاق ينظر إليها من منظار كمال الرّوح و النّفس، أو إنحطاطها وتسافلها في خطّ الإنحراف، وبهذا يتبيّن الفرق بين الصّفات و الأفعال الأخلاقية، ويتمّ من خلالها تمييز نظر الفقيه عن نظر عالِم الأخلاق. -- [ 188 ] [ 189 ] 12 / الخُطى العمليّة في طريق التّهذيب الأخلاقي 12 الخُطى العمليّة في طريق التّهذيب الأخلاقي نتطرّق في هذا الفصل للعوامل الّتي تساعد على تربية، و نمو "الفضائل الأخلاقيّة"، و تقرّب الإنسان من الله تعالى خطوةً خطوة، و هذا البحث، غاية الأهميّة في علم الأخلاق، و يتناول اُموراً عديدة: الخطوة الاُولى: التّوبة يقول كثير من علماء الأخلاق، إنّ الخطوة الاُولى لتهذيب الأخلاق و السّير إلى الله، هي "التّوبة"، التّوبة التي تمحو الذّنوب من القلب وتبيّض صفحته وتجعله يتحرك في دائرة النور، و تنقله من دائرة الظّلمة، و تخفف ثقل الذّنوب من خزينه النّفساني، و رصيده الباطني، و تمهّد الطّريق للسّير و السّلوك إلى الله تعالى، في خط الإيمان و تهذيب النّفس. يقول المرحوم: "الفيض الكاشاني"، في بداية الجزء السابع من كتابه: "المحجّة البيضاء"، الذي هو في الواقع، بداية الأبحاث الأخلاقيّة: (فإنّ التّوبة من الذنوب، و الرّجوع إلى ستار العُيوب و علاّم الغيوب، مبدأ طريق السّالكين، و رأس مال الفائزين، و أوّل إقدام المريدين، و مفتاح إستقامة المائلين و مطلع الإصطفاء و الاجتباء للمقرّبين!). [ 190 ] و بعدها يشير إلى حقيقة مهمّة، و هي أنّ أغلب بني آدم يتورطون غالباً بالمعاصي، و يشير إلى معصية آدم: (التي هي في الواقع، من ترك الأولى)، و توبته منها، ويقول: "وما أجدر بالأولاد الإقتداء بالآباء والأجداد، فلا غرو إن أذنب الآدمي و إجترم، فهي شنشنةٌ يعرفها من أخزم، ومن أشبه أباه، فما ظَلم، ولكنّ الأب إذا جبر بعد كسر، و عمّر بعد أن هدم، فليكن النزوع إليه في كلا طرفي، النّفي و الإثبات و الوجود والعدم، ولقد قلع آدم سنّ النّدم، و تندّم على ما سبق منه و تقدّم، فمن إتّخذه قدوةً في الذنب دون التّوبة فقد زلّت به القدم، بل التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقرّبين، والتجرُّد للشرّ دون التّلافي، سجيّة الشّياطين، و الرّجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشرّ ضرورة الآدميين، فالمتجرّد للخير ملك مقرّب، عند الملك الدّيان، والمتجرّد للشرّ شيطان، والمتلافي للشرّ بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان. والمصرّ على الطّغيان، مسجّل على نفسه بنسب الشّيطان، فأمّا تصحيح النّسب بالتجرّد لمحض الخير إلى الملائكة، فخارج عن حيّز الإمكان، فإنّ الشرّ معجون مع الخير، في طينة آدم، عجناً محكماً لا يخلّصه إلاّ إلى إحدى النارين: نار الندم أو نار جهنم"(1). أو بعبارة اُخرى: أنّ الإنسان غالباً ما يُخطيء، و خصوصاً في بداية سيره إلى الله تعالى، فإذا ما وجد أنّ أبواب العودة موصدةٌ في وجهه، فسيورثه اليأس الكامل، و يبقى يُرواح في مكانه، ولذلك فإنّ التّوبة تعتبر من الاُصول المهمّة في الإسلام، فهي تدعو كلَّ المذنبين إلى العمل لإصلاح أنفسهم، و الدّخول في دائرة الرّحمة الإلهيّة، و السّعي لجبران ما مضى. و قد بيّن الإمام السّجاد(عليه السلام)، في مناجاته: "مناجاة التائبين" أفضل وأحلى صورة لها، فقال: "إِلَهي أَنْتَ الّذِي فَتَحْتَ لِعبادِكَ باباً إِلى عَفْوِكَ سَمَّيْتَهُ التَّوبَةَ فَقُلْتَ تُوبُوا إِلى اللهِ تَوبَةً نَصُوحاً، فَما عُذْرُ مِنْ أَغْفَلَ دُخُولَ البابِ بَعْدَ فَتْحِهِ"(2). و الجدير بالذكر أنّ الباري تعالى يحبّ التّائبين، لأنّ التّوبة تعتبر الخطوة الاُولى لكي 1. المحجّة البيضاء، ج7، ص6 و 7، مع التلخيص. 2. المناجاة الخمسة عشر للإمام السجاد(عليه السلام)، المناجاة الاُولى; بحار الأنوار، ج94، ص142. [ 191 ] يعيش الإنسان في أجواء السّعادة و الحياة الكريمة. وقد ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام): "إِنّ اللهَ تَعالى أشَدُّ فَرَحاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ، مِنْ رَجُل أَضَلَّ راحِلَتَهُ وَ زادَهُ، فِي لَيلَة ظَلْماءَ فَوَجَدها"(1). فهذا الحديث مزج بكنايات خاصة وعبارات جذابة، ليبيّن أنّ التّوبة في الواقع، الزّاد و الرّاحلة لعبور الإنسان من وادي الظّلمات، ليصل إلى معدن النّور و الرّحمة، و يعيش حالات الكرامة في الصفات الإنسانيّة. -- و على أيّة حال، فإنّ ما يطرح في مبحث التّوبة اُمورٌ عديدةٌ، أهمّها هي: 1 ـ حقيقة التّوبة. 2 ـ وجوب التّوبة. 3 ـ عمومية التّوبة. 4 ـ أركان التّوبة. 5 ـ قبول التّوبة، هل عقلي أو نقلي؟ 6 ـ تقسيم التّوبة وتجزئتها. 7 ـ دوام التّوبة. 8 ـ مراتب التّوبة. 9 ـ معطيات و بركات التّوبة. 1 ـ حقيقة التّوبة "التوبة" في الأصل، هي الرجوع عن الذّنب "هذا إذا ما نسبت للمذنبين"، ولكن الآيات القرآنية و الرّوايات نسبتها إلى الباري تعالى، وعليه فيصبح معناها: الرجوع إلى الرّحمة 1. اُصول الكافي، ج2، باب التوبة، ص435، ح8. [ 192 ] الإلهيّة، تلك الرحمة التي سُلبت من الإنسان إثر إرتكابه للمعصية و الذّنب، فبعد عودته لموقع العبودية و العبادة، تمتد إليه الرّحمة الإلهيّة من جديد، و بناءاً على ذلك فإنّ أحد أسماء الباري تعالى، هو (التواب). و "التّوبة" في الحقيقة: هي مشترك لفظي أو معنوي بين الله وعباده، (ولكن إذا ما نُسبت للعبد، تتعدى بكلمة "إلى"، وإذا ما نُسبت للباري تعالى، فهي تتعدى بكلمة "على")(1). و ورد في "المحجّة البيضاء"، عن حقيقة التّوبة فقال: "إعلم أنّ التّوبة عبارةٌ عن معنى ينتظم و يلتئم، من ثلاثة اُمور مرتّبة: علم وحال و فعل، فالعلم أوّل والحال ثان و الفعل ثالث، أمّا العلم فهو معرفة عِظم ضرر الذنوب، و كونها حجاباً بين العبد و بين كلّ محبوب، فإذا عرفت ذلك معرفةً محقّقةً بيقين غالب على قلبه، ثار من هذه المعرفة، تألّمٌ للقلب بسبب فوات المحبوب، فإنّ القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألّم، فإن كان فواته بفعله تأسّف على الفعل المفوّت، فيسمّى تألّمه بسبب فعله المفوّت لمحبوبه ندماً، فإذا غلب هذا الألم على القلب و إستولى; إنبعث من هذا الألم في القلب، حالةً اُخرىً تسمّي إرادةً و قصداً إلى فعل له تعلّق بالحال و بالماضي و الإستقبال. فثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب، نار الندم فيتألّم به القلب، حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أن صار محجوباً عن محبوبه"(2). و هو الشّيء الذي يدعوه البعض: بالثّورة الروحيّة و النفسيّة، و يعتبرون التّوبة نوعاً من الإنقلاب الرّوحي، في باطن الإنسان على كلّ شيء، وتحثّه هذه الحالة على إتخاذ موقف جديد، حيال أعماله وبرامجه الآتية، من موقع الوضوح في الرّؤية لعناصر الخير و الشرّ. 2 ـ وجوب التّوبة إتّفق علماء الإسلام على وجوب التّوبة، و كذلك فإنّ القرآن قد صرّح بها في الآية (8) 1. تفسير الفخر الرازي و تفسير الصّافي، ذيل الآية 37 من سورة البقرة. 2. المحجّة البيضاء، ج 7، ص 5. [ 193 ] من سورة التّحريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ ). إنّ كلّ الأنبياء عندما يتقلدّون أعباء الرّسالة، فأوّل شيء يدعون إليه هو التّوبة، لأنّه بدون التّوبة و تنقية القلب، لا يوجد مكان للتّوحيد والفضائل في أجواء النّفس و واقع الإنسان. فالنّبي هود(عليه السلام)، أوّل ما دعى قومه: إلى التّوبة و الإستغفار، فقال تعالى: (وَيَا قَوْمِ اُسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ )(1) و كذلك النّبي صالح(عليه السلام)، جعل التّوبة أساساً لعمله و دعوته، فقال تعالى: (فَآسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ )(2). ا ص194 - ص206ثم النّبيّ شعيب(عليه السلام)، الذي تحرك في دعوته من هذا المنطلق، فقال تعالى: (وَ آسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ )(3). و دعمت الروايات ذلك الأمر، و أكّدت على وجوب التّوبة الفوريّة، ومنها: 1 ـ وصية الإمام علي(عليه السلام) لإبنه الإمام الحسن(عليه السلام): "وَإِنْ قَارَفْتَ سَيِّئَةً فَعَجِّلْ مَحوَها بِالتَّوبَةِ"(4). طبعاً حاشا للإمام أن يقترف الذّنوب، ولكن قصد الإمام علي(عليه السلام) هنا، تنبيه الآخرين إلى هذا المعنى. 2 ـ قال الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، لإبن مسعود: "يابنَ مَسْعُودَ لا تُقَدِّمِ الذَّنْبَ وَلا تُؤَخِرِ التَّوبَةَ، وَلَكِنْ قَدِّمِ التَّوبَةَ وَأَخِّرِ الذَّنْبَ"(5). 3 ـ وفي حديث آخر، قال الإمام علي(عليه السلام): "مُسَوِّفُ نَفْسِهِ بِالتَّوبَةِ مِنْ هُجُومِ الأَجَلَ عَلَى أعْظَمِ الخَطَرِ".(6) 1. سورة هود، الآية 52. 2. سورة هود، الآية 61. 3. سورة هود، الآية 90. 4. بحار الأنوار، ج 74، ص 208. 5. بحار الأنوار، ج 74، ص 104. 6. مستدرك الوسائل، ج 12، ص 130. [ 194 ] 4 ـ وقال الإمام الرضا(عليه السلام) نقلا عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "لَيسَ شَيءٌ أَحَبُّ إلَى اللهِ مِنْ مُؤمِن تائِب أو مُؤمِنَة تائِبَة"(1). و يمكن أن يكون هذا الحديث دليلا على وجوب التّوبة، لأنّها أحبّ الأشياء إلى الله تعالى في دائرة السّلوك البشري. مضافاً إلى ذلك، هناك دليلٌ عقلي على وجوب التّوبة، وهو أنّ العقل يحكم، بوجوب دفع الضّرر المحتمل أو المتيقن، و تحضير وسائل للنجاة من العذاب الإلهي، و بما أنّ التّوبة هي أفضل وسيلة للنجاة من العذاب، فلذلك يحكم العقل السليم بوجوبها، فالعاصين أنّى لهم الخلاص، من العذاب الدّنيوي والاُخروي، و لمّا يتوبوا بعد؟! نعم، فإنّ التّوبة واجبةٌ، بدليل القرآن و الرّوايات و العقل، إضافةً إلى قبول المسلمين لها أجمع، وبناءً عليه فإنّ الأدلّة الأربعة تحكم بوجوب التّوبة، و وجوبها فوري، و قد تطرق علم الاُصول لهذا الأمر، على أساس أنّ الأوامر كلّها ظاهرةٌ في الوجوب ما لم يثبت العكس. 3 ـ عموميّة التوبة لا تختص التّوبة بذنب من الذنوب، أو شخص من الأشخاص، ولا تتحدّد بزمان و لا مكان و لا عمر محدد. و عليه فإنّ التّوبة تشمل جميع الذّنوب و تستوعب كلّ فرد في أي مكان أو زمان كان، وإذا ما إحتوت على كلّ الشّروط، فستُقبل من قبل الباري تعالى، والإستثناء الوحيد الذي لا تُقبل فيه التّوبة، والذي أشار إلى القرآن الكريم، هو: التّوبة عند حضور الموت، أو نزول العذاب الإلهي، (كما تاب فرعون في آخر لَحَظات عمره)، فعندها لن تُقبل توبته، لأنّ التّوبة عندها ليست توبةً حقيقيّةً، و لا هي صادرةٌ من الشّخص من موقع الإختيار، فيقول الباري تعالى: (وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ 1. مستدرك الوسائل، ج 12، ص 125. [ 195 ] الاْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً )(1). و نقرأ في قصّة فرعون: عندما إنفلق البحر لموسى(عليه السلام)، و تبعه فرعون وجنوده، واُغرِق فرعون، فقال: (آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ )(2). ولكنّه سمع الجواب مباشرةً، فقال تعالى: (أَلاْنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ )(3). وأمّا بالنسبة للاُمم السّابقة، فقال تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ) . فأجابهم القرآن الكريم: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ )(4) و كذلك بالنّسبة للحدود الإلهيّة، عندما يقع المجرم في أيدي العدالة، فلن تقبل توبته، لأنّه لم يتب واقعاً بل خوفاً من العقاب لا غير. فالتّوبة التي لا تقبل من الباري تعالى، هي التّوبة التي تخرج من شكلها الإختياري في مسيرة الإنسان. وقال البعض: توجد ثلاثة موارد اُخرى لا تقبل فيها التوبة: الأول: "الشّرك"، حيث يقول القرآن الكريم: (إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ )(5). ولكن هذا الأمر يبتعد عن الصّواب و الصّحة، بل أنّ الآية لم تتكلم عن التّوبة، ولكنّها تحدثت عن العفو عن المشرك من دون توبة، وإلاّ فانّ كلّ الأشخاص قبل الإسلام، تابوا من شركهم وقبلت توبتهم، و كذلك كلّ من يدخل في الإسلام في عصرنا الحاضر، فتوبته مقبولةٌ 1. سورة النّساء، الآية 18. 2. سورة يونس، الآية 90. 3. سورة يونس، الآية 91. 4. سورة غافر، الآية 84 و 85. 5. سورة النّساء، الآية 48. [ 196 ] عند جميع علماء المسلمين، ولكن إذا مات المُشرك و هو على شِركه، فلن يتوب الله تعالى عليه، أمّا في حالة أن يموت على التّوحيد، ولكنّه قد إرتكب ذنوباً في سالف حياته، فمن الممكن أن يعفو عنه الله تعالى، وهذا ما نستوحيه من مفهوم الآية الكريمة. وخلاصة القول، أنّ المشركين لن يشملهم العفو الإلهي المنفتح على الخلق، بل هو للمؤمنين الموحّدين، و التّوبة تغفر كلّ الذنوب حتى الشّرك. ثانياً و ثالثاً: يجب أن تكون التّوبة مُباشرةً بعد الذنب، و لا تؤخّر إلى وقت بعيد، و كذلك يجب أن يكون إرتكاب الذنب عن جهالة لا عن عناد، و نقرأ في الآية (17) من سورة النساء: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيب فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ). والجدير بالملاحظة، أنّ كثيراً من المفسّرين، حملوا هذه الآية على التّوبة الكاملة، لأنّه من الطّبيعي، عندما يُذنب الإنسان من موقع العناد و الغىّ، ثم يتوجّه لحقيقة الحال، و يندم على أفعاله السّابقة، فإنّ الباري تعالى يتوب عليه، و قد حدّثنا التأريخ عن نماذج كثيرةً و أفراداً كانوا في صفوف المُعاندين و الأعداء، ثم رجعوا عن غيّهم و تابوا، و عادوا إلى حضيرة الإيمان و الصّلاح. و من المعلوم حتماً، لو أنّ الإنسان أمضى عمره بالذّنوب و العصيان، ولكن تاب بعدها توبةً نصوحاً، و تحول من دائرة المعصية والإثم، إلى دائرة الطّاعة و الإيمان، فإنّ الله تعالى سيقبل توبته لا محالة. و نقرأ في الحديث المشهور عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِسَنَة تابَ اللهُ عَليهِ، وَقَالَ: ألا وَسنَةُ كَثِيرَ، مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِشَهْر تابَ اللهُ عَلَيهِ، وَقَالَ: شَهْرُ كَثِيرٌ، مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِجُمْعَة تابَ اللهُ عَلَيهِ، قَالَ: وَجُمْعَةُ كَثيرٌ، مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ مَوتِهِ بِساعَة تابَ اللهُ عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَ ساعَةُ كَثِيرٌ، مَنْ تابَ إِلى اللهِ قَبْلَ أنْ يُغَرغِرَ بِالمَوتِ تابَ اللهُ عَلَيهِ"(1). 1. مستدرك الوسائل، ج12، ص145، (باب صحة التوبة في آخر العمر، ح5). [ 197 ] و طبعاً القصد منه، التّوبة بجميع شرائطها، فمثلاً إذا كان في عنقه حقوق الناس فعليه أن يوصي بها لمن هو بعده، ثم يتوب بعدها. و توجد آياتٌ كثيرةٌ، تدلّ على شمولية التوبة لجميع الذّنوب، و منها: 1 ـ نقرأ في الآية (53) من سورة الزمر: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ). 2 ـ نقرأ في الآية (39) من سورة المائدة: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). 3 ـ نقرأ في الآية (54) من سورة الأنعام: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَة ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). ففي هذه الآية نرى، أنّ سوء العمل مطلقٌ و يشمل كلّ الذّنوب، و مع ذلك فلا تُحجب عنه التّوبة و طريق العودة. 4 ـ نقرأ في الآية (135) من سورة آل عمران: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ). و هنا الظّلم أيضاً يشمل جميع الذنوب، لأنّ الظلم مرّة يقع على الغير و اُخرى على النفس، ووعدت هذه الآية، جميع المذنبين بالتّوبة عن جميع ذنوبهم و آثامهم، في أطار الذّكر و الإستغفار. 5 ـ نقرأ في الآية (31) من سورة النّور، حيث خاطبت جميع المؤمنين: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ). فكلمة "جميعاً" تدعو جميع المذنبين للتوبة، و لولا شموليّة و عموميّة التّوبة، لما صحّت هذه الدّعوة القرآنية. و الجدير بالملاحظة، أنّ الآيات المذكورة آنفاً، مرّةً تؤكّد على الإسراف، و اُخرى على الظّلم، و مرّةً على سوء العمل، والوعد الإلهي بالمغفرة لجميع هذه العناوين، في حال إنضوائها [ 198 ] تحت عنوان التّوبة، عن كل سوء و ظلم و إسراف يقترفه الإنسان ويتوب منه، فإنّ الله تعالى سيتوب عليه. و وردت رواياتٌ كثيرةٌ في هذا المجال، في مصادر الفريقين، السّنة و الشّيعة، وأنّ باب التّوبة مفتوح حتى اللّحظات الأخيرة من العُمر، ما لم يرى الإنسان الموت بعينه. و يمكن الرجوع إلى الرّوايات في كتب، مثل: بحار الأنوار(1)، واُصول الكافي(2)، و الدرّ المنثور(3)، و كنز العمّال(4)، وتفسير الفخر الرازي(5)، و تفسير القُرطبي(6)، و تفسير روح البيان(7)، و تفسير روح المعاني(8). وكتب اُخرى، ويمكن القول أنّ هذا الحديث هو من الأحاديث المتواترة. 4 ـ أركان التّوبة كما نعلم، أنّ حقيقة التّوبة هو الرّجوع إلى ساحة الباري تعالى، و الإقلاع عن العِصيان، في ما لو كان ناشئاً من النّدم على ما سبق من الأعمال السّيئة، و لازم النّدم هو العلم بأنّ الذنب يحيل بين المذنب والمحبوب الحقيقي، ويترتب عليه العزم و التّصميم على عَدم العودة، و على التّحرك لجبران ما فات، و محو آثار الذنوب السّابقة من باطن وجوده وخارجه، و يتحرّك كذلك في دائرة إعادة الحقوق الباقية في ذمّته، وأكّد القرآن الكريم، في كثير من الآيات على هذا المعنى، و جعل التّوبة مقارنةً للإصلاح: 1 ـ الآية (160) من سورة البقرة، و بعد الإشارة إلى ذنب كتمان الآيات الإلهيّة و و العقاب الذي يترتب على ذلك قالت: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ). 1. بحار الأنوار، ج6، ص19 و ج2، ص440. 2. اُصول الكافي، ج2، ص440. 3. الدرّ المنثور، ج2، ص131. 4. كنز العمّال، ح10187 و 10264. 5. تفسير الفخر الرازي، ج10، ص 7، في ذيل الآية أعلاه. 6. تفسير القرطبي، ج3، ص166، في ذيل الآية أعلاه. 7. تفسير روح البيان، ج2، ص178، ذيل الآية أعلاه. 8. تفسير روح المعاني، ج4، ص233. [ 199 ] 2 ـ الآية (89) من سورة آل عمران، و بعد إشارتها لمسألة الإرتداد و عقابها، يقول تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) 3 ـ الآية (146) من سورة النساء، وبعد إشارتها للمنافقين، و عاقبة أمرهم السّيئة، تذكر: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَ اُعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِِ ). 4 ـ و في الآية (5) من سورة النّور، و بعد ذكرها للعقوبة الشّديدة المترتبّة على القَذَف، في الدنيا و الآخرة، ذكرت: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). 5 ـ وبالتالي نرى عنصر التّوبة، بمثابة قانون كلّي يستوعب في نطاقه جميع الذّنوب، فقال تعالى في الآية (119) من سورة النحل: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ). 6 ـ ورد شبيه لهذا المعنى، في الآية (82) من سورة طه: (وَإِنّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اُهْتَدَى ). و أشارت الآية الكريمة هنا، بالإضافة إلى رُكني التّوبة الأساسييّن، و هما: العودة إلى الله، والعمل الصالح، و جُبران الماضي، ذكرت مسألة الإيمان والهداية. و الحقيقة أنّ الذنوب تقلل نور الإيمان في قلب الإنسان، و تحرفه عن الطّريق، و عليه فإنّه بالتّوبة يجدّد إيمانه و هدايته، في نطاق إصلاح الباطن. 7 ـ و ورد في سورة الأنعام، الآية (45)، معنى مشابه أيضاً: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَة ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). و ممّا ذكر من الآيات الآنفة، تتضح لنا مسألة التّوبة بصورة كاملة، فالتّوبة الحقيقيّةُ ليست بلفظ الإستغفار وحده، و النّدم على ما مضى، و الإقلاع عنه في المستقبل، بل تتعدّى إلى دائرة الإنفتاح على العمل، لإصلاح كلّ التّقصيرات و المفاسد الّتي صدرت منه في السّالف، و محو آثارها من نفسه و ورحه و من المجتمع، لتحصيل الطّهارة الكاملة في واقع الإنسان والحياة، وطبعاً بالقدر الممكن. فهذه هي التّوبة الحقيقيّة، وليس الإستغفار وحده!. [ 200 ] و الجدير بالذّكر أنّ كلمة "الإصلاح"، ورد ذكرها دائماً بعد ذكر التّوبة، كالآيات الآنفة الذّكر، و معناها واسعٌ يشمل كلّ ما فات، من قصور و تقصيرِ يُبعد الإنسان عن خطّ الإيمان، ومنها: 1 ـ التّائب يجب أن يُؤدّي جميع الحقوق لُمستحقيها، فإنّ كانوا أحياء فَبِها، و إلاّ فلورثتهم. 2 ـ إذا كان قد تعامل مع الآخرين، من موقع الإهانة و الغيبة، و غيرها من الاُمور السلبية في دائرة السلوك، فيجب عليه طلب الحلية منهَ ورَدّ إعتباره مادام الآخر يعيش في هذه الدنيا، وإن كان قد وافاه الأجل، فعليه أن يتحرّك على مستوى إرسال الثّواب لروحه، كي ترضى. 3 ـ أن يَقْضي ما فاته من العبادات: كالصّلاة و الصّيام و دفع الكفارات. 4 ـ نعلم أنّ ممارسة الخطيئة والوقوع في منحدر الذنوب، يُظلم الرّوح و يسوّد القلب، فعلى التّائب السّعي لتنوير قلبه بالطّاعة و العّبادة، لتنفتح روحه على الله تعالى، في أجواء الإيمان. و أفضل و أكمل تفسير ورد لمعنى الإستغفار، هو ما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، في كلماته القصار في نهج البلاغة: قال(عليه السلام) لقائل قال بحضرته: "أَسْتَغْفِرُ اللهَ" ـ وكان الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)يعرف سوابقه و أعماله ـ "ثَكَلَتْكَ اُمُّكَ أَتِدرِي مَا الاسْتِغْفارُ؟ الإسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ العِلِّيينَ، وَهَوَ إسمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعان". أَوَّلُهـا النَّدمُ عَلى مَا مَضى. والثَّانِي العَزْمُ عَلَى تَرْكِ العَودِ إِلَيهِ أَبَداً. والثَّالِثُ أنْ تُؤَدِّي إِلَى الَمخْلُوقِينَ حُقُوقَهُم حَتَّى تَلقَى اللهَ أَمْلَسَ لَيسَ عَلَيكَ تَبِعَةٌ. الرّابِعُ أنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَة عَلَيكَ ضَيَّعْتَهـا فَتُؤَدِّيَ حَقَّها. الخَامِسَ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالأحزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الجِلْدَ بِالعَظمِ، وَيَنْشَأَ بَينَهُما لَحْمٌ جَدِيدٌ. و السَّادِسَ أَن تُذِيقَ الجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاوَةَ المَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ: "أَسْتَغْفِرُ اللهَ"(1). 1. نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 417. [ 201 ] ونقل نفس هذا المعنى في و رواية اُخرى، عن كميل بن زياد عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقال: يا أمِيرَ المؤمنين العَبْدُ يُصِيبُ الذَّنْبَ فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ مَنْهُ فَما حَِدُّ الإستِغْفَارِ؟. فقال الإمام(عليه السلام): "يا ابْنَ زِياد التَّوبَةُ". قلت: بَسْ. قال(عليه السلام): "لا". قلت: فَكَيفَ؟ قال(عليه السلام): "إنَّ العَبْدَ إِذا أَصابَ ذَنْبَاً يَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ بِالتَّحْرِيكِ". قلت: وَما التَّحْرِيكُ؟. قال(عليه السلام): "الشَّفَتَانِ وَاللِّسانِ يُرِيدُ أَنْ يَتْبِعَ ذَلِكَ بِالحَقِيقَةِ". قلت: وَ ما الحَقِيقَة؟. قال(عليه السلام): "تَصْدِيق فِي القَلْبِ وَإِضْمارُ أَنْ لا يَعُودَ إلَى الذَّنْبِ الَّذِي اُسْتَغْفَرَ مِنْهُ". فقلت: "فإذا فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنَ المُسْتَغْفِرينَ". قال(عليه السلام): "لا". فقال كميل(رحمه الله)، قلت: فَكَيفَ ذاكَ. فقال الإمام(عليه السلام): "لاَِنَّكَ لَمْ تَبْلُغْ إِلَى الأَصْلِ بَعْدَهُ". فقال كميل(رحمه الله): فَأَصْلِ الإِسْتِغْفـارِ مـا هُوَ؟. فقال الإمام(عليه السلام): "الرُّجُوعُ إِلَى التَّوبَةِ مِنَ الذَّنْبِ الَّذي إِسْتَغْفَرْتَ مِنْهُ وَهِيَ أَوَّلُ دَرَجَةِ العابِدِينَ". ثم قال الإمام(عليه السلام): "وَ تَركُ الذَّنْبِ والإستِغفارِ اسمٌ وَاقِعٌ لِمعان سِتّ". ثم ذكر نفس المراحل السّتة، المذكورة في قصار الكلمات لنهج البلاغة، مع قليل من الاختلاف(1). و يمكن أن يقال: إنّ التّوبة إذا كانت كما ذكرها أمير المؤمنين(عليه السلام)، فلن يوجد تائب حقيقي أبداً. 1. بحار الأنوار، ج6، ص27. [ 202 ] ولكن يجب الّتنبّهُ إلى أنّ بعض الشروط السّتة، هي في الحقيقة من كمال التّوبة، كما في الشّرط الخامس و السّادس، أمّا الشّروط الأربعة الاُخرى، فهي من الشّروط الواجبة و اللاّزمة، أو كما يقول بعض المحقّقين: إنّ القسم الأول، و الثّاني من أركان التّوبة، و الثّالث و الرابع هما من الشروط اللاّزمة، و الخامس و السّادس من شروط الكمال(1). وجاء في حديث آخر عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "أمّا عَلامَةُ التَّائِبِ فَأَرْبَعَةٌ: النّصِيحةُ للهِ فِي عَمَلِهِ وَتَرِكُ الباطِلِ وَلُزُومِ الحَقِّ وَالحِرصُ عَلَى الخَيْرِ"(2). ويجب الإنتباه، أنّ الذّنب إذا تسبّب في إضلال الآخرين، مثل الدّعاية المضلّة، و البِدعة في الدّين، سواء كان عن طريق البيان، أو عن طريق الكتابة، فيجب عليه إرشاد الضّالين بالقدر الّذي يستطيع، وإلاّ فلن تُقبل توبته. و منه يتّضح صعوبة سلوك طريق التوبة، بالنّسبة إلى المحرّفين للآيات الإلهيّة، و المُبتَدِعين في دين الله تعالى، و الذين يتحرّكون على مستوى إضلال الناس، و سوقهم إلى الإنحراف. فليس من الصحيح، أن يُضلّ شخصٌ عدداً غفيراً من النّاس، في الملأ العام، أو بكتاباته ومقالاته، ثمّ يجلس في زاوية البيت، و يستغفر الله تعالى ليعفو عنه، فمثل هذه التّوبة، لن تُقبلَ أبداً. و كذلك الذي يهتك حرمة أحد الأشخاص أمام الملأ، ثم يستحلّ منه على إنفراد، أو يتوب في خَلوته، فلن تُقبل مثل هذه التّوبة، ما لم يرد إعتبار ذلك الشخص، أمام الملأ العام. و بناءً على هذا، فإنّنا نقرأ في الرّوايات عن أشخاص هَتكوا حُرمة الغير، و اُجري عليهم الحَد، فإنّ توبتهم لن تقبل، إلاّ إذا رجعوا عن غيّهم وكلامهم. و قد ورد في حديث مُعتبر، عن الإمام الصادق(عليه السلام)، قال الرّاوي: سألت أبا عبدلله(عليه السلام)عن المحدود إذا تاب، أتقبل شهادته؟، فقال: "إذا تابَ وَتَوبَتُهُ أَنْ يَرْجَعَ مِمّا قالَ وَيُكِذِّبَ نَفْسَهُ عِنْدَ الإِمامِ وَ عِنْدَ المُسْلِمِينَ، فإذا فَعَلَ 1. كتاب "گفتار معنوي"، للمرحوم الشهيد مطهري، ص139. 2. تُحف العقول، ص32. [ 203 ] فَإِنَّ عَلَى الإِمامِ أَنْ يَقْبَلَ شَهادَتَهُ بَعْدَ ذَلِك"(1). وَ وَرد في حديث آخر: "أَوصى اللهِ عَزَّوَجَلَّ إِلى نَبِيٍّ مِنَ الأنبِياءِ، قُلْ لِفُلانَ وَعِزَّتِي لَو دَعَوتَنِي حَتّى تَنْقَطِعَ أَوصالُكَ، ما اُسْتَجَبْتُ لَكَ، حَتّى تَرّدَ مَنْ ماتَ إِلى ما دَعَوتَهُ إِلِيهِ فَيَرْجَعَ عَنْهُ"(2). فهذا الحديث يبيّن أهميّة مسألة الإصلاح، و السّعي لجبران الخلل من موقع التّوبة، و إلى أيّ حدٍّ يمتد في آفاق الممارسة العمليّة، و بدون ذلك ستكون التّوبة صوريّة أو مقطعيّة. و آخر ما يمكن أن يقال في هذا المجال، أنّ من يقنع من الإستغفار بالإسم، مُقابل كثرة الذّنوب و المعاصي، ولا يسعى في تحصيل أركانه و شروطه، فكأنّه قد إستهزأ بنفسه، و بالتّوبة و بالإستغفار. و في ذلك يقول الإمام الباقر(عليه السلام): "التّائِبُ مِنَ الذَّنِبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لِهُ، وَالمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ وَهُوَ مُسْتَغْفِرٌ مِنْهُ كالمُستَهزِىء"(3). 5 ـ قبول التوبة: هل هو عقلي أم نقلي؟ إتّفق علماء الأخلاق أنّ التّوبة الجامعة للشّرائط، مقبولة عند الله تعالى، و يدل على ذلك الآيات و الرّوايات، ولكن يوجد نقاش حول قبول التّوبة، هل هو عَقلي أم عقلائي، أم نَقلي؟. و يعتقد جماعة، أنّ سقوط العقاب الإلهي، هو تفضل من الباري تعالى، فبعد تحقق التّوبة من العبد، يمكن للباري تعالى أن يتوب على عبده ويغفر له، أو لا يغفر له، كما هو المُتعارف بين النّاس، عندما يقوم أحد الأشخاص بظلم الغَير، فِللمظلوم أن يغفر له، أو لا يعفو عنه. و ترى جماعةٌ اُخرى، أنّ العقاب يسقط حتماً بعد التّوبة، وعدم قبول عُذر المجرم، من الله تعالى، بعيدٌ و قبيحٌ، و لا يصدر منه تعالى. 1. وسائل الشيعة، ج18، ص283، ج1 باب 37، من أبواب الشّهادات. 2. بحار الأنوار، ج69، ص219. 3. اُصول الكافي، ج 2، ص 435، باب التوبة، ح 10. [ 204 ] و هنا يمكن قبول رأي ثالث، وهو أنّ قبول التّوبة أمر عقلائي، يعني أنّ العقل وإن لم يوجب قبول التّوبة و العُذر، ولكنّ بناءَ العُقلاء في العالم كلّه، مبنيٌّ على قبول عذر الخاطيء، و إقالة عثرته، إذا ما عاد عن غَيّه، و أصلح أعماله السّيئة، و جَبر ما كسره، و أرضى خصمائه بطرق مختِلفَة، فهذا الموقف هو بناء العقلاء في العالم أجمع، فلو أصرّ شخص على نفي هذا المبدأ العقلائي، ولم يقبله في سلوكه إتجّاه المُعتذر، فسيعتبر حقوداً وخارجاً عن موازين الإنسانية والأخلاق. و لا شك أنّ الله تعالى، و هو القادر و الغني عن العالمين، أَوْلى وأجدر من عباده بالعفو و المغفرة، و قبول عذر التائب، و عدم إنزال العقاب عليه. و يمكن القول بأكثر من ذلك، و هو وجوب قبول التّوبة، لدى العقل الذي يعتمد على قاعدة: "قُبح نَقض الغَرض". و توضيح ذلك: نحن نعلم أنّ الباري تعالى، غنيٌّ عن عباده وطاعة العالمين، وإن كلّفنا بشيء فهو لطفٌ منه، للسير في خطّ التّكامل و التّربية، فالصّلاة و الصّيام تُربّي النّفس و تُقرّب الإنسان من الله تعالى، وكذلك سائر الواجبات، فلها قِسطٌ في عمليّة التّكامل الإنساني. فنقرأ عن الحج: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُم )(1). و نقرأ في الآيات الاُخرى، أنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر(2)، و الصّوم سبب للتّقوى(3)، و الزّكاة لتطهير الأفراد والمجتمع من الرذائل الأخلاقيّة و الإنحرافات(4). و إعتبرت الرّوايات الإيمان، سبباً للطهارة من الشّرك، و الصّلاة لِدرء الكِبَر عن الإنسان، و الحجّ سبباً لوحدة المسلمين، و الجهاد لِعزّة المسلمين....(5) و عليه فإنّ كلّ التّكاليف الإلهيّة، هي من أسباب سعادة الإنسان، و تكامله في خط الإيمان 1. سورة الحج، الآية 28. 2. سورة العنكبوت، الآية 45. 3. سورة البقرة، الآية 183. 4. سورة التوبة، الآية 103. 5. نهج البلاغة، الكلمات القصار، مقتبسة من جملة رقم (252). [ 205 ] و الحقّ و التّكامل، هذا هو الهدف الأصلي للإنسان، في دائرة الوصول لمرتبة القرب الإلهي، و العبودية الحقّة، قال الباري تعالى:(وَ ما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ )(1). و لا شك فإنّ وجوب التّوبة، و قبولها من قبل الباري تعالى، يشكّل إحدى حلقات التّكامل المعنوي للإنسان، لأنّ الإنسان من طبيعته الخطأ، فإذا أوصد الباب دونه، فلن يتكامل أبداً. و إذا ما اُحيط الإنسان علماً بالتّوبة، و أنّ الباري فتح الباب أمامه بشرط إصلاح ما مضى، فمثل هذا الإنسان يكون أقرب للسّعادة و التّكامل، ويبتعد عن الإنحراف و الخطأ في مسيرة الحياة. و النّتيجة: أنّ عدم قبول التّوبة يؤدي إلى نقض الغرض، لأنّ الهدف من التّكاليف و الطّاعة، هو تربية و تكامل الإنسان، وعدم قبولها لا ينسجم مع هذا الغرض، ومن البعيد عقلاً على الحكيم، أن ينقض غرضه. و على كلّ حال، فإنّ التّوبة و قبولها لها علاقةٌ وثيقةٌ بالتّكامل الإنساني، و بدونها سينتفي الدّافع و القصد للتّكامل، و سيكون الإنسان في غاية اليأس من النّجاة، مما يشجعه على الّتمادي في إرتكاب المعاصي و مُمارسة الجريمة، و لذلك فإنّ كلّ المربّين، سواء كانوا إلهيين أم ماديّين، يؤكّدون على مسألة التّوبة، و يجعلون الطّريق مفتوحاً دائماً أمام الخاطئين، كَي يُحرّكوا فيهم روح الأنابة، و دافع الإصلاح والحركة نحو الكمال المُطلق. و عليه فإنّ التوبة بشرائطها، لم تحكم بها الآيات و الرّوايات فقط، بل هي ثابتة بحكم العقل و سيرة العُقلاء، و هذا أمرٌ لا يمكن تجاهله البتّة. 6 ـ التّبعيض في التّوبة هل يمكن للإنسان أن يقيم على بعض الذّنوب، و يتوبَ عن البعض الآخر؟; فمثلاً إذا كان يشربُ الخَمر و يغتابُ الناس، فهل يصحّ منه الإقلاع عن الخمر فقط، بينما يستمر في خط الغِيبة؟ 1. سورة الذّاريات، الآية 56. [ 206 ] يقول البعض: إنّ التّوبة يجب أن تكون شاملةً لكلّ الذّنوب، لأنّ المسألة تعود إلى عِصيان الباري تعالى، وَهَتك حُرمته، فالنّادم يجب أن يترك كلّ الذّنوب، لا أنّ يُصِرّ عليها. لكن هذا الكلام مُجانب للصواب، حيث يمكن القول بصحّة التّجزئة في عمليّة التّوبة، (و صرّح بها بعض العلماء، مثل المرحوم النّراقي في "معراج السعادة"، و قد نقلها عن أبيه(رحمه الله))، لأنّه ربّما يكون الإنسان، على إطّلاع كامل على آثار بعض الذّنوب وَ عَواقبها السّيئة، أو هو عند الله أشدّ وأقبح، ولأجل ذلك فإنّه يتركه على مستوى الممارسة و يتوب منه، أمّا بالنّسبة للذنوب التي هي أقلّ قُبحاً، أو أقل عِقاباً، أو لأنّ علمه بها و إطلاعه على ما يترتب عليها من المفاسد، ليس كافياً بالدّرجة التي تردعه عنه، فإنّه يستمر في ممارستها. فأكثر التائبين هم كذلك، فغالباً ما يقلعون عن بعض الذّنوب، و يبقون على البَعض، ولم يردنا شيءٌ من قبل الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أو الأئمّة الأطهار(عليهم السلام)، أو علماء الإسلام، ينفي قبول مثل هذه التوبة، ويؤكّد على التوبة الكاملة الشاملة لكلّ الذنوب التي يرتكبها الإنسان. و نرى في الآيات الشّريفة، إشارات واضحة على معنى التّجزئة في التّوبة، و صحّة القول بالتّفكيك، فمثلاً بالنّسبة للمُرابين، يقول تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ )(1). و بالنّسبة للمرتدين بعد الإيمان، يقول تعالى: (أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ...إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(2). و بالنّسبة للمحاربين والمتسببّين في ضَلال الناس و المجتمع، فبعد ذكر ما يستحقون من العِقاب الشّديد، يقول تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَآعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(3). ا ص207 - ص220و أمّا بالنّسبة للأعمال المنافية للعفّة، فيقول تعالى: (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً )(4). و في مكان آخر أشار إلى الذّنوب، مثل: الشّرك، و قتل النفس، و الزنا، و عقوباتها، فقال: 1. سورة البقرة، الآية 279. 2. سورة آل عمران، الآية 78 و 79. 3. سورة المائدة، الآية 24. 4. سورة النساء، الآية 16. [ 207 ] (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات )(1). ورغم أنّ بعض الآيات، تناولت بعض العقوبات الدنيويّة، و العفو عنها بالتّوبة، لكنّ الحقيقة أنّه لا يوجد فرق من هذا اللحاظ، فإذا ما غفرت في الدنيا فستغفر في الآخرة قطعاً. و الخُلاصة: أنّه لا يوجد مانعٌ من التّفكيك و التّفريق، بين الذّنوب من جهاتها الَمختلفة، مثل: (الفرق في ميزان المعلومات، الدّوافع، و قُبح الذّنوب)، ولكنّ التّوبة الكّاملة الشّاملة، هي التّوبة التي تستوعب جميع الذنوب، بدون التّفريق بينها في خطّ العودة إلى الله تعالى. 7 ـ دوام التّوبة التّوبة يجب أن تكون مستمرةً و دائمةً، هذا من جهة، فعندما يُخطيء الإنسان إثر وساوسه النّفسية "النّفس الأمّارة"، عليه أن يُقدِم على التّوبة لتدخل في مرحلة: "النّفس اللّوامة"، و بعدها تصل إلى مرحلة: "النّفس المطمئنة"، لتقلع جذور الوَساوس من أساسها. و من جهة اُخرى: و بعد توبته من الذنب، عليه أن يُراقب نفسه بإستمرار، و ليحذر من نقض العهد مع الباري تعالى، في المستقبل أو بعبارة اُخرى: إذا وجد في نفسه بقايا لِلميل إلى الذّنب، و الرّغبة في الإثم، عليه أن يُجاهد نفسه، و يتحرك في مجال تهذيبها من هذه الشّوائب، ليكونَ في صفّ التّائبين و الُمجاهدين. بعضَ علماء الأخلاق، تطرّقوا لبحوث لا طائل لها، و هوَ هلْ: مقام التائب و مجاهدته و ممارسته لعناصر الذّنوب في الخارج أفضل، أم التّائب الذي يقلع جذور الذّنب من قلبه(2)؟ وليس من المُهم الأفضليّة، بل المُهم هو العمل على تكريس حالة الإنضباط، في جو المسؤوليّة و عدم العودة لممارسة الذّنب، و لرعاية هذا الأمر يتوجب اتّباع اُمور، منها: 1 ـ الابتعاد عن أجواء الذّنب، و عدم مُجالسة أهل المعاصي، لأنّ التّائب يكون في البداية ضعيف القلب جداً، كالمريض في بدايةُ شفائه من مرضه، فأدنى شيء، بإمكانه أن يثير في نفسه 1. سورة الفرقان، الآية 70. 2. راجع المحجّة البيضاء، ج7، ص75. [ 208 ] مشاعر الخطيئة، بالمستوى الذي يشلّ فيه إرادة الصّمود، و يحوله إلى كيان مهزوز، أمام حالات المرض، و يُشدّده عليه، و كالمُعتاد على الأفيون، التّارك له للتَوِّ أيضاً، يتأثر بالأجواء الملوّثة بسرعة. 2 ـ عليه هجر أصدقاء السّوء، و تجديد النّظر في علاقته معهم، و الفرار منهم كالفرار من الوحوش الضّارية. 3 ـ في حالات وقوعه في دائرة وسوسة الشّيطان، يشتغل بذكر الله تعالى: (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )(1). 4 ـ لِيفكر دائماً بالذّنب الّذي تاب منه، و إفرازاته، و يجعلها نصب عينه، لِئّلا يغفل و ينسى مضرّاته، وإلاّ ستهجم عليه الوَساوسُ و الدّوافعُ لإيقاعه في هُوّةِ الخطيئة مرّةً اُخرى. 5 ـ لِيتّعظ بقصص الماضين و السّابقين و من وقعوا في المَهالك، جرّاء معاصيهم، و حتّى الأنبياء المعصومين، و لتركهم الأوْلى أحياناً، مثلاً، يُفكّر في قصّة آدم(عليه السلام)، و السّبب الّذي أدّى إلى خسرانه، ذلك المُقام السّامي و طَرده من الجنّة، أو حكاية يونس النّبي(عليه السلام)، الذي حُبس في بَطن الحوت، و يَعقوب الَذي اُبتلي بفراق ولده. فكلّ ذلك يؤثر إيجابياً، في تفعيل عناصر الإرادة و الصّمود، في خطّ الإيمان و الإنفتاح على الله تعالى. 6 ـ التّفكير بالعقوبات التي وضعها الباري للعاصين، وليجعل هذه الحقيقة أمام عينه دائماً، وهي أنّ معاودته لإرتكاب الذّنوب، يمكن أن يؤدي به إلى إستحقاق عقوبة أشدّ وأقوى. و في المقابل، ليفكر برحمة الله تعالى و لُطفه، و هو اللّطيف الخبير الغفور، فرحمته بإنتظار التّوابين العائدين إلى خطّ الإستقامة و الإيمان، و ليُحدّث نفسه بعدم تضييع هذا المقام، الذي وصل إليه بعد تعب و عناءِ، في واقع العمل و المُثابرة. 7 ـ ليشغل وقته بالبرامج الصّحيحة السّليمة، و التمّتع بغير الُمحرّم، و لا يدع فراغاً في أوقاته، يفضي به أن يعيش التّخبط في الوَساوس الشّيطانية مرّةً اُخرى. 1. سورة الرّعد، الآية 28. [ 209 ] و قد سُئل أحد العُلماء، عن قوله(صلى الله عليه وآله): "التّائِبُ حَبِيبُ اللهِ"، فقال: إنّما يكون التّائب حبيباً إذا كان فيه جميع ما ذكره في قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ )(1). 8 ـ مراتب التّوبة ذكر علماء الأخلاق، درجات و مراتب مختلفة للتّوبة و التّائبين. و يمكن تقسيم التّائبين من جهة، إلى أربعة أقسام: القسم الأوّل: اُولئك التّائِبون الذين لا يقلعون عن الذنوب، ولا يتأسفون على ما فعلوا، حيث وقفوا عند مرحلة النّفس الأمّارة، وعاقبتهم غير معلومة أصلاً، فَمِن المُمكن أن يعيش حالةَ التّوبة في آخر أيّام حياته ، و تكون عاقبته الحُسنى، ولكنّ الطامّة الكبرى، عندما يتفق موتهم مع معاودتهم للذنب، وهناك ستكون عاقبتهم السّوآى، و فيها الخُسران الأبدي. القسم الثاني: التّائبون بحق الّذين يستمرون في طريق الحقّ و الطّاعة، و يتحرّكون في خطّ الإستقامة، ولكن الشّهوات تغلبهم أحياناً، فيكسرون طوق التّوبة، و يرتكبون بعض الذّنوب، من موقع الشّعور بالضّعف أمامها، ولكنّهم لا يقعون في هذا الخطأ، من موقع الّتمرد و الجُحود و العِناد، على وعي الموقف، بل من موقع الغفلة و الإندفاع العفوي في حالات الضّعف، الّتي تفرزها حالات الصّراع مع النّفس الأمّارة، و لهذا يحدثون أنفسهم بالتّوبة من قريب، هؤلاء الأشخاص وصلوا إلى مرحلة النّفس اللّوامة، و الأمل بنجاتهم أقوى. القسم الثّالث: التوّابون الذين يجتنبون كَبائِر الإثم، و يتمسّكون باُصول الطّاعات، ولكنهم قد يقعون في حبائل المعصية، لا عن قصد و عمد، ولذلك يتوبون مباشرةً عن الذّنب، فيلومون أنفسهم و يعزمون على التّوبة والعودة إلى خطّ الإستقامة بإستمرار، و يعيشون حالة الإبتعاد عن الذّنب دائماً. 1. سورة التّوبة، الآية 112. [ 210 ] النّفس اللّوامة لهذه المجموعة، مهيمنةٌ عليهم، و يعيشون على مقربة من النّفس المُطمئنّة، و الأمل بنجاتهم أكبر. القسم الرابع: التّوابون بعزم و قوة إرادة، في طريق الطّاعة لله تعالى، فلا تهزّهم العَواصف التي تفرضها حالات الصّراع مع الخَطيئة، و لا يخرجون من أجواء التّقوى، صحيح أنّهم ليسوا بمعصومين، و لَرُبّما فكّروا بالمعصية، ولكنّهم محصّنين مُبعدين عنها، فَقِوى الإيمان و العقل عندهم، سَلبت هوى النّفس فاعليّته في واقعهم الباطني، و كبّلته بالسّلاسل الغلاظ، في خطّ التّزكية و الجهاد الأكبر، فلا سبيل للشّيطان و الأهواء عليهم. فاُولئك هم أصحاب: "النّفوس المطمئنّة"، الذين نعتتهم الآيات (27 الى 30) من سورة الفَجر، و خُوطِبوا بأبلغ خِطاب، فقال عز من قائل: (يا أَيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَةُ آرجِعِي إِلَى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيِّةً ). فدخلت بإفتخار في أجواء النّور و القُرب الإلهي: (فَآدْخُلِي فِي عِبادِي و آدْخُلي جَنَّتِي ). و من جهة اُخرى، فإنّ لِلتوبةِ مراحل على مستوى المصاديق أيضاً: المرحلة الاُولى: التّوبة من الكفر إلى الإيمان. المرحلة الثّانية: التّوبة من الإيمان الموروث التّقليدي، و التّحرك نحو الإيمان الحقيقي المُستحكم. المرحلة الثّالثة: التّوبة من الذّنوب الكبيرة الخَطرة. المرحلة الرّابعة: التّوبة من الذّنوب الصّغيرة. المرحلة الخامسة: التّوبة من التّفكير بالذّنب، و الخواطر المشوبة بالمعصية، و إن لم يرتكب الُمخالفة في دائرة الفعل و المُمارسة. فكلّ فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من إضطراب السّر، (في كلّ لحظة لم يتوجهوا فيها إلى الله تعالى بالباطن والسِّر). و توبةُ الأصفياء من كلّ تنفّس بغير ذكر الله(1). 1. فسّر المرحوم المجلسي: التّنفس بنفس ذلك المعنى، ولكنّ بعض كتب اللّغة، فسّرته: بالخطابات الطّويلة. [ 211 ] و توبةُ الأولياء من تلوين الخطرات. و الخَواص من الإشتغال بغير الله. و توبة العوام من الذّنوب. و كلّ واحد منهم، يشتمل على نوع من المعرفة و العلم، في أصل توبته، و مُنتهى أمره(1). 9 ـ معطيات و بركات التّوبة إذا كانت التّوبة توبةً حقيقيةً و واقعيةً و نابعةً من الأعماق، فلابدّ من أن تقع مورد القَبول من قبل الله تعالى، العَفوّ الغَفور، و ستنشر خيرها بركاتها على صاحبها في حركة الحياة، و تُغطَّي على ما صدر منه من معاصي، أدّت به إلى السّقوط في منحدر الضّلال و الزّيغ. مثل هذا الإنسان، يعيش أجواء الحَذر الدّائم من مجالس السّوء و العصيان، و من كلٍّ عوامل الذّنب و الوساوس، و التّداعيات الاُخرى، الّتي توقعه في و حلّ المعصية مرّةً اُخرى. و يعيش حالة الخجل و النّدم، و يدأب بإستمرار لتحصيل رضا الله تعالى، و جبران ما فاته من الطّاعات. هذه هي العلاقات الفارقة لهم، عن المتظاهرين والمرائين. قال قسم من المفسّرين، في معرض تفسيرهم للآية الشّريفة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً )(2). قالوا: إنّ المراد من التّوبة النّصوح، هي تلك التّوبة التي تفعّل في الإنسان عناصر الخير من موقع النّصيحة، و تتجلى في روح التّائب على مستوى حثها له، للقضاء على جذور العصيان في باطنه، قضاءً تامّاً بلا رجعة بعدها. و فسّرها قسم آخر، بالتّوبة الخالصة، و قال آخرون إنّ: "النّصوح" من مادّة "النّصاحة"، و هي بمعنى الخِياطة و التّرقيع، لما حدث من تمزيق، وبما أنّ الذّنوب: الإيمان والدّين فتقوم 1. بحار الأنوار، 68، ص31. 2. سورة التحريم، الآية 8. [ 212 ] التّوبة بتوصيلها ببعض، و تعيد التّائب إلى حضيرة الأولياء، كما تجمع الخياطة بين قطع الثّوب(1). إنّ بركات و فوائد التّوبة جمّةٌ لا تُحصى، و قد أشارت إليها الرّوايات والآيات العديدة، و منها: 1 ـ تمحو و تُفني الذّنوب، كما ورد في ذيل الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً )، ورد (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )(2). 2 ـ تمنح التّائب بركات الأرض و السّماء، كما ورد في الآيات (10 و 11 و 12) من سورة نوح(عليه السلام): (فَقُلْتُ آسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَال وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّات وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ). 3 ـ تبدل التّوبة السّيئات حسنات، كما ورد في سورة الفرقان الآية (70): (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات ). 4 ـ يتعامل الله مع هذا الإنسان، من موقع السّتر على الذّنوب، و ينسي الملائكة الكاتبين ذنبه، و يأمر أعضاء بدنه بالستر عليه يوم القيامة، و كتمان أمره، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: "إِذا تابَ العَبْدُ تَوبَةً نَصُوحاً أَحَبَّهُ اللهُ وَسَتَرَ عَلَيهِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ"، فَقُلْتُ: وَكَيفَ يَسْتُرُ؟ قَالَ: "يُنْسِي مَلَكَيهِ ما كَتَبَا عَلَيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَ يُوحِي إِلَى جَوَارِحِهِ: اُكْتُمِي عَلَيهِ ذُنُوبَهُ، وَيُوحِي إِلى بِقـاعِ الأَرْضِ: اُكْتُمِي ما يَعْمَلُ عَلَيكَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَيَلْقَى اللهَ حِينَ يَلْقَاهُ وَلَيسَ عَلَيهِ شَيءٌ يَشْهَدُ عَلَيهِ بِشَيء مِنَ الذُّنُوبِ"(3). 5 ـ التّائب الحقيقي، يُحبّه الله تعالى، لدرجة أن ورد في الحديث: "إِنّ اللهَ عَزَّوَجَلَّ أَعطَى التّائِبِينَ ثَلاثَ خِصال، لَو أَعطى خِصْلَةً مِنْهـا جَمِيعَ أَهْلِ السَّمـواتِ والأَرضَ لَنَجَوا بِها". و بعدها يشير إلى الآية الشريفة: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )(4). 1. بحار الأنوار، ج6، ص17. 2. سورة التحريم، الآية 8. 3. اُصول الكافي، ج2، ص430، (باب التوبة، ح1). 4. سورة البقرة، الآية 222. [ 213 ] و قال: "مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ لَمْ يُعَذِّبْهُ". ثمّ يُعرّج على الآية: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَحْمَةً وَعِلْماً فَآغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَ آتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْن الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )(1)"(2). -- إلى هنا نصل إلى خاتمة بحثنا، في الخطوة الاُولى لتهذيب الأخلاق، و هي التّوبة، و توجد مطالب اُخرى في هذا المجال، يمكن الإستفادة منها في بحوث مُستقلة. نعم، فإنّه ما لم ينجلِ عن القلب و الروح صدأ الذُنوب، و يتحرك الإنسان لتطهير النّفس من مخلفات المعصية بماء التّوبة، فلن يشرق القلب بنور ربّه، ولن يتمكن هذا الإنسان من السّير على خطّ الإيمان، و السّلوك إلى الله تعالى والفوز بجواره، ولن يذوقَ طعم التجلّيات العرفانيّة، في حركة الحياة المعنويّة. هذا هو أوّل محطٍّ للرحال، وأهمّها، ولا يمكن تخطّيه إلاّ بعزم صادق و إرادة راسخة، يدعمها لطفٌ إلهي و توفيقٌ ربّاني، ولا يُلقّيها إلاّ ذو حظٍّ عظيم. -- الخطوة الثّانية: المشارطة تكلمنا سابقاً بصورة مقتضبة، عن بعض برامج وخُطى السّير و السّلوك، المشتركة بين كبار العلماء و السّائرين على ذلك الدّرب، و يصل البحث بنا عن التّوبة، إلى واقع التفصيل لتلك المباحث، مدعوم بالآيات و الرّوايات الشّريفة: 1. سورة غافر، الآية 7 الى 9. 2. اُصول الكافي، ج2، ص432. [ 214 ] الخطوة التالية التي ذكرها علماء الأخلاق، في خطّ الإلتزام الدّيني بعد التّوبة: "المشارطة": والقصد منها هو الإشتراط على النّفس وتذكيرها وتنبيهها، وأفضل الأوقات لها هو بعد صلاة الفَجر، و التنوّر بأنوار هذه العبادة الإلهيّة، الكبيرة العظيمة عند الله تعالى، فيذكّر نفسه و يوصيها بأن تَتحرك في طريق الخَير و الصّلاح، فإذا ما إنقضى العُمر فلن يفيد النّدم، و لا يمكن الإستدراك، وليجعل نصب عينيه هذه الآية الشّريفة: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الاِْنسَانَ لَفِي خُسْر )(1)، فإذا ما ضاع العُمر، فلن ينفع شيءٌ بعده: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )(2). وعليه أنّ يُحدِّث نَفسه، و يقول لها: تصوّري أنّ العُمر قد إنقضى، و زالت الحُجب و تجلّت الحقائق المُرّة، و برزت مَعالم العَذاب، و هَولِ المطّلع، و مُنكَر وَ نكير، فحينئذ تشعرين بِحالة النَّدم على ما عَمِلْتِ، و تقولين: (رَبِّ ارْجِعُوني * لَعَلّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ )(3). و على فرض إنّك لم تسمعي جواب: "كلاّ"، و أعادوكِ الى الدنيا فهل ستتعظين و تُكَفّرين عمّا قصرتِ في جَنب الله؟؟ ثمّ يوصي نفسه بجوارحه السّبعة: العَين و الاُذن و اللّسان و اليّد و الرّجل و البطن و الفَرج، فهذه الجوارح مُنصاعَةٌ لكِ اليوم و في خدمتك، فلا تقحميها في المعاصي، فإنّ لجهنَّم سبعة أبواب، لكلِّ باب جماعةٌ خاصةٌ من النّاس، يدخلون جهنّم منها، فعليك بالسيّطرة الدّقيقة على الجوارح لئَّلا تنحرف عن الطّريق القويم، و الهدف المرسوم لها، و بذلك توصَد أبواب جهنم دونها، و تفتح أبواب الجنان لها؟. و يُوصي النّفس بالمُراقبة لِجوارحه، للإستعانة بها في طريق الطّاعة لا المعصية، فهي نِعَمٌ كبيرةٌ مُحاسب عليها الإنسان غداً. و نَجد في أدعية الإمام السجاد(عليه السلام)، تأكيداً لمسألة المُشارطَة في حركة الإنسان المنفتح على الله. 1. سورة العصر، الآية 1 و 2. 2. سوره العصر، الآية 3 و 4. 3. سورة المؤمنون، الآية 100. [ 215 ] ففي الدّعاء، رقم (31) المعروف بدعاء التّوبة، يقول الإمام(عليه السلام) "وَلَكَ يا رَبِّ شَرطِي أَلاّ أَعُودَ في مَكْرُوهِكَ، وَضَماني أَنْ لا أَرجَعَ في مَذْمُومَكَ وَعَهْدِي أَنْ أَهْجُرَ جَمِيعَ مَعاصِيك". و كذلك الحال في الآيات القرآنية، فإنّ أصحاب الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، كانوا من خلال إرتباطهم مع الله تعالى، بنحو من العهدِ و الميثاقِ، يُطبّقون نوعاً من المُشارطة على أنفسهم، في خط الرّسالة و المسؤولية، ففي الآية (23) من سورة الأحزاب، نقرأ: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا )...(1). و كان البعض الآخر، ينقضون العهد مع الباري تعالى، بعد توكيدها، فورد في سورة الأحزاب، الآية (15): (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاَْدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولا ). وَ وَرَد في حديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام):"مَنْ لَمْ يَتَعاهَدْ النَّقْصَ مِنْ نَفْسِهِ غَلَبَ عَلَيهِ الهَوى، وَمَنْ كانَ في نَقْص فَالمَوتُ خَيرٌ لَهُ"(2). "فالمُشارطة" إذن: هي من الخُطى المهمّة لَتِهذيب الأخلاق، ولولاها لتراكمت سُحب الغفلة و الغُرور، على قلب وروح الإنسان، و لَحادَت به عن الطرّيق القويم، و الجادّة المستقيمة. -- الخطوة الثّالثة: المراقبة "المُراقبة" من مادة: "الرَقَبَة"، و بما أنّ الإنسان يحني رقبته عند مراقبة الأشياء و الأوضاع، فاُطلِقَت على كلّ أمر يُحتاج فيه إلى المواظبة و التّحقيق. و هذا المُصطلح عند علماء الأَخلاق، يُطلق على "مراقبة النّفس"، و هي مرحلةٌ تاليةٌ لمرحلة المُشارطة، يعني أنّه يتوجّب على الإنسان، و بعد مُعاهدته و مُشارطته لنفسه بالطّاعة 1. بحار الأنوار، ج67، ص64. 2. بحار الأنوار، ج67، ص64. [ 216 ] للأوامر الإلهيّة، و الإجتناب عن الذّنوب، عليه المُراقبة و المُواظبة على طهارته المعنوية، لأنّه في أدنى غفلة، فإنّ النّفس ستَنقُض كلّ العُهود و المواثيق، و تَسلُك به في خطّ المعصية مرّةً اُخرى. و طبعاً يجب أن لا ننسى، أنّ الإنسان و قبل مراقبته لِنفسه، فإنّ الملائكة تراقب أعماله، فيقول القرآن الكريم: (وإنّ عَلَيكُم لَحافِظِينَ )(1). فالحافظون هنا هم الذين يتولون عملية المراقبة لأعمال الإنسان، و ذلك بقرينة الآيات التي تردُ بعدها، فتقول: (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ )(2). وفي الآية (18) من سورة (ق) يقول تعالى: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَول إِلاَّ لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ). و فوق هذا و ذاك، فإنّ الله تعالى مِن ورائهم محيط بكلّ شيء، و في الآية (1) من سورة النساء، نقرأ: (إنَّ اللهَ كانَ عَلَيكُم رَقِيباً ). و كذلك في سورة الأحزاب، الآية (52): (وَكانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيء رَقِيباً ). و في الآية (14) من سورة العلق: (أَلَم يَعْلَم بِأَنَّ اللهَ يَرى ). و الآية (21) من سورة سَبأ: (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيء حَفِيظٌ ). ولكن المحلّقين في أجواء التّقوى و تهذيب النّفس، يراقبون أفعالهم و سلوكياتهم، قبل مراقبة الله تعالى لهم، و يعيشون الوَجَلَ و الخَوف من أعمالهم و فعالهم، و في مُراقبة دائمة، لِئَلاّ يصدر منهم ما يسلب تلك النّعمة، و الحالة العرفانيّة التي يعيشونها مع الله تعالى شأنه. أو بعبارة اُخرى: الرّقيب الباطني يعيش معهم وعلى يقظة دائماً، بالإضافة إلى الرّقابة الخارجيّة، و خوف الله تعالى. و في الحقيقة، فإنّ الإنسان في هذه الدنيا، حاله حالَ الذي يمتلك جوهرةً ثمينةً، يريد أن يقايضها بمتاع له ولعيالِه، و من حَوالَيهِ السرّاق و قطاعُ الطّريق، و يخاف عليها من السّرقة أو البيع بِثَمن بَخْس، و إن غفل عنها لِلَحظة فسيُضَيّعها، و تذهب نفسه عليها حَسرات. 1. سورة الإنفطار، الآية 10. 2. سورة الإنفطار، الآية 12. [ 217 ] و السّائر في خطّ التّوبة و المراقبة، يعيش الحالة هذه أيضاً، فإنّ الشّياطين من الجِنّ و الإنس مُترصّدون لِغوايته، هذا بالإضافة إلى النّفس الأمّارة، و هوى النّفس، فإذا لم يُراقب نفسه و أعماله، فلا يأمن معها، مِنْ أن تسرق جوهرة الإيمان و التّقوى، و ينتقل من هذه الدنيا، خالي الوفاض وصفَر اليدين، و في الآيات و الرّوايات إشاراتٌ كثيرةٌ، و تلميحاتٌ متنوعةٌ حول هذه المرحلة، ومنها: 1 ـ الآية (14) من سورة العَلَق: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى ). فهي إشارةٌ إلى مراقبة الله تعالى لَه، وعليه مُراقبة أعماله أيضاً. وَوَجَّه في آيَة اُخرى الخطاب لِلمؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اْتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد وَ آتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون )(1). فَجُملة: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد... )، تبيّن لنا في الحقيقة مفهوم المراقبة للنفس، على مستوى السّلوك و العمل. وَ وَرَد نفس المعنى، ولكن بشكل مُقتضب، في سورة عَبَس، الآية (24): (فَلْيَنْظُرْ آلاِْنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ )، (من الحلال والحرام)(2). 2 ـ ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، في تفسير الإحسان في الآية: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ )، فقال: "الإحسانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَراهُ فَإِنْ لَم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَراكَ"(3). و من الطّبيعي فإنّ المُعايشة مع هذه الحقيقة، و هي أنّ البّاري تعالى معنا أينما كُنّا، و الرّقيب علينا، من شأنه أن يخلق فينا روح الرّقابة، و نكون معها دائبين على الإنسجام، مع خطّ الرّسالة من موقع الإلتزام. 3 ـ ورد حديثٌ عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال: "يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُهَيمِناً عَلى 1. سورة الحشر، الآية 18. 2. هذا على ما جاء في بعض التّفاسير، وقد جاء في تفاسير اُخرى، أنّ المقصود هو النّظر و الإعتبار بخلقة الله تعالى، لإنكشاف الآيات و الملاحظات التّوحيدية عند الإنسان، ولا تنافي بين التّفسيرين. 3. كنز العمّال، ج3، ص22، ح5254; بحار الأنوار، ج25، ص204. [ 218 ] نَفْسِهِ مُراقِبَاً قَلْبَهُ، حافِظاً لِسانَهُ"(1). 4 ـ جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام): "مَنْ رعى قَلْبَهُ عَنِ الغَفلَةِ وَنَفْسَهُ عَنِ الشّهْوَةِ وَعَقْلَهُ عَنِ الجَهْلِ، فَقَدْ دَخَلَ في دِيوانِ المتَنَبِّهينَ ثُمَّ مَنْ رعى عَمَلَهُ عَنِ الهوى، وَدِيْنَهُ عَنِ البِدعَةِ وَ مالَهُ عَنِ الحَرامِ; فَهُوَ مِنْ جُملَةِ الصَّالِحِينَ"(2). 5 ـ ما ورد في الحديث القُدسي: "بُؤساً لِلقانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي وَيا بُؤساً لَمَنْ عصاني وَلمْ يُراقِبُني"(3). 6 ـ جاء في إحدى خطب أمير المؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال: "فَرَحِمَ اللهُ إمرءاً رَاقَبَ رَبَّهُ وَتَنكَّبَ ذَنْبَهُ، وَكابَرَ هَواهُ ، وَكَذَّبَ مُناهُ"(4). 7 ـ وقد ورد في نهج البلاغة أيضاً: "فإتَّقُوا اللهَ عِبـادَ اللهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرَ قَلْبَهُ... وَرَاقَبَ فِي يَومِهِ غَدَهُ"(5). نعم فإنّ "الرقابة" على النفس أو المُراقبة لله تعالى، أو ليوم القيامة، كلّها تعكس حقيقةً واحدةً، ألا و هي النّظارة و الرّقابة الفاحصة الدّقيقة الشّديدة للإنسان على أعماله، في كلّ حال و زمان و مكان. و خلاصة القول: إنّ السّائر إلى الله تعالى، و بعد "المشارطة" مع نفسه وربّه، وبعد تهذيب النفس وتربيتها على طاعة الله و عبوديّته، عليه المراقبة والمداومة على العهد الذي قطعه على نفسه في خطّ التوبة، كالّدائن الذي يطلب من مدينه وفاء ديونه، فأيّ غفلة عن مخاطر المسير، ستعود عليه بالضّرر الفاحش، و تؤخره عن الرّكب كثيراً. -- الخطوة الرّابعة: المحاسبة رابع خطوة ذكرها العلماء والسالكون في هذا المجال، هي: "المحاسبة" للنفس، في كلّ يوم أو 1. غُرر الحِكَم. 2. بحار الأنوار، ج97، ص68. 3. المصدر السابق، ج74، ص349. 4. اُصول الكافي، ج2، ص67. 5. نهج البلاغة، الخطبة 83، "الخطبة الغرّاء". [ 219 ] كلّ شهر أو كلّ سنة، فَلْينظر الإنسان ماذا قدّم من أعمال حسنة، أو إرتكب من أعمال قبيحة، و يُفكر في ما بَدَر منه، من طاعة أو عصيان لله تعالى، أو لهوى النّفس. فيحاسب نفسه حساباً عسيراً، كالتّاجر الذي يحسب فوائده و عوائده من تجارته التي إتّجر بها، و هل عادت عليه بالنّفع أم الضرر؟. فكذلك السّائر إلى الله تعالى في خطّ الإيمان و التوبة، عليه أن يُحاسب نفسه بأدقّ ممّا يفعله التاجر مع أمواله وتجارته. و الُمحاسبة للدين أو للدنيا، لا تخلو من فائدتين: إذا بيّنت الفاتورة، الرّبح الوفير، فَهو دليلٌ على صحّةِ العمل و الدّوام عليه، وإذا ما بيّنت العكس، فهو الدّليل على الخطأ و الخطر، فربّما تلاعب أحد موظّفيه، أو خانه بالإختلاس وما شابهها من الاُمور، فعليه الإسراع في التثبّت و التّفحص والإصلاح. و تخبرنا الآيات الكريمة، عن وجود النّظم و الحسابات الدقيقة في عالم الوجود، وتدعو الإنسان للتّفكر فيها جيّداً، ومنها: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا في الْمِيزَانِ )(1). ونقرأ في آية اُخرى:(وَكُلُّ شَيْء عِنْدَهُ بِمِقْدَار )(2). وكذلك: (وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَعْلُوم )(3). و من جهة اُخرى، نجد أنّ القرآن الكريم، قد أخبر في آيات متعددة، عن وجود حساب دقيق في يوم القيامة، كما ذكر على لسان لُقمان الحكيم لإبنه: (يَا بُنَىَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّة مِنْ خَرْدَل فَتَكُنْ في صَخْرَة أَوْ في السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الاَْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ )(4). وكذلك: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ )(5). 1. سورة الرّحمن، الآية 7 و 8. 2. سورة الرّعد، الآية 8. 3. سورة الحِجْر، الآية 21. 4. سورة لقمان، الآية 16. 5. سورة البقرة، الآية 282. [ 220 ] ومسألة الحساب هذه مهمّةٌ، لدرجة أنّ أحد أسماء يوم القيامةِ، هو: "يوم الحِساب": (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ )(1). و يكون الإنسان هو الحَسيب على نفسه: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )(2). و بالنّظر لهذه الاُمور و الظّروف، فإنّ كلّ شيء في الدنيا والآخرة يكون بِحساب، فكيف يمكن لإنسان أن يغفل عن مُحاسبة نفسه، ومن وراءه يومٌ ثقيلٌ، و كلّ شيء بميزان و مقدار: و من يعمل مثقالَ ذرّة خيراً يَرَه، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يَره) فكلّ ما ذكر آنفاً، يحمل إلينا رسالةً و دعوة، لإثارة عناصر الإنتباه وعدم الغفلة عن الحساب و المحاسبة، فأنت إذا أردت أن تكون مُخفّاً في يوم الحساب، عليك الإسراع بمحاسبة نفسك هنا في الدنيا، قبل أن تحاسب في الاُخرى، و يقال فيها: ولاتَ حينَ مناص. ا ص221 - ص233أمّا الروايات، فقد أشبعت الأمر بحثاً، و منها: 1 ـ ما ورد عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، في حديثه المعروف: "حاسِبُوا أَنْفُسَكُم قَبلَ أَنْ تُحاسَبُوا، وَ زِنوها قَبْلَ أَنْ تُوزَنوا وَتَجَهَّزُوا للعَرضِ الأَكْبَرِ"(3). 2 ـ و عنه(صلى الله عليه وآله) مخاطباً أبا ذر(رحمه الله): "يا أَباذَر حاسِبْ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ تُحاسَبُ فَإِنَّهُ أَهونُ لِحِسابِكَ غَداً وَزِنُ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُ"(4). 3 ـ وَ وَرد عن علي(عليه السلام) أنّه قال: "ما أَحَقُّ للإنسانِ أَنْ تَكُونَ لَهُ ساعَةٌ لا يَشْغُلُهُ شاغِلٌ يُحاسِبُ فِيها نَفْسَهُ، فَيَنظُرِ فِيما إكْتَسَبَ لَها وَ عَلَيها في لَيلِها وَ نَهارِها"(5). فهذا الحديث يبيّن لنا بوضوح، مسألة المحاسبة في ساعات الفراغ، وهي من الاُمور الجديرة بالإنسان الكامل، الذي يعيش همّ المسؤوليّة، في دائرة حركته المنفتحة على الله تعالى. 4 ـ ما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام)، بنفس المعنى ولكن بشكل آخر، فيقول(عليه السلام):"حَقٌ عَلى 1. سورة ص، الآية 26. 2. سورة الإسراء، الآية 14. 3. بحار الأنوار، ج 97، ص 73. 4. أمالي الطوسي، (مطابقاً لما نقل عن ميران الحكمة) ج8، ص609. 5. مستدرك الوسائل، ج12، ص154. [ 221 ] كُلِّ مُسْلِم يَعْرِفُنا، أَنْ يُعْرِضَ عَمَلَهُ في كُلِّ يَوم وَلَيلَة عَلى نَفْسِهِ، فَيَكُونَ مُحاسِبَ نَفْسِهِ، فَإنّ رَأَى حَسَنَةً استَزادَ مِنْها وَ إِنْ رأَى سَيِّئَةً إِسْتَغْفَرَ مِنْها لِئلاّ يُخْزى يَومَ القِيامَةِ"(1). 5 ـ ما نُقل عن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام): "يا هُشامُ لَيسَ مِنّا مَنْ لَمْ يُحاسِبْ نَفْسَهُ فِي كُلِّ يَوم، فإنْ عَمِلَ حَسَنَةً استَزَادَ مِنْها وَ إِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً إِسْتَغْفَرَ اللهُ مِنْها وَ تابَ"(2). فالروايات جمّةٌ في هذا المجال ومن أراد الإكثار، عليه مراجعة مستدرك الوسائل: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس(3). هذه الرّوايات كلّها تبيّن أهميّة المسألة في الإسلام، و أنّ مَنْ لم يحاسب نفسه فهو ليس من أتباع الأئمّة(عليهم السلام)، الحقيقيين!. و كما أشارت الرّوايات إلى فلسفة وحكمة هذا الأمر، فهو يزيد من الحسنات، و يمنع الإنسان من السّقوط في وادي الهلاك والقبائح، و يُساعده في إنقاذه من بحر الغفلة و الضّياع، و هَلاّ ساوينا الاُمور الماديّة بالمعنويّة الروحيّة، ففي الماديّات يُحسب حساب كلّ شيء، ولكلٍّ دفتره الخاص به، دفترٌ: يومي، و سنوي، و شهري، و للمخزن...وو. ولسنا مُستعدّين من وضع ولو ورقة واحدة نحاسب فيها أنفسنا، على ما فعلت في دائرة الطّاعة و المعصية، للهِ تعالى!!. هذا مع وجود فرق كبير بين الأمرين، و لا يُقاس أحدهما بالآخر، أو كما يقال شَتّان ما بين الثَّرى و الثُّريّا، فنقرأ حديثاً عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، يقول: "لا يَكُونَ العَبدُ مُؤمناً حتّى يُحاسِبَ نَفْسَهُ أَشد مِنْ مُحاسَبَةِ الشّريكِ شَرِيكَهُ، وَالسَّيِّدِ عَبْدَهُ"(4). فهذا الموضوع مهم لِلغاية، إلى درجة أنّ العلماء كتبوا فيه كتباً عديدةً، و منهم السيد إبن طاووس الحلي(رحمه الله) المتوفي فى سنة "664 للهجرة" في كتابه محاسبة النّفس، و كتاب محاسبة النّفس في إصلاح عمل اليوم و الإعتذار من الأمس، للمرحوم الحاج ميرزا علي الحائري 1. تحف العقول، ص221. 2. مستدرك الوسائل، ج12، ص153. 3. المصدر السابق، ج12، ص152 ـ 156; اصول الكافي، ج2، باب محاسبة العمل، ص453، ح2. 4. محاسبة النّفس، لإبن طاووس(رحمه الله)، ص14; بحار الأنوار، ج67، ص72، ح22. [ 222 ] المرعشي، (المتوفى في سنة 1344 للهجرة)، و محاسبة النّفس للسيّد علي المرعشي، المتوفى في سنة (1080 للهجرة(1)). ويجدر هنا الإشارة إلى عدّة ملاحظات: 1 ـ كيفيّة محاسبة النّفس و إستنطاقها و أفضل طريق لذلك، ما ورد عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)، نقلاً عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، فقال: "أَكْيَسَ الكيَسِينَ مَنْ حاسَبَ نَفْسَهُ..." فَقَالَوا: يا أَميرِ المُؤمِنِينَ وَكَيفَ يُحاسَبُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ؟. قال: إذا أَصْبَحَ ثُمَّ أَمسى رَجَعَ إِلى نَفْسِهِ وَ قَالَ: يا نَفسُ إِنَّ هذا يَومٌ مضى عَلَيكِ لا يَعُودُ إِلَيكِ أَبَداً، وَ اللهُ سائِلُكِ عَنْهُ فَيما أَفْنَيتَهُ، فَما الَّذِي عَمِلْتَ فِيهِ؟ أَذَكَرْتَ اللهَ أَمْ حَمَدْتَه؟ أَقَضَيتِ حَقَّ أَخ مُؤمِن؟ أَنْفَّسْتَ عَنْهُ كُربَتَهُ؟ أَحَفِظتِيهِ بِظَهرِ الغَيبِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِه؟ أَحَفِظتِيهِ بَعْدَ المَوتِ فِي مُخلِّفِيهِ؟ أَكَفَفتِ عَنْهُ غَيبَةِ أَخ مُؤمِنْ بِفَضْلِ جـاهَك؟ أَأعَنْتَ مُسلِماً؟ مـا الَّذِي صَنَعْتِ فِيهِ؟ فَيَذكُرَ مـا كـانَ مِنْهُ، فإنْ ذَكَرَ أَنّهُ جَرى مِنهُ خَيرَ حَمَدَ اللهَ عَزَّوَجَلَّ وَكَبَّرَهُ عَلى تَوفِيقِهِ، وإِنْ ذَكرَ مَعْصِيةً أَو تَقْصِيراً اسْتَغْفَرَ اللهَ عَزَّوَجَلَّ وَعَزَمَ عَلى تَرْكِ مَعـاوَدَتَهُ وَمحـا ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِتَجْدِيد الصّلاةِ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ الطَّيّبِينَ وَعَرَضَ بَيعَةَ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عَلَِى نَفْسِهِ وَقَبُولِهـا، وإِعـادَة لَعَنَ شـانِئِيهِ وَأَعدَائِهِ، وَدَافِعِيه عَنْ حُقُوقِهِ، فَإِذا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ: لَستُ اُنـاقِشُكَ فِي شيء مِنْ الذُّنُوبِ مَعَ مُوالاتِكَ أَولِيائِي وَمُعـادَاتِك أَعدَائِي"(2). نعم فإنّها أفضل طريقة لمحاسبة النّفس، و إلجامها عن الّتمادي في خطّ العصيان و الّتمرد. 2 ـ ما هي معطيات محاسبة النّفس؟ الإجابة على هذا السؤال، ظهرت جليةً في طيّات بُحوثنا السّابقة، و الحَريّ بنا هنا 1. الذّريعة، ج2. 2. بحار الأنوار، ج70، ص69 و 70. [ 223 ] الإستعانة بالأحاديث التي وردت عنهم(عليهم السلام)، منها: ما ورد عن الإمام علي(عليه السلام): "مَنْ حاسَبَ نَفْسَهُ وَقَفَ عَلَى عُيوبِهِ، وَ أَحاطَ بِذُنُوبِهِ، و استَقالَ الذُّنُوبَ وَأَصْلَحَ العُيوبَ"(1). و أيضاً عنه(عليه السلام): "مَنْ حاسَبَ نَفْسَهُ سَعَدَ"(2). و عنه(عليه السلام): "ثَمَرَةُ الُمحاسِبِةِ صلاحُ النَّفْسِ"(3). و يقول بعض العلماء في هذا الفن، إنّ المحاسبة يجب أن تكون شبيهة، بالمحاسبة بين الشّريكين، فإذا ما وجد النّفع إستمر معه وبارك في خُطاه، وإلاّ فسيكون ضامناً للخسارة في الحاضر والمستقبل. و أهمّ رأسمال عند الإنسان: هو عمره، فإذا ما قضاه بالخير والمنفعة، فهو الفائز، ولكنه سوف يعيش الخسارة في إرتكابه لِلذنوب، فموسم هذه التّجارة هي أيّامه، و شريكه في المعاملة هو النّفس الأمّارة. فأوّل ما يطالبها بالفرائض، فإذا ما أدّتها فليشكر الباري تعالى، وليبارك خُطاه، و إذا ما ضيّعت فريضة ما، فليطالبها بقضائها وإذا كان فيها نقص، فليجبرها بالنّوافل، وعند المعصية يطالبها بالتّكفير عنها، كما يفعل التاجر مع شريكه، في أتفه الاُمور و المبالغ التي لا قيمة لها، كي لا يُغبن في المعاملة، وخصوصاً أنّ الإنسان، يواجه عدوّاً لدوداً مخادعاً، و هو النفس الأمّارة، و ليحاسب نفسه كما تحاسبه الملائكة، في تداعيات أفكاره، وخواطر نفسه في قيامه و في قُعوده، ولماذا تكلّم، ولماذا سكن؟، وهكذا في كلّ ساعة و كلِّ يوم، و على كلّ فعل و عمل، وإذا ما تهاون في الأمر، فسوف تتراكم على قلبه و روحه الذّنوب و العيوب، و الأنكى من ذلك أنّ الإنسان ينسى ما يفعله بسهولة، ولكنّ الكرام الكاتبين، لا يغفلون ولا يفترون في عملهم، فقال الباري تعالى: (أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسَوهُ )(4)(5). 1. غُرر الحِكَم. 2. المستدرك، ج126، ص154. 3. غُرر الحِكَم. 4. سورة المجادلة، الآية 6. 5. المحجّة البيضاء، ج8، ص168، (مع التلخيص). [ 224 ] ومسك الخِتام، نورد حديثاً يبيّن كيفيّة الحساب في يوم القيامة، عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "لا تَزُولُ قَدَما عَبْد يَومَ الَقيامَةِ، حَتّى يُسْئَلَ عَنْ أَرْبَع: عَنْ عُمْرِهِ فِي ما أَفناهُ وَعَنْ شَبابِهِ فَي ما أَبلاهُ، وَ عَنْ مالِهِ مِنْ أَينَ كَسَبَهُ وَ في ما أَنْفَقَهُ وَعَنْ حُبِّنا أَهْلَ البَيتِ"(1). -- الخطوة الخامسة: المعاتبة والمعاقبة بعد "المحاسبة"، يأتي دور المُعاتبة و المُعاقبة للنّفس على أخطائها وأغلاطها، فالحساب بدون إظهار ردّ الفعل، لا فائدة فيه ولا ثمرة، ونتيجته ستكون عكسيةً، بل تحمل النّفس على الجرأة والجسارة و العناد، في حركة الحياة والواقع، فكما يحاسب الرّئيس موظفيه عن تقصيرهم، و يعاقبهم بنوع ما، وكلٌّ حسب حجم تقصيره، فكذلك يفعل السّائرون في طريق الباري، فإذا ما جَمَحَت بهم أنفسهم يوماً، فسوف يعاقبونها لجرأتها على سيّدها ومولاها. و أكّد القرآن الكريم على هذه المسألة، فأقسَم بالنّفسِ اللّوامة، لأهميتها: (لا اُقْسِمُ بِآلنَّفْسِ اللَّوامَة )(2)،(3). و نحن نعلم أنّ النّفس اللوامة، هي الضّمير الحي الذي يردع صاحبه عن إرتكاب المعاصي، و هو نوع من العِقاب للنفس. و من الواضح أنّ العقاب للنفس له درجاتٌ و مراتبٌ، و أوّل ما يبدأ من حالة الملامة، ثمّ يشدّد العقاب، وذلك بحرمان النّفس من بعض اللذائذ الدنيوية لفترة من الزّمن. و أشار القرآن الكريم، لنموذج رائع حول هذا الموضوع، و ذلك بالنّسبة للثلاثة الذين 1. خصال الصدوق، ص253. 2. سورة القيامة، الآية 2. 3. المعروف بين المفسّرين: أنّ "لا" زائدة وللتأكيد، والجدير بالملاحظة أنّه وردت تفسيرات مختلفة "للنفس اللّوامة"، فبعض قال: أنّها إشارةٌ للكفّار و العاصين الذين يلومون أنفسهم في يوم القيامة، وبعض أشاروا إليهم في هذه الدنيا، أنّهم يستحقون الملامة في الدنيا قبل الآخرة، ولكنّ المعنى: "الوجدان أو الضمير المستيقظ"، أنسب من الجميع، و قَسَمٌ القرآن بهاٌ دليلٌ على أفضليّتها على باقي الاُمور. [ 225 ] تخلّفوا في غزوة تَبوك، و أمر الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، الناس بمقاطعتهم في كلّ شيء، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فعاقبوا أنفسهم على فعلتهم، و إنشغلوا بالتّوبة، و إنعزلوا عن الناس بالكامل، وبعد مدّة تاب الله تعالى عليهم، ونزلت الآية الكريمة: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الاَْرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )(1). فجملة: "وضاقت عليهم أنفسهم"، ربّما تكون إشارةً إلى مسألة: "معاقبة النّفس"، بالعزلة التي إختاروها لأنفسهم، فقبلها الباري تعالى منهم، وَ ورد في شأن النّزول للآية (102) من سورة التوبة: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). فهي تشير إلى قصة: "أبو لُبابة الأنصاري"، و هو أحد أصحاب النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، ولكنّه تهاوَن عن نَصرة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، في غزوة تَبوك، و بعدها ندم أشدّ الندم، فأراد أن يُكفّر عن فِعلته، فذهب إلى مسجد النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، وربط نفسه إلى أحد أعمدته، وأقسم أنّ لا يطلق نفسه إلاّ بموافقة الله و رسوله، أو يتوب الله تعالى عليه، فبقي على هذه الصورة حتى تاب الله تعالى عليه، ونزلت الآية، وصرّحت بقبول الله تعالى لِتوبته. و من الواضح، أنّ أبا لُبابة كان قد تحرك من موقع مُحاسبة النفس، و مُعاقبتها على فِعلتها، و هو دليلٌ على أنّ السّير و السّلوك إلى الله تعالى، كان موجوداً على عهد الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله). وأمّا جملة: (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئَاً )، فهي أيضاً ربّما تكون إشارةً لذلك المعنى أيضاً، و أَتحفتنا الرّوايات أيضاً، وأرشدتنا إلى موضوع بحثنا، ومنها: 1 ـ ما ورد عن علي(عليه السلام)، أنّ قال في أوصاف المتّقين، في نهج البلاغة: "إِن اسْتَصْعَبَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ في ما تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِها سُؤلَها فِي ما تُحِبُّ"(2). و المقصود منه، أن يمنع نفسه في حالة جموحها، من النوم و الرّاحة و الأكل و الشّرب، 1. سورة التوبة، الآية 118. 2. نهج البلاغة، الخطبة 193. [ 226 ] لتتأدّب و لتنصاع إليه. 2 ـ ما ورد في غُرر الحِكَم، عن ذلك الإمام(عليه السلام) الهمام، أنّه قال: "إِذا صَعُبَتْ عَلَيكَ نَفْسُكَ فاصْعَبْ لَها تَذِلُّ لَك". 3 ـ و عنه(عليه السلام): "مَنْ ذَمَّ نَفْسَهُ أَصلَحَها، وَمَنْ مَدحَ نَفْسَهُ ذَبَحها"(1) 4 ـ و عنه(عليه السلام)، قال: "دَواءُ النَّفْسِ الصَّومُ عَنِ الهوى وَالحَمِيةُ عَنْ لَذّاتِ الدُّنيا"(2). و يحدّثنا التأريخ عن نماذج كثيرة من أصحاب النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و العلماء الكبار، و المؤمنين المخُلصين، الذين إذا مسّهم إغواء الشّيطان، و إرتكبوا بعض الذنوب، كانوا يسارعون في وضع أنفسهم تحت طائلة العقاب، لئلاّ يتكرّر هذا العمل منهم مرّةً اُخرى في المستقبل، و منها: 1 ـ ورد أنّ أحد أصحاب النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و إسمه "ثَعلبة"(3)، كان من الأنصار، و كان يُؤاخي "سعيد بن عبدالرحمن"، و هو من المهاجرين، و صاحَبَ سعيدٌ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)في إحدى غزواته، و خَلّف ثعلبة في المدينة، مُعتمداً عليه في حلّ مشاكل بيته و عائلته، و ما يحتاجونه من باقي الاُمور المعيشيّة، و في يوم ما، إحتاجت امرأة "سعيد" إلى شيء، فوقفت خلف الباب، تتحدّث مع ثعلبة في ذلك الأمر، فوسوس له الشّيطان في ممارسة الإثم، فكشف عن حجابها، فرآها جميلةً جدّاً،فأراد أن يضمّها إلى صدره، ولكنّها نهرته قائلة له: ما تفعل يا ثعلبة، أمِنَ الحقِّ أن يكون أخوك في الجِهاد، و أنت تُريد بأهلِهِ السّوء؟! إنتبه ثعلبةُ من نومه وغفلته، وأيقظه هذا النّداء من غيّه، فَصاحَ وفرّ على وجهه في البيداء باكياً، وهو يقول: "إِلَهِي أَنْتَ المُعرُوف بِالغُفرانِ وأَنا المَوصُوفُ بِالعِصيانِ"(4). فبقي في الصحراء مدّةً طويلةً مُعاقباً نفسه، مَضيّقاً عليها لِما صدر منه، و في قصّة طويلة 1. غُرَر الحِكَم. 2. المصدر السابق، ح 5153. 3. ثعلبة كان إسماً لعدّة من أصحاب النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و ثَعلبةُ هذا، غير ثعلبة بن حاطِب الأنصاري، الذي إمتنع عن أداء الزكاة، فطرده الرّسول و المسلمون. 4. ذكرت هذه القصة في كتب كثيرة، منها خزينة الجواهر، ص320، وكذلك في تفسير الفخر الرازي، في ذيل هذه الآية، بصورة ملخصة، ج9، ص9. [ 227 ] تحكي أنّه عاد بعدها إلى الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، وتاب على يده، فنزلت الآية أدناه لتوكيد قبول توبته، وهي الآية (135) من سورة آل عمران: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَآسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ آلذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ). 2 ـ نقل عن حالات الفقيه الكبير، المرحوم آية الله، البروجردي(قدس سره)، عندما كان يجلس للدرس مع طلابه، فربّما بَدَر منه أثناء النّقاش، أن يرفع صوته بالتّوبيخ لأحد طلاّبه، ولم يكن ذلك منه إلاّ من باب المحبّة، و علاقة الأب مع إبنه، فكان يندم مباشرةً و يعتذر، و ينذر للصوم في غَدِه ليُكفّر عن فعله، رغم أنّه لم يصدر منه ما يخالف الشّرع. 3 ـ نقلُ أحد كِبار عُلماء الأخلاق، عن أحد الوعّاظ، أنّه عندما كان يصعد على المِنبَر للوعظ و الخطابة، و قبل الشّروع كان يُسلّم على الحسين(عليه السلام)، و لا يبدأ بكلامه حتى يسمع الجواب منه(عليه السلام)، هذه الحالة المعنوية، لم تحصل لديه إلاّ بعد حادثة حدثت له مع أحد الوعّاظ، حيث قَرّر في يوم من الأيّام مع نفسه، يكسر مجلس ذلك الواعظ المعروف، بإيراده كلاماً أبلغ وأحلى من كلام ذلك الشّيخ، فتنبّه لِخَطئه، و أخذ على نفسه بعدم إرتقاء المنبر لمدّة (40) يوماً، عِقاباً لنفسه على فعلتها تلك، فاُلقي في قلبه ذلك النّور و تلك الحالة الإلهيّة.(1) و زبدة الكلام، أنّه وللحصول على النتائج و المعطيات، المرجوّة من المراقبة و المحاسبة، أن يتحرك الشّخص في عملية التّزكية، من موقع معاقبة النفس عند زلَلِها و جُموحها عن الطريق، وإلاّ فلا يمكن تَوخّي النّتائج المطلوبة في نطاق التّهذيب و التّزكية، و هذا لا يعني أننا نُمضي أعمال و فعال بعض الصّوفيين المنحرفين، كما أورد بعضها الغزالي في كتابه: "إحياء العلوم"، فما يفعلوه من أعمال خَشنة مُتهوِّرة، و سلوكيات شاذة، في دائرة معاقبة النفس و جُبران تقصيرها، لا تَمُتّ إلى الدّين بصلة، و قصدنا من المعاقبة، هي أعمالٌ مشروعةٌ في دائرة المفاهيم الإسلاميّة، كالصّوم، و مخالفة الهوى، و حرمان النفس من بعض لذّاتها المادية، التي لا تخدش في سماحة الدين ورأفته، بل هي من اُسسه. 1. و كذلك قصّة علي بن يقطين، و إبراهيم الجمّال المعروفة. [ 228 ] و كما يقول المرحوم النّراقي، في "معراج السّعادة": إذا صدرت من الشّخص مخالفةٌ; ما فعليه تأديب نفسه و ترويضها، بالعبادات الثّقيلة مثلاً، أو بإنفاق الأموال التي يحبّها ويجمعها، أو يقوم يتجويع نفسه عند أكله لِلُقمة الحرام، أو يؤدب نفسه بالسّكوت، ويمدح الشّخص الذي يغتابه، أو يجبرها بذكر الله تعالى، وإذا إستهان أو استصغر أحداً من الناس لفقره، فليكرمه بالمال الكثير، و كذلك الحال في بقيّة المعاصي، و الموبقات التي صدرت منه، ولكلٍّ بِحَسَبِه"(1). -- الخطوة السّادسة: "النيّة" و"إخلاص النيّة" تناول العلماء في بداية مباحثهم الأخلاقية، مسألة "النيّة" و "إخلاص النيّة"، و فرّقوا بينهما وقالوا: إنّ "النيّة" شيءٌ، و "إخلاصُ النيّة" شيءٌ آخر، لكنّهم لم يذكروا فروقاً واضحةً و مشخّصَةً، فأدخلوا إخلاص النيّة في مبحث النيّة، بحيث يصعب الّتمييز بينهما. و لأجل التّفريق و الّتمييز بينهما، يمكن القول: إنّ المقصود من "النيّة": هو العَزمُ و الإرادةُ الرّاسختين لفعل ما، بقطع النّظر عن الدّافع الإلهي، أو المادي الذي يقف خلفها. بالطّبع إذا أراد الإنسان أن يرى ثمرة عمله، في دائرة الواقع وحركة الحياة، فعليه أن يدخل إلى ساحة العمل و السّلوك، بإرادة قويّة، و عزم راسخ، لا تُزلزِلهُ التّحديات، و لا تهزّه الصّعاب، سواءً في نطاق تحصيل العلم، أو في الزّراعة و التجارة و السّياسة . و الخُلاصة: إنّ كلّ عمل إيجابي، نريد أن نصل به إلى النتائج المرجوّة، علينا في البداية، أن نتقدم نحو ميدان العمل و الممارسة، بقلب ثابت و إرادة بعيدة عن التّردد، و بالطبع فإنّ هذا الأمر لا يتمّ إلاّ بالتنظير له، في مرحلة سابقة، و دراسةِ كلّ جوانبه و الاُمور المحيطة به، من عوائد و نتائج إيجابيّة أو سلبيّة، و العقبات التي يمكن أن تقف بوجهه، و بعدها المُضي قُدُماً بخطى ثابتة نحو الهدف، في خطّ العمل و التّطبيق. 1. معراج السعادة، الطّبعة الجديدة، ص703، (مع شيء من التّلخيص). [ 229 ] و لأجل السّير في طريق تهذيب الأخلاق و السلوك إلى الله تعالى، نحتاج إلى نيّة جادّة، و إرادة حاسمة، لأنّ ضعف الإرادة، يمثّل أكبر عائق أمام تحقيق ما يطمح إليه الإنسان، في دائرة التّكامل الأخلاقي، فأيّ مانع يقف بوجهه، سُرعان ما يُولّي دُبُرَه و يعود أدراجَه، فالضّعف في عنصر الإرادة، بإمكانه أن يتَسرّب إلى سائر القوى الباطنيّة، و بالعكس، فإنّ القويُّ الإرادة، سيقوم بتوظيف قِواه، و ملكاته الداخليّة، و يدفعها بقوة نحو الهدف المنشود. و هذا هو الأمر، الذي عبّر عنه القرآن الكريم بـ: "العزم"، و قد سُمّي الأنبياء العظام، لعزمهم القوي، و إرادتهم الحديديّة، بـ الأنبياء أولو العزم)(1) فخاطب القرآن الكريم، الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، قائلاً: (فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكّل عَلَى اللهِ )(2). و بالنسبة لآدم(عليه السلام)، قال: (وَلَقَدْ عَهِدنا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً )(3)، حيث تناول من الشّجرة الممنوعة، ولم تكن لديه إرادةٌ قويةٌ في خطّ الطّاعة. أمّا في دائرة الرّوايات الشّريفة، فنرى أنّها توّجهت إلى عنصر العزم، و أكّدت عليه من موقع الأهميّة. ومنها: ما نقل عن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، في أدعية رجب، نقرأ: "وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَفضَلَ زَادِ الرَّاحِلِ إِلَيكَ عَزْمُ إِرادَة يَخْتارُكَ بِها وَ قَدْ ناجاكَ بِعَزمِ الإِرادَة قَلبي"(4). و في حديث آخر عن الصّادق(عليه السلام)، قال: "إِنّما قَدَّرَ اللهُ عَوْنَ العِبادِ عَلى قَدْرِ نَيّاتِهِم، فَمَن صَحَّتْ نِيَّتَهُ تَمَّ عَوْنُ اللهِ لَهُ، وَ مَنْ قَصُرَتْ نِيَّتَهُ قَصُرَ عَنْهُ العَوْنَ بِقَدْرِ الَّذِي قَصَّرَهُ"(5). و في حديث آخر، عنه(عليه السلام): "ما ضَعُفَ بَدَنٌ عَمّا قَوِيتْ عَلَيهِ النِّيَّةُ"(6). فهذا الحديث، يبيّن لنا فاعليّة الإرادة، و دورها في الصّعود بالقوى الجسمانيّة، إلى أبعد الحدود والمراتب في حركة الإنسان. 1. ورد في مقاييس اللغة: أن العزم في الأصل بمعنى القطع، و الإرادة القاطعة اُخذت منه. 2. سورة آل عمران، الآية 159. 3. سورة طه، الآية 115. 4. نقله المحدّث القمي في مفاتيحه، عن إبن طاووس رحمهما الله تعالى، و هو في أعمال شهر رجب المُرجّب. 5. بحار الأنوار، ج67، ص211. 6. المصدر السابق، ص205، ح14. [ 230 ] و من المعاني الاُخرى "لِلنيّة"، هو إختلاف الدّوافع، بالنّسبة لِلأعمال الّتي تكون على هيئة واحدة في الظّاهر، فالذّهاب للجهاد، يمكن أن يكون الباعث له هو كسب الغنائم، أو الإستعلاء على النّاس، أو يكون دافِعُهُ نصرة الحقّ، و دفع الظّلم، و إطفاء نار الفِتن، و أمثال ذلك. فالذّهاب لِلحرب، واحدٌ في الشّكل و الظّاهر، ولكن شتّان بين النّوايا السّليمة، و بين النّوايا المغرضة. و لأجل ذلك، أتت الأوامر بإصلاح النيّة، و تنقيتها من الشّوائب، قبل السّلوك في أيّ طريق، و ما السّالك في خطّ الله، و الكمال المعنوي بِمُستثنى عن ذلك، فهل أنّ هدفه من سلوك سبيل التهذيب والرياضة، هو التّكامل المعنوي، و الوصال الحقيقي، أم أنّه يريد كسب عنصر القّوة في عالم النفس، و التّسلط على ما وراء الطّبيعة، ليشار إليه بِالبَنان؟!. و ما وردنا من حديث: "إِنّما الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ"، هو إشارةٌ لهذا المعنى، وَ وَرد الحديث في موسوعة: بحار الأنوار، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقال: "إِنّما الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ و إنَّما لِكُلِّ امرِء ما نَوى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَ مَنْ كانَتْ هِجرَتُهُ إِلى دُنيا يُصِيبَها أو إِمرَأَة يَتَزَوَّجَهـا فَهِجْرَتُهُ إِلى ما هاجَرَ إِلَيهِ"(1). و كذلك الحديث الوارد عن علي(عليه السلام)، حيث يقول: "عَلى قَدْرِ النِّيَّةِ تَكُونُ مِنَ الله عَطِيَّةٌ"(2). فهو إشارةٌ إلى نفس المعنى الآنف الذكر. -- و يُستفاد مما تقدم، أنّه ولأجل الوصول إلى المقاصد والأهداف المنشودة، في أيّ أمر و عمل، و خصوصاً المصيريّة منها، علينا أن نتحرّك في دائرة العمل، بإرادة قويّة و عزم راسخ، في مُواجهة التحدّيات الصّعبة، لتحقيق الأهداف المرسومة، و بدون ذلك، سيحل فينا عنصر اليأس والحيرة و الضّياع. وكذلك هو حال السّائر في طريق تهذيب النّفس، و إصلاح الخَلل في واقعه الداخلي، عليه البِدء بإرادة حديديّة، و يدعمها بالتوكّل على الباري تعالى، في عمليّة السّلوك المعنوي، ويمكن 1. بحار الأنوار، ج67، ص211، وورد في هامشه، أن هذا الحديث متفق عليه عند جميع المسلمين، ثم يشير إلى كلام البخاري في صحيحه، في كتاب الإيمان، ص23. 2. غُرر الحِكَم، ح1594. [ 231 ] أن يتساءل المرءُ عن كيفيّةِ تَحصيل هذه الإرادة القويّة، في واقعه الدّاخلي و النّفسي. و الجواب واضح جِدّاً، فَنفس الهدفِ المنشودِ، هو الحافز الأصلي الذي يدفع الإنسان نَحوه، فكُلّما كان الهدف سامِياً، كان السّير إليه أقوى وأشد، والخُطى نَحوه أثبت. فإذا أذعن الإنسان لهدف الحقيقة، و هيَ: أنّ وجوده، و الهدف من خلقته، ليس هو إلاّ تهذيب الأخلاق و القربُ من الله تعالى، و بِغَفلته أو تَغافُله عنها، سيقع في مستنقع الرّذائل، و ينحدر في وادي الظّلمات، فإذا صدّق تلك الحقيقة، و تعمّق فيها، أكثر و أكثر، فسوف يسير على بصيرة من أمره، ثابتَ الخُطى، هادىءَ البال، مرتاحَ الضّمير، رابطَ الجّأش، بل وأكثر من ذلك، سيفدي روحه في هذا السّبيل، و يكون مِصداقاً لـ : (عَجّلْتُ إليك رَبِّ لِتَرضى ). و يمكن القول في جملة واحدة، أنّ الإرادة القويّة منشؤها المعرفة الكاملة، من موقع الوضوح في الرّؤية و سمّو الهدف، في وعي الإنسان. -- الإخلاص: المراد من " الإخلاص"، هو: إخلاص النيّة، و أن يكون الهدف، في دائرة الفكر و السّلوك: هو الله تعالى فقط. و قد يكون هناك أشخاص من ذوي الإرادة القويّة، تمنحهم القوّة للوصول إلى أهدافهم، إلاّ أنّ الدّافع الحقيقي لهم، هو: النّفع المادي و المصلحة الذّاتية، ولكنّ أولياء الله و السّالكين في خطّ الحقّ و الإيمان، يتمتعون بإخلاص النيّة لله تعالى، إلى جانب الإرادة القويّة. و نرى في القرآن الكريم و الرّوايات الإسلاميّة، أن عنصر: "الإخلاص"، إلى درجة من الأهميّة، بحيث يُعدّ العامل الأساس في حركة الإنسان و الحياة، للفوز في الدنيا و الآخرة، و كلّ عمل في الإسلام، لا يقبل إلاّ إذا توفّر عنصر الإخلاص لله تعالى، هذا من جهة: و من جهة اُخرى: نرى أنّ الإخلاص يعدّ من أصعب الاُمور، ولا يصل إلى الدّرجة العليا من الإخلاص إلاّ المقرّبون، رغم أنّ حالة الإخلاص محمودة في أيّ مرحلة و مرتبة. [ 232 ] و لنرجع الآن لِلقرآن الكريم، لنستوحي من آياته مسألة الإخلاص. فبعض الآيات تتحدث عن المخلِصين، و البعض الآخر عن المخلَصين من موقع الثناء، و الّتمجيد بهم، و منها: 1 ـ في الآية (5) من سورة البيّنة: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ). حيث تتبيّن أهميّة هذا الموضوع، بالنّظر إلى أنّ الدّين له مفهومٌ واسعٌ يستوعب في إطاره، كلّ العقائد و الأعمال الباطنيّة و الخارجيّة، فالضّمير في: وما اُمروا، يعود على جميع أتباع المذاهب الإلهيّة والأديان السماوية، و الإخلاص و الصلاة و الزكاة، تمثّل: عناصر مشتركة بين الجميع، فهذا التّعبير في الآية، يبيّن حقيقةً واحدةً ألا و هي أنّ جميع الأوامر الإلهيّة مستقاةٌ من حقيقة التّوحيد و الإخلاص، في خطّ الطّاعة و العبوديّة. 2 ـ وفي آية اُخرى، نجد أنّ القرآن الكريم يوجّه خطابه إلى جميع المسلمين، و يقول: (فَآدْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )(1). 3 ـ و في مكان آخر، يخاطب الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و يقول: (قُلْ إِنّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ )(2). ويُستشف من هذه الآيات و آيات اُخرى، أنّ الإخلاص هو أساس الدّين و دعامته، التي يرتكز عليها في عمليّة تثبيت الإنسان، في خطّ الإيمان و الإنفتاح على الله تعالى. و سنتعرّض لِشرح معنى المخلِصين و المخلَصين، و الفرق بينهما في ما بعد، ولكن توجد هنا عباراتٌ على درجة من الأهميّة، على مستوى المفاهيم القرآنية: 1 ـ الآية: (39 و 40) من سورة الحِجر، تتحدثان عن الشيطان، بعد ما طرد من رحمة الله سبحانه إلى الأبد، فقال بعناد: (وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الُْمخْلَصِينَ ). فتبيّن هذه الآية، حالة المخلَصين من عباده، و أنّها إلى درجة من القوّة و الإستحكام، حتى الشّيطان قد يأس منهم. 2 ـ الآية: (39 و40) من سورة الصافات، تتحدثان عن وعد الله تعالى لعباده المخلَصين، 1. سورة غافر، الآية 14. 2. سورة الزّمر، الآية 11. [ 233 ] بثواب لا يعلمه إلاّ الباري تعالى، فيقول: (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الُْمخْلَصِينَ ). 3 ـ الآية: (127 و 128) من سورة الصافات، أيضاً صعدت بمقام المخلَصين، إلى درجة أنّهم معفوّون من الحساب والحضور في المحكمة الإلهيّة، ويدخلون الجنّة مباشرة. 4 ـ الآية: (159 و 160) من نفس السورة، وصفت المخلَصين، بأنّهم الوحيدون الذين يصحّ منهم وصف الذات المقدسة، ممّا يدلّ على عمق معرفتهم الحقيقة بحقيقة الاُلوهيّة: (سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الُْمخْلَصِينَ ). فوصفهم للهِ، لا إشكال فيه. 5 ـ الآية: (24) من سورة يوسف، تحدّثت عن الحصانة الإلهيّة للنبي يوسف(عليه السلام)، في مقابل وساوس إمرأة العزيز الشّيطانيّة، فقال: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُْمخْلَصِينَ ). ا ص234 - ص246أمّا ما الفرق بين المخلِصين والمخلَصين؟، هنا نجد تفسيراتٌ كثيرةٌ، و يمكن القول أنّ أفضل هذه التّفاسير، هو الذي يقول: أنّ "المخلِص" هو الذي يتحرك في طريق الإخلاص لله تعالى، بعيداً عن كلّ الشّوائب و الأدران و المقاصد غير الإلهيّة، في دائرة الفكر والنيّة، و يتحرك بعيداً عن الرّذائل و القبائح، في دائرة الفعل والمُمارسة، أمّا "المخلَصين"، فهو الذي تحضره العناية الربانيّة، و المدد الإلهي، لرفع آخر شائبة من قلبه، و يشمله لطف الربّ لتخليصه من كلّ ما لا يحب و يرضى. وتوضيح ذلك: إنّ الشّوائب التي تصيب قلب الإنسان ووجوده على نوعين: نوعٌ يكون الإنسان منها على بصيرة، و يسعى لإزالتها من واقع وجوده، بإخلاص النيّة والعقيدة والعمل، ويُوفّق في مسعاه. أمّا النّوع الآخر، فهو خفي لا يحسّ به الإنسان في مسارب النّفس و الرّوح، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: "إِنَّ الشِّركَ أَخفَى مِنْ دَبِيبِ الَّنملِ عَلى صَخْرَة سَوداء في لَيْلَة ظَلْماء"(1). 1. بحار الأنوار، ج69، ص93. [ 234 ] فهنا لا يمكن العبور من هذه المطبّات، إلاّ بتوفيق من الباري تعالى، و تسديد إلهي يشمل حال السّائرين إليه، و بدونه ستبقى الشّوائب عالقة في القلب و النّفس، و كأنّ الباري تعالى يريد أن يُتحف هؤلاء المخلِصين، الذين لم يتخلّصوا تماماً من عَلَق الشّوائب، و وصلوا بالقرب من النّهاية، بأن يبدل شوائبهم باليّقين، بلطفه و عنايته، و يجعلهم في عداد المخلَصين. فعند وصول الإنسان إلى هذه المرحلة، يكون في مأمَن من الأهواء، و من الوساوس الشّيطانية، بما يمثّل من تحدّيات صعبة في طريق التّكامل، و بالتّالي ينقطع طمع الشّيطان فيه، ويظهر عجزه عن إغوائه بصورة رسميّة. و هنا يستقر المخلَصين في النّعيم الخالد، و يرتعون بالمواهب الإلهيّة، و يكون ثناؤهم و توصيفهم، للذات المقدّسة بالصّفات الجماليّة و الجلاليّة الإلهيّة، قد صبغت بصبغة التّوحيد الخالص، وبما أنّهم صفّوا حساباتهم في هذه الدنيا، فستكون عاقبتهم أنّهم سيدخلون الجنّة بغير حساب. و يصف الإمام علي(عليه السلام) في بعض خطبه، التي وردت في نهج البلاغة، اُولئك المخلصين، فيقول: "قَدْ أَخْلَصَ للهِ فَاسْتَخْلَصَ"(1). و قال الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "فَعِنْدَ ذَلِكَ إسْتَخْلَصَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ لِنُبُوَّتِهِ وَ رِسالَتِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ المُشَرِّفَةِ الطَّيِّبَةِ... مُحَمَّداً اُخْتَصَّهُ للِنُبُوَّةِ وَاصطَفاهُ بِالرِّسالَةِ"(2). و في حديث آخر عن أحد المعصومين(عليهم السلام) أنّه قال: "وَجَدْتُ ابنَ آدَمَ بَينَ الشَّيطـانِ فَإنْ أَحَبِّهُ اللهُ تَقَدَّسَتْ أَسْمائَهُ، خَلَّصَهُ وَ آسْتَخْلَصَهُ وَإِلاّ خَلّى بَينَهُ وَبَينَ عَدُوِّهِ"(3). و الخلاصة، إنّ الإخلاص في النيّة و الفكر و العمل، هو من أهمّ الخُطى في عمليّة التّهذيب و التّربية و السّير إلى الله تعالى. 1. نهج البلاغة، الخطبة 87. 2. بحار الأنوار، ج14، ص520. 3. المصدر السّابق، ج5، ص55. [ 235 ] الإخلاص في الرّوايات الإسلاميّة: و أتحفتنا الروايات بزخم كبير من المفاهيم، التي تدور حول محور الإخلاص، و نشير إلى بعض منها: 1 ـ ما جاءنا عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "ثَلاثٌ لا يَغُلُّ عَلَيهِنَّ، قَلْبُ رَجُل مُسْلِم، إِخلاصُ العَمَلِ للهِ عَزَّوَجَلَّ، وَ النَّصِيحَةِ لاِئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، و اللُّزُومَ لِجَماعَتِهِم"(1). 2 ـ ما ورد عنه(صلى الله عليه وآله)، في حديث آخر: "الإِخلاصُ سِرٌّ مِنْ أَسرارِي اسْتَودِعَهُ قَلْبَ مَنْ أَحَبَبْتُهُ مِنْ عِبادِي"(2). 3 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): "الإِخلاصُ أَشرَفُ نِهايَة"(3). 4 ـ في حديث آخر عنه(عليه السلام)، قال: "الإِخلاصُ أَعلَى الإِيمانِ"(4). 5 ـ وعنه(عليه السلام): "فِي إِخلاصِ الأَعمالِ تَنافَسَ اُولُوا النُّهى وَالألبابِ"(5). 6 ـ ما ورد في أهميّة الاخلاص بحيث أنّ الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، قسّم المؤمنين وِفق درجات إخلاصهم، فقال: "بِالإِخلاصِ تَتَفاضَلُ مَراتِبُِ المُؤمِنِينَ"(6). 7 ـ و في بيان أنّ آخر مرحلة من مراحل اليّقين، هو الإخلاص، قال الإمام علي(عليه السلام): "غايَةُ اليَقِينِ الإِخلاصُ"(7). 8 ـ ما ورد من معطيات الاخلاص على مستوى العمل، لدرجة أنّ قليلاً منه يكفي للنّجاة، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "أَخْلِصَ قَلْبَكَ يَكْفَيكَ القَلِيلَ مِنَ العَمَلِ"(8). 9 ـ وقال علي(عليه السلام): "الإِخلاصُ عِبادَةُ المُقَرِّبِينَ"(9). 10 ـ و نختم هذه الأحاديث، بحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال(عليه السلام): "طُوبى لِمَنْ 1. المحجّة البيضاء، ج8، ص125 ـ وأورد الحديث بالكامل: الصدوق في، خصاله، باب الثلاثة، ص167. 2. المحجّة البيضاء، ج8، ص 125. 3. تصنيف الغرر، ص197، الرقم (3894). 4. غرر الحكم، ج1، ص30. 5. المصدر السّابق، ج1، ص513. 6. ميزان الحكمة، مادة خلص، ج1، ص754. 7. غُرر الحِكم، ج2، ص503. 8. بحار الأنوار، 70، ص175، ذيل الحديث 15. 9. غرر الحِكم، ج1، ص25 (الرقم 718). [ 236 ] أَخْلَصَ للهِ العِبـادَةَ وَالدُّعـاءِ، وَلَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِما تَرى عَيناهُ، وَلَمْ يَنْسَ ذِكْرَ اللهِ بِما تَسْمَعُ اُذُناهُ وَلَمْ يَحْزَنْ صَدْرُهُ بِما اُعطِي غَيْرَهُ"(1). -- حقيقة الإخلاص: يقول المرحوم الفيض الكاشاني، في المحجّة البيضاء حول هذا الموضوع: "إعلم أنّ كلّ شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه، و خلص عنه سمّي خالصاً وسُمّي الفعل المصفّى، المخلص إخلاصاً، قال الله تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ في الأَنعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّـا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْث وَدَم لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ )(2)، فإنّما خلوص اللّبن، أن لا يكون فيه شوب من الدم و الفرث، و من كلّ ما يمكن أن يتمزج به والاخلاص، يضادّه الإشراك، فمن لا يكون مخلصاً فهو مشرك، إلاّ أنّ للشّرك درجات، و الإخلاص في التوحيد يضادّه الشرك في الإلهيّة، و الشّرك منه خفي ومنه جلّي وكذلك الإخلاص"(3). و كذلك ما ورد من تعبيرات لطيفة في الرّوايات، تبيّن الإخلاص الحقيقي والمخلصين الحقيقيين، منها: 1 ـ الحديث الوارد عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، وَما بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِخلاصِ، حَتّى لا يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى شَيء مِنْ عَمَل للهِ"(4). 2 ـ نقل عنه(صلى الله عليه وآله): "أَمّا عَلامَةُ الُمخْلِصِ فَأَربَعَةٌ، يُسْلمُ قَلْبَهُ وَتُسلمُ جَوارِحُهُ، وَبَذَلَ خَيْرَهُ وَكَفَّ شَرَّهُ"(5). 3 ـ في حديث آخر عن الإمام الباقر(عليه السلام)، أنّه قال: "لا يَكُونُ العَبْدُ عابِداً للهِ حَقَّ عِبادَتِهِ 1. اُصول الكافي، ص16. 2. سورة النّحل، الآية 66. 3. المحجّة البيضاء، ج8، ص128. 4. بحار الأنوار، ج69، ص304. 5. تُحف العقول، ص16. [ 237 ] حَتّى يَنْقَطِعَ عَنِ الخَلْقِ كُلُّهُ إِلَيهِ، فَحِينَئِذ يَقُولُ هذا خالِصٌ لِي فَيَتَقَبِّلَهُ بِكَرَمِهِ"(1). 4 ـ و أخيراً يقول الإمام الصادق(عليه السلام): "ما أَنْعَمَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ عَلَى عَبْد أَجَلَّ مِنْ أَنْ لا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مَعَ اللهِ غَيْرُهُ"(2). الآن بعدما عرفنا أهميّة الإخلاص، ودوره العميق في سلوك طريق الحّق و القرب من الله، و السّير في حركة الإنسان في خط الإيمان والتوحيد، يبقى هنا سؤال يفرض علينا نفسه، وهو كيف يمكننا تحصيل الأخلاص؟ لا شك أنّ الإخلاص في النيّة، هو وليد الإيمان واليقين العميق بالمعارف الإلهيّة، و كلمّا كان الإنسان متيقناً على مستوى التّوحيد الأفعالي، وأنّ كلّ شيء في عالم الوجود يبدأ من الله تعالى ويعود إليه، وهو المؤثر الأول وعلّة العلل وأنّ الاسباب و العِلل الجليّة والخفيّة خاضعة لأمره وتدبيره، فحينئذ يكون سلوك هذا الإنسان مُنسجماً مع هذه العقيدة، بالمستوى الذي يكون فيه عمله في غاية الخُلوص، لأنّه لا يرى مُؤثّراً في الوجود غير الله، يثير في نفسه الدّوافع المضادّة للإخلاص، و الحركة في غير طريق التّوحيد. و عكست الرّوايات هذه الحقيقة، فقال الإمام علي(عليه السلام): "الإخلاصُ ثَمَرَةُ اليَقِينِ"(3). و عنه(عليه السلام): "ثَمَرَةُ العِلْمِ إِخلاصُ العَملِ"(4). وأخيراً تناول الإمام علي(عليه السلام) المسألة بشيء من التفصيل، فقال: "أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَ كَمالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصدِيقُ بهِ، وَكَمالُ التَّصدِيقِ بِهِ، تَوحِيدُهُ، وَكَمـالُ تِوحِيدهِ الإِخلاصُ لَهُ"(5). موانع الإخلاص: أشار علماء الأخلاق الأفاضل إلى هذه المسألة إشارات دقيقة وواضحة، فقال البَعض، إنّ 1. مستدرك الوسائل، ج1، ص101. 2. المصدر السابق. 3. غُرر الحِكم، ج1، ص30 (الرقم 903). 4. المصدر السابق، ص17، (الرقم 444). 5. نهج البلاغة، الخطبة 1. [ 238 ] موانع الإخلاص وآفاته على نحوين: جليّةٌ، و خفيّةٌ. فبعضها خطر جداً، و البعض الآخر أضعف، و الشّيطان و النّفس الأمّارة، يسعيان لتكدير صفاء القلب، و تلويثه بالرّياء، بالمستوى الذي يحوّل الإنسان إلى كيان مهزوز، أمام حالات الخطر، و يشلّ فيه إرادة المُواجهة. فَبعضٌ من مراحل الرّياء واضحةٌ للعيان، بحيث يمكن لكلّ فرد التّوجه إليها، مثلما يأمر الشّيطان المصلي بالتوءدة بصلاته، كي يراه الناس ويقولوا هذا إنسانٌ مؤمنٌ، فلا يتحرّكون من موقع الغِيبة له و الوَقيعة فيه. فهذه من حيل الشّيطان الجليّة. و يمكن أن تكون وساوس الشيطان بصورة أخفى، حيث تتلبّس بلباس الطّاعة، فمثلاً، يلقي في نفسك: أنّك إنسانٌ معروفٌ، و النّاس تشير إليك بالبَنان، و يجب أن تكون طاعتك وعبادتك على أتمّ الصّحة، لكي يقتدي بك الناس في أعمالهم، وستكون شريكاً معهم في ثوابهم، فَهنا ستستسلم لأحابيل الرّياء من دون أن تشعر. أو تكون الخُدع والحيل أشدّ وأقوى وأخفى، فمثلاً يقول للمصلّي إنّ العبادة في السرّ يجب أن تكون مثلها في العلانية، والذي تكون عبادته في السّر، أدنى مستوى من العلانية، يعتبر من المرائين، و بهذه الصّورة يدفعه ليحسن صلاته وينمّق عبادته في الخفاء، ليكون كذلك في صلاته أمام الناس، و هذا نوعٌ من الرّياء الخَفي، و يمكن أن يغفل عنه الكثيرون، وكذلك المراحل الأخفى والأشد(1). نعم فإنّ آفات الإخلاص كثيرةٌ، و لا يستطيع أيّ إنسان العبور منها، إلاّ بتوفيق ربّاني، و لطف إلهي. و نجد هذا المعنى كذلك في الرّوايات الإسلاميّة، حيث أتحفتنا بما يلزم، للتنبيه على آفات الإخلاص ومنها: 1. المحجّة البيضاء، ج8، ص133. [ 239 ] ما ورد عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)، حيث قال: "كَيفَ يَستَطِيعُ الإخلاصُ مَنْ يَغْلِبَهُ الهوى"(1). و في الواقع فإنّ ما ذُكر في الحديث، آنفاً، هو أهم وأقوى آفات الإخلاص، نعم فإنّ هوى النفس، يكدّر عين الإخلاص و يُظلِمُها. و عنه(عليه السلام)، قال: "قَلِّلِ الآمالَ تَخْلُصُ لَكَ الأعمالُ"(2). و الجدير بالذّكر، أنّ الوساوس يمكن أن تأتي بشكل آخر، فتقول للمُصلي لا تذهب لِصلاة الجماعة، لأنّ نيّتك يمكن أن تتلّوث بالرّياء أمام الناس، وعليك بإقامة الصّلاة في بيتك، لكي تعيش أجواء الإخلاص في خطّ العبادة و الصلاة، و تتخلص من براثن الرّياء!!. أو يدعوه لترك المستحبات لنفس السّبب، لِيحرمه من ثوابها. ولعل هذا هو السّبب في دعوة القرآن الكريم، للإنفاق بالسرّ و العَلانية: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )(3). و نختم بحثنا بملاحظة مُهمّة، ألا و هيَ، أنّ الإخلاص في السرّ، ليس بتلك الدرجة من الصّعوبة والأهميّة، بل المهم هو أن يعيش الإنسان، حالة الإخلاص في العلانية، و أمام مرأى و مسمع من الناس. معطيات الإخلاص: بما أنّ حالة الإخلاص، تُمثّل أغلى جوهرة تُحفظ في خزانة الرّوح، و ما يترتّب على هذه الحالة من معطيات إيجابية مهمّة، فقد أوردت الرّوايات تلك المسألة، بصورة بليغة جميلة، و منها: "ما أَخْلَصَ عَبْدٌ للهِ عَزَّوَعَلَّ أَربَعِينَ صَباحاً إلاّ جَرَتْ يَنابِيعُ الحِكْمَةُ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسانِهِ"(4). 1. غُرر الحكم، ج2، ص553، الرقم 4. 2. المصدر السابق، ح2906. 3. سورة البقرة، الآية 274. 4. عُيون أخبار الرضا، ج1، ص69، بحار الأنوار، ج67، ص342. [ 240 ] و في حديث آخر عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال: "عِنْدَ تَحققُ الإخلاصُ تَسْتَنِيرُ البَصائِرُ"(1). وَ وَرد عنه(عليه السلام) أيضاً: "فِي إخلاصِ النيّاتِ نَجاحُ الاُمورِ"(2). و يتّضح من ملاحظة هذا الحديث، أنّ النيّة كلّما أخلصت، كان الإهتمام بِباطن الأعمال أقوى، أو بتعيبر أدق: إنّ الجَودة و الدّقة على مستوى السّلوك و العمل، ستكون في ذَروتها، ونجاح العمل سيكون مضموناً، و العَكس صحيحٌ، فإذا كان الهدف يتركز على معالم الظاهر فقط، دون أن يولّي أهميّةً للمحتوى، فسيكون مصير العمل إلى الفَشل و الخَيبة. و لذلك قال أمير المؤمنين(عليه السلام): "لَو خَلُصَتِ النِّيَّاتُ لَزَكَّتِ الأَعمالُ"(3). الرّياء: النقطة المقابلة للإخلاص هي: "الرّياء"، و قد ورد ذمّه بكثرة في الآيات و الروايات الشريفة، التي نهرت النّاس من هذا العمل المُشين، و إعتبرته من أوضح مصاديق الشّرك الخفي، و علّة بطلان الأعمال، و علامة من علامات النّفاق. و نجد فيها أنّ الرّياء يهدم الفضائل، و يزرع بذور الرّذائل في روح الإنسان، وُ يشغله عن الهدف الأساسي الحقيقي، في خطّ الرّسالة و الإستقامة. و هو أداةٌ قويةٌ مؤثرةٌ بيد الشّيطان الرّجيم، لإضلال و صرف النّاس عن الطّريق الصّحيح، و تحويلهم من دائرة الإيمان، إلى دائرة الكفر و الإنحراف. و نعود هنا للآيات القرآنية الكريمة، التي ترينا وجه المرائي القبيح، و النّتائج السلبيّة المترتّبة على الرّياء: 1 ـ (يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالاَْذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ 1. غُرر الحِكم، ج2، ص490، الرقم 12. 2. المصدر السّابق، ص14، الرقم 68. 3. المصدر السّابق، ص603، الرقم 11. [ 241 ] صَلْداً لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْء مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )(1). 2 ـ (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )(2). 3 ـ (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا )(3). 4 ـ (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً )(4). 5 ـ (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )(5). 6 ـ (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ )(6). تفسير و إستنتاج: "الآية الاُولى": تبيّن أن المنّ بالصدقات و إيذاء الآخرين، يدخل في عداد الرّياء و يمحق أعمال الخير، وتبيّن أنّ المرائي لا يعيش الإيمان بالله ولا باليوم الآخر، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالاَْذَى... )، وبعدها يشبّه هؤلاء الناس بمثل الذي يُنفق أمواله من موقع الرّياء: (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ... ). وجاء في ذيل الآية: تشبيهٌ جميلٌ جدّاًٌ لأعمالهم العقيمة، التي لا تثمر في نطاق المعنويّات و ترتب الثّواب، فأعمالهم كالصّخر الذي يعلوه التراب، فيَشتَبِه الفلاح في أمره، فيبذر فيه البذور بأمل الخصب و الزّرع، فيأتي المطر ويزيل كلّ شيء، فقال: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَابٌ 1. سورة البقرة، الآية 264. 2. سورة الكهف، الآية 110. 3. سورة النّساء، الآية 142. 4. سورة النساء، الآية 28. 5. سورة الأنفال، 47. 6. سورة الماعون، الآية 4 إلى 7. [ 242 ] فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً ). و من المؤكد أنّ مثل هذا العمل و الزرع، لن يثمر أو يورق، فكذلك سبحانه و تعالى، لا يهدي من ينطلق في تعامله مع الله تعالى من موقع الرّياء والكفر، (لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْء مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ). فعرّفت الآية مثل هؤلاء الأفراد بالمرائين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، و مرّة اُخرى عرّفتهم بالكافرين، الذين تتحرك أعمالهم كالسّراب المخادع، الذي لا قيمة له، لأنّهم بذروا أعمالهم في أرض الرّياء السّبخة التي لا تصلح للزراعة، و يوجد إحتمال آخر في تفسير الآية، و هو أنّ المرائي نفسه بمثابة قطعة الصّخر، التي لا يثبت عليها التراب، ولا يفيد معه أيّ بذر من بذور الخير و الصّلاح. نعم! فأرواحهم مريضةٌ و أعمالهم عقيمة، لا تقوم على أساس من الخير، و نيّاتهم مشوبة بدرن الرّياء و الشّرك الخَفي. و اللّطيف: أنّ الآية التي تلتها في سورة البقرة، شبّهت أعمال المخلصين، بجُنينة لا بذور فيها إلاّ بذور الصّلاح، فأصابها وابلٌ فنبتت نَباتاً حسناً، فأثمرت ثمراً مضاعفاً و مُباركاً فيها. -- "الآية الثانية": خاطبت الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و أمرته بإيصال التّوحيد الخالص للنّاس، إنسجاماً مع خطّ الرّسالة، و بإعتبار أَنَّ التّوحيدَ أصلٌ أساسي في الإسلام: (قُلْ إِنّما أَنا بَشَرٌ مِثلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ إِنّما إِلَهُكُم إِلهٌ واحِدٌ ). و بذلك يستوحي المؤمن من جو الآية الكريمة، أنّ الأعمال يجب أن تكون خالصةً و منزّهةً من أدران الشّرك: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ). و عليه فإنّ الشّرك في العبادة، يهدم أساس التّوحيد، و الإعتقاد بالمعاد في حركة الإنسان و الحياة، أو بتعبير أدق: فإنّ جواز السّفر إلى الجنّة الخالدة، يتمثل بِخُلوص العمل في دائرة السّلوك و النيّة. و جاء في شأن نزول الآية: قال إبن عباس: أنّها نزلت في جُندب بن زهير العامري، قال: يا [ 243 ] رسول الله إنّي أعمل العمل لله تعالى، واُريد به وجه الله تعالى، إلاّ أنّه إذا إطّلع عليه أحد من الناس سرّني; فقال النّبي(صلى الله عليه وآله): "إنَّ اللهَ طَيِّبٌ وَلا يَقْبَلُ إِلاّ الطَّيِّبَ وَلا يَقْبَلُ ما شُورِكَ فِيهِ"(1). وجاء في شأن نزول الآية أيضاً، قال طاووس: قال رجل: يا رسول لله! إني اُحبّ الجهاد في سبيل الله تعالى واُحبّ أن يرى مكاني، فنزلت الآية.(2) وَ وَرد مثل هذا المضمون بالنّسبة للإنفاق وصِلة الرّحم(3)، وتبيّن أنّ الآية الآنفة: نزلت بعد الأسئلة المختلفة، في الأعمال المشوبة بغير الأهداف الإلهيّة، و قد إعتبرت المُرائي على حدّ من يعيش حالة الشّرك بالله و الشّخص الذي لا إيمان له بالآخرة. و نقرأ في حديث آخر، عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "مَنْ صَلّى يُرائي فَقَدْ أَشرَكَ، وَ مَنْ صامَ يُرائِي فَقَدْ أَشرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرائي فَقَدْ أَشرَكَ، ثُمَّ قَرَأ: فَمَنْ كانَ يَرجُوا لِقاءَ رَبِّهِ..."(4). -- "الآية الثّالثة": بيّنت أنّ الرّياء هو من فعل المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا ). والجدير بالذكر أنّ النّفاق عبارةٌ عن إزدواجية الظّاهر والباطن، وكذلك الرّياء فهو إزدواجية الظاهر والباطن، حيث يتحرك المرائي في أعماله لجلب الأنظار، فمن الطّبيعي أن يكون الرّياء من برامج المنافقين. -- "الآية الرابعة": إعتبرت الأعمال التي ينطلق بها الإنسان من موقع الرّياء، مساويةٌ لعدم الإيمان بالله تعالى واليوم الأخر: (وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً ). و عليه فإنّ المرائين هم أصحاب الشيطان، الذين يفتقدون الإيمان الحقيقي بالمبدأ و المعاد. -- 1. تفسير القُرطبي، ج11، ص69. 2. المصدر السابق. 3. المصدر السابق. 4. الدر المنثور، (طبقاً لتفسير الميزان، ج13، ص407). [ 244 ] "الآية الخامسة": تنهى المسلمين من التشبّه بأعمال المشركين الكفّار، الذين لا يفعلون شيئاً إلاّ للرياء و التّفاخر فقط: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ). فطبقاً للقرائن و الشواهد الموجودة، وتصديق المفسّرين، فإنّ هذه تشير إلى خروج المشركين من قريش في يوم بَدر، بحليّهم وزينتهم وقد جلبوا معهم آلات الطّرب و اللّعب و اللّهو و النبّيذ، وهم يقصدون جلب أنظار أصحابهم من المشركين الوثنيين. و جاء في بعض التّفاسير، أنّ منطقة بدر، كانت تعتبر من المراكز التّجارية لعرب الجاهليّة في وقتها، و أنّ أبا جهل جاء بوسائل الطرب و الجواري، لغرض مُراءاة النّاس، وفَقْأ العيون كما يقول المثل الشّائع. و على كلّ حال، فإنّ القرآن الكريم قد نهى المؤمنين من أمثال هذه الأعمال الشائنة، و دعاهم إلى ترويض النّفس بالإخلاص و التّقوى، للتغلب على تلك الحالات النفّسية الخطرة، و أن لا ينسوا مصير المُرائين و أتباع الشّيطان في معركة بدر. -- "و الآية الأخيرة": من الآيات مورد البحث، نجدها تذّم الرّياء ولكن بصورة اُخرى فتقول: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ). فقد جاءت كلمة "الويل"، في (27) مورداً من القرآن، و إختصّت في الأغلب بالذّنوب الكبيرة الخطرة جدّاً، وهنا تحكي عن شدّة قُبح ذلك العمل في واقع الإنسان و روحه. إنّ ما ورد في الآيات الآنفة الذكر، يوضح إلى درجة كبيرة، قُبحَ هذه الخطيئة، و أخطارها و آثارها السلبيّة على سعادة الإنسان في حركة الحياة، و من الواضح فإنّ الرّياء يقف حَجرَ عثرة في طريق تهذيب النّفس، و طهارة القلب و الرّوح للإنسان المؤمن. [ 245 ] الرّياء في الرّوايات الإسلاميّة: تطرقت الرّوايات لهذا الأمر بقوّة و أهميّة بالغة، و عرّفت الرّياء بأنّه من أخطر الذّنوب، و منها: 1 ـ ما وَرد عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "أَخْوَفَ ما أَخافُ عَلَيكُمْ الرّياء و الشَّهوةُ الخَفِيّةُ"(1). ويمكن أن يكون المراد من الشّهوة الخفيّة، هو المقاصد الخفيّة للرياء. 2 ـ و أيضاً ما نقل عنه(صلى الله عليه وآله): "أَدنى الرِّياءِ شِركٌ"(2). 3 ـ وأيضاً عنه(صلى الله عليه وآله): "لا يَقْبَلُ اللهُ عَملاً فِيهِ مِقدارُ ذَرَّة مِنْ رِياء"(3). 4 ـ و عنه(صلى الله عليه وآله): "إِنَّ المُرائِي يُنادى يَومَ القِيامَةِ يا فاجِرُ يا غادِرُ يا مُرائي ضَلَّ عَمَلُكَ وَ حَبَطَ أَجْرُكَ إِذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَكَ مِمَّن كُنْتَ تَعْمَلُ لَهُ"(4). 5 ـ و قال أحد أصحاب الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) في يوم ما باكياً، فقلت: ما يُبكيك يا رسول الله؟ فقال: "إنّي تَخَوَّفْتَ عَلى أُمَّتِي الشَّركَ، أَمّا إِنّهُمْ لا يَعَبُدُونَ صَنَماً وَلا شَمْساً وَ لا قَمَراً وَلا حَجرَاً، وَلَكِنَّهُم يُراؤُونَ بِأَعْمالِهِم"(5). 6 ـ و في حديث آخر عنه(صلى الله عليه وآله) قال: "إِنَّ المَلَكَ لَيَصْعَدُ بِعَمَلِ العَبْدِ مُبْتَهِجاً بِهِ فَإِذا صَعَدَ بِحَسَناتِهِ يَقُولُ اللهُ عَزَّوَجَلَّ إِجْعَلُوها فِي سِجِّين إِنَّهُ لَيسَ إِيَّايَ أَرادَ بِها"(6). 7 ـ و أيضاً عنه(صلى الله عليه وآله): "يَقُولُ اللهُ سُبْحانَهُ إِنِّي أَغْنَى الشُّرَكاءِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلاً ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِ غَيرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِىءٌ وَهُوَ لِلَّذِي أَشرَكَ بِهِ دُونِي"(7). هذه الأحاديث السّبعة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بيّنت أنّ إثم الرّياء بدرجة من الشدّة، بحيث لا 1. المحجّة البيضاء، ج6، ص141. 2. المصدر السابق. 3. المصدر السّابق. 4. المصدر السابق. 5. المصدر السابق. 6. اُصول الكافي، ج2، ص295. 7. ميزان الحكمة، ج2، ص1017، الطبعة الجديدة. [ 246 ] يضاهيه شيءٌ من الذّنوب و الخطايا، و ما ذلك إلاّ للنتائج السّيئة للرّياء في نفس وروح الإنسان، وكذلك على مستوى الفرد والمجتمع. أمّا ما ورد عن الأئمّة(عليهم السلام): 8 ـ ما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام)، ينقل عن جدّه(عليه السلام): "سَيأَتِي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ تَخْبَثُ فِيهِ سَرائِرِهُمْ وَتَحْسُنُ فِيهِ عَلانِيَّتِهِم، طَمَعاً في الدُّنيا لا يُريدُونَ بِهِ ما عِنْدَ رَبِّهِم يَكُونَ دِينُهُمْ رِياءً، لا يُخالِطُهُم خَوْفٌ، يَعُمُّهُمُ اللهُ بِعِقاب فَيَدْعُونَهُ دُعاءَ الغَرِيقِ فلا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ"(1). 9 ـ و في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنّه قال: "كُلُّ رِياء شِرْكٌ، إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِلنَّاسِ كانَ ثَوابُهُ لِلنّاسِ، وَ مَنْ عَمِلَ للهِ كانَ ثَوابُهُ عَلَى اللهِ"(2). 10 ـ و في حديث عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)، قال: "المُرائِي ظاهِرُهُ جَمِيلٌ وَ باطِنُهُ عَلِيلٌ"(3). و قال أيضاً: "ما أَقْبَحَ بِالإِنسانِ باطِناً عَلِيلاً وَ ظاهِراً جَمِيلاً"(4). و ما ورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، و عن الأئمّة الهداة، في هذا المجال كثير. -- ا ص247 - ص261فلسفة تحريم الرّياء: قد يتعجّب البعض الذين يعيشون السّذاجة الفكريّة، عند نظرهم و للوهلة الاُولى، للروايات التي تتعرض لمسألة الرّياء، و نتائج المرعبة، و يتصورون أنّ عمل الإنسان إذا كان سليماً ومنتجاً في واقعه الخارجي، فأيّاً كانت النيّة و الدّافع، فلن يؤثر ذلك في تغيير العمل، فالذي يبني مُستَشفاً! أو مسجداً أو يعبّد الطّرق و الجسور.. و غيرها من الاُمور التي تصبّ في الصّالح العام للناس، فعمله صحيحٌ و حسنٌ مهما كانت نيّته، فلْندَع النّاس يفعلوا الخير، وما لنا والنيّة!! 1. اُصول الكافي، ج2، ص296. 2. المصدر السابق، ص293. 3. أمالي الصّدوق، ص398; غرر الحكم، ج1، ص60، الرقم 1614. 4. غُرر الحِكم، ج2، ص749، الرقم 209. [ 247 ] ولكن الخطأ الفادح يكمن هنا لأنّه: أولاً: إنّ كلّ عمل و فعل يترتب عليه نوعان من ردود الفعل، أحدهما ما ينعكس أثره في نفس الإنسان، والآخر ما يترتب على الفعل في الخارج، فالمُرائي يحطّم نفسه من الدّاخل و يُبعدها عن التّوحيد و الدّين الحنيف، و يوقعها في وادي الشّرك، و يعتبر عزّته و إحترامه رهنٌ بيدَ النّاس، و ينسى قُدَرة الباري تعالى في دائرة التّصرف في عالم الوجود، و بهذا يكون الرّياء نوعاً من الشّرك بالله تعالى، و يُفضي إلى نتائج وخيمة على مستوى الأخلاق و القِيَم الإنسانية. و ثانياً: بالنّسبة للعمل الخارجي، الذي يقصد به الرّياء و السّمعة، فالمجتمع هو الخاسر الأوّل في هذا المضمار، لأنّ المرائي يسعى لتحسين عمله، على مستوى الظّاهر فحسب دون الإهتمام بالباطن، ممّا يُفضي إلى تحويل العمل، إلى إنحراف و إفساد على المستوى الإجتماعي. و بعبارة اُخرى: إنّ المجتمع الذي يتّخذ من الرّياءِ مركباً، في ممارسات الأفراد، سيكون كلّ شيء فيه بلا مُحتوى، كـ: (الثقافة، الإقتصاد، السياسة، الصحة والنظام والقوى الدفاعية) و كلّها ستهتم بالظّاهر فقط، ولا يكون الهدف منها نيل السّعادة الحقيقيّة للأفراد، بل سيركضون وراء كلّ شيء برّاق و جميلِ الظاهر، و أمّا باطنه، فالله العالم. و هذا النّوع من الإتجاه، يورد صدمات و ضربات و مضرّات في حركة الواقع الإجتماعي، لا تخفى على ذهن الفطن الكيّس. -- علامات المُرائي: قد يصاب بعض الأشخاص، لدى مطالعتهم لتلك الأحاديث التي تُشدّد على المرائي بالوسَوسة النّاشئة من الإبهام في تشخيص موضوع الرّياء، و رغم أنّ الجَدير بالإنسان التّشديد في مسألة الرّياء، لأنّ نفوذه خفيٌّ جدّاً، وكم حَدَث للإنسان، أن يعمل عملاً ويبقى لفترة طويلة غير ملتفت لأصابته بالرّياء، كالقصّة المعروفة عن أحد المؤمنين السّابقين، حيث نقل عنه، أنّه قضى صلوات جماعته كلّها، التي صلاّها في سنوات من عمره الطويل، ولمّا سألوه عن السّبب قال: إنّي كنت دائماً اُصلّي الجماعة في الصّف الأول، وفي يوم من الأيّام تأخّرت [ 248 ] بعض الشّيء، فلم أجد مكاناً في الصّف المقدّم، فإضطررت للوقوف خلف الجميع، فشعرت في نفسي بالأذى من ذلك، و تنبّهت لهذه المسألة، فأعدت جميع الصّلوات لأنّها كانت رياء؟! بالطّبع، الإفراط و التّفريط في هذه المسألة، مَثَلُه كَمَثَلِ بقيّةِ المسائل، غير محمود، و خطأٌ محضٌ، و المفروض التَّنبّه للرياء من خلال تتبع مقدماته و علاماته، و لا نَدع مجالاً للوساوس في إطار إكتشاف هذه الحالة السّلبية، في دائرة السّلوك الخارجي، و الواقع النّفسي، و لعلماء الأخلاق الأفاضل أبحاثٌ لطيفةٌ في هذا المضمار، و منهم العلاّمة المرحوم الفَيض الكاشاني;، فقد طرح سؤالاً في كتابه: "المحجّة البيضاء"، و قال: فبأيّ علامة يُعرف العالم و الواعِظ، أنّه صادق مخلصٌ في وعظه، غير مريد رئاء النّاس؟. قال في جواب هذا السؤال: "فاعلم أنّ لذلك علامات، إحداها أنّه لو ظهر من هو أحسن منه و عظاً و أغزرُ منه علماً، و النّاس له أشدّ قبولاً، فرح به ولم يحسده، نعم لا بأسَ بالغِبطة، و هي: أن يتمنّى لنفسه مثل عمله، والاُخرى أنّ الأكابِر إذا حَضروا مجلسه لم يتغيّر كلامه، بل يبقى كما كان عليه، فينظر إلى الخلق بعين واحدة، و الاُخرى: أن لا يحبّ إتّباع النّاس له في الطريق، و المشي خلفه في الأسواق، و لذلك علاماتٌ كثيرةٌ يطول إحصاؤها"(1). و أفضل المعايير لمعرفة المرائي من غيره، هو ما وردنا عن الأئمّة الأطهار، ومن جملة الأحاديث: 1 ـ في حديث عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، قال: "أَمّا عَلامَةُ المُرائي فَأرْبَعَةٌ: يَحْرُصُ في العَمَلِ للهِ إِذا كانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ وَيَكْسَلُ إِذا كانَ وَحْدَهُ وَ يَحْرُصُ في كُلِّ أَمْرِهِ عَلَى الَمحمَدَةِ وَيُحْسِنُ سَمْتَهُ بِجُهْدِهِ"(2). 2 ـ وَ وَرد في نفس هذا المعنى في حديث عن أميرالمؤمنين، بألفاظ جميلة، فقال: "لِلمُرائي أرْبَعة عَلامات: يَكْسَلُ إذا كانَ وَحدَهُ، وَ يَنْشُطُ إِذا كانَ في النّاسِ، 1. المحجّة البيضاء، ج6، ص200. 2. تُحف العقول، ص 17. [ 249 ] وَ يَزِيدُ في العَمَلِ إِذا اُثنِيَ عَلَيهِ، وَيَنْقُصُ مِنْهُ إِذا لَمْ يُثْنَ عَلَيهِ"(1). و ورد نفس هذا المعنى عن لقمان الحكيم أيضاً(2). و خلاصة القول: إنّ كلّ عمل، كان القصد منه المباهاة للناس، فهو دليلٌ على الرّياء، و مهما كان هذا القصد غامضاً و خفيّاً في دائرة الوعي، فهو دليلٌ على إزدواجيّة شخصيّة الإنسان في التعامل مع نفسه، في الخلأ والملأ. و هذا الأمر في الحقيقة بالغ في الدقّة و الغموض، لدرجة أنّ الإنسان يخدع وجدانه و ضميره، بإتيان نفس الأعمال التي يأتي بها في الملأ، و بدرجة عالية من الجودة و الحُسن، في خلوته ليقنع نفسه أنّه لا يُرائي، لأنّه يساوي بأعماله في الظّاهر والباطن، ولكنّ الحقيقة هي إزدواجيّة ذلك الشّخص، ففي كلا الحالتين يكون مرائياً. بالطّبع يجب إجتناب الإفراط و التّفريط في هذه المسائل، لأننا وجدنا اُناساً إمتنعوا من أداء كثير من الواجبات و حُرموا من الثّواب حذراً أو خوفاً من الرّياء، فلم يؤلّفوا كتاباً، ولم يرشدوا أحداً من النّاس، ولم يصعدوا المنابر، لا لِشيء إلاّ لأنّهم كانوا يعيشون الخوف من الوقوع في الرّياء؟! و قد ورد في الرّوايات، أنّ من يقصد القُربة إلى الله تعالى، إذا أتى بعمل ما علانيةً، و عرف به الناس وفرح هو من ذلك، ما دام قصده هو التّقرب إلى الله سبحانه و تعالى، فلن يؤثّر ذلك على عمله(3). و لا يخفى على القارىء الكريم، أنّ القصد من هذا الأمر، هو تشجيع النّاس إلى سلوك طريق الخير و الصّلاح، و إمضاء أعمالهم المتقرّب بها إلى الله تعالى، في السّر و العلانية، والمهم هو قصد القُربة و إخلاص النيّة فقط. و جاءت الآيات و الرّوايات، مؤكّدةً لهذا المعنى، وحثّت الإنسان على الإنفاق و التّصدق 1. شرح نهج البلاغة، إبن أبي الحديد، ج2، ص180. 2. الخصال: (طبقاً لنقل ميزان الحكمة، ج2، ص1020)، الطّبعة الجديدة. 3. راجع وسائل الشّيعة، ج1، الباب 15، من أبواب مقدمة العبادات، ص55. [ 250 ] في السرّ و العلانية، وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على إمكانيّة الإتيان بالأعمال علانيةً، و بدوافع إلهيّة بعيداً عن الرّياء. و يوجد خمسُ آيات شجّعت على الإنفاق سرّاً و علانيةً، أو سِرّاً وجهراً(1). مضافاً إلى أنّ قسماً كبيراً من العبادات، يؤدّى في العلانية، فإذا مالم يتسلط الإنسان على نفسه في خط الإلتزام الديني، و يُمسك بزمامها في دائرة النّوازع الذاتيّة، فَسيخسر هو و المجتمع كثيراً من أشكال الثّواب و الخير، وستختل أركان بعض العبادات في خطّ الممارسة والعمل. -- علاجُ الرِّياء: يوجد طريقان لِمُعالجة حالة الرّياء، فالرّياء مَثَلُه كَمَثَلِ سائر الأخلاق السلبيّة و السّلوكيّات الذّميمة، ففي بادىء الأمر، علينا التّركيز على معرفةِ العِلَل، و جذور هذه الحالة السّلبية في الواقع النّفسي، لأجل القضاء عليها، ثم التّحرك نحو دراسة عواقبها المؤلمة، و الكشف عنها في عمليّة التّصدي لها، و توخي جانب الحَذر منها. بالطّبع لقد أشرنا آنفاً، أنّ الرّياء هو: "الشّرك الأفعالي"، و الغفلة عن حقيقة التّوحيد، فإذا ما تأصلت حقيقة التّوحيد الأفعالي في قلوبنا، و إستحكمت في نفوسنا، و إستيقنّا أنّ العزّة لله جميعاً، من موقع المشاهدة الوجدانية، و رأينا أنّ الرّزق والضرّ و النّفع بيده و هو المسخّر للقلوب، فسوف لن نختار سواه بدلاً، ولن نُدنّس أنفسنا و أفعالنا بحالة الرّياء الشّنيعة، التي لا تنسجم مع خطّ التّوحيد في دائرة الأفعال، فالذي يعيش اليقين الرّاسخ بهذه الحقيقة، و هي أنّ مَنْ يكون مع الله تعالى، يكون كلّ شيء معه، و بدونه فهو لا شيء، ويرى بعين البصيرة، مِصداق قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ )(2). 1. سورة البقرة، الآية 274; الرّعد، 22; إبراهيم، 31; النّحل، 75; فاطر، 29. 2. سورة آل عمران، الآية 160. [ 251 ] وإذا أدركنا هذه الحقيقة القرآنية التي تقرر أنّ العزّة لله تعالى: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِِ جَمِيعاً )(1). أجل إذا ترسّخَ الإيمان بهذه الحقائق الإيمانيّة في أعماق الرّوح، فلا يجد الإنسان في نفسه باعثاً على الرّياء و النّفاق، و كسب الجاه والمقام لدى الناس و المُفاخرة و المُباهاة. و قال بعض علماء الأخلاق، إنّ دعامة الرّياء وأساسِه هو حبّ الجاه و المُقام، و عند تحليلنا لمفهوم الرّياء، نجد أنّه يتكون من ثلاثة أركان: "حبّ الثّناء والمدح من الناس"، و "الفرار من مذمّتهم"، و "الطّمع لِما في أيديهم". ثم يضرب لذلك مثلاً و هو المجاهد في سبيل الله، فتارةً يكون قصدُه المُباهاة و المفاخرة، و إظهار شجاعته وبطولاته للناس، واُخرى خوفاً من أن يتّهمه الناس بالجُبن و الخوف، و ثالثةً يكون دافعه الحصول على الغنائم، و الفائز الوحيد، هو الذي يدافع عن الحقّ و الدّين لا غير. هذا من جهة، و من جهة اُخرى، عندما يتأمل الإنسان في سلبيات الرّياء و أضراره ونتائجه القاتلة، نرى أنّه كالنّار التي تقع على عبادات الإنسان و طاعاته، فتحوّلها إلى رماد تذروه الرّياح، ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل هو ذنبٌ عظيمٌ يسوّد وجه صاحبه في الدّنيا و الآخرة... الرّياء: حشرة الإرضة التي تَنخر دَعامات بيت سعادة الإنسان، لينهار به في واد سحيق من الشّقاء و الظلاّم.. و الرّياء بدوره نوعٌ من أنواع الكفر و النّفاق و الشّرك... و الرّياء يسحق الشّخصيّة و الحريّة و الكرامة، و أشدّ النّاس بؤساً يوم القيامة، المراؤون. فهذه حقائقٌ تردع الإنسان، و تبعده عن ذلك الأمر الشّينع. و لا ننسى أنّ المرائي سيفتَضِح، إن عاجلاً أو آجلاً في هذه الدّنيا، و ستظهر حقيقته الزّائفة على فلتات لسانه و شَطحات كلماته، وهذا العامل له قسطٌ من التأثير في عمليّة الرّدع النّفسي، لحالة الرّياء في واقع الإنسان، مضافاً إلى أنّ لذّة العمل الصالح، و النيّة الطيّبة التي تطرأ على 1. سورة النّساء، الآية 139. [ 252 ] الإنسان، لا تقاس بشيء، و هو أمرٌ يكفي لإخلاص النيّة. و يعتقد البعض، أنّ إحدى طرق المعالجة، هي السّعي إلى إخفاء العبادات و الحسنات، و لا يُمارسها في العلن، ليتخلّص تدريجيّاً من هذه العقدة المستعصيّة في الذّات المرائيّة. ولكن هذا لا يعني، عدم الحضور في صلاة الجَماعة و الجُمعة و الحج، لأنّها تعدّ أيضاً خسارةً كُبرى لا تُعوّض. -- هل النّشاط في العبادة يُنافي الإخلاص؟ يُراود هذا السّؤال أذهان الكثيرين، و هو أنّهم يشعرون بنشاط روحي، بعد الإتيان بالعبادة بالمستوى المطلوب، فهل أنّ هذا الشّعور بالنّشاط، يتقاطع مع الإخلاص، أو أنّه علامةٌ على الرياء؟. و الجواب: أنّ النّشاط إذا إستمدّ اُصوله، من التّوفيق الإلهي و النّور المعنوي المستقى من العبادة، و معطياتها على روح الإنسان، فلا تَثريب ولا ضير، و لا يُنافي الإخلاص في النيّة، أمّا لو كان النّشاط ينشأ من مشاهدة الناس له، فإنّه يُنافي الإخلاص، رغم أنّه لا يكون سبَباً في بُطلان الأعمال، شريطةَ أن لا يتغيّر مقدار و كيفيّة العمل بسبب مشاهدة الناس له. وَ وَرد هذا المعنى في الرّوايات الإسلاميّة: منها ما وَرد عن أحد أصحاب الإمام الباقر(عليه السلام)، أنّه قال: سألتُ الإمام(عليه السلام)، عن الرّجل يعمل الشّيء من الخير، فيراه إنسانٌ فيسّره ذلك. قال(عليه السلام): "لا بَأْسَ، ما مِنْ أَحَد إِلا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ في النّاسِ الخَيرُ، إذا لَمْ يَكُنْ صَنَعَ ذَلِكَ لذَلِكَ"(1). و في حديث آخر عن أبي ذر(رحمه الله)، ـ عندما سأل الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) - ، قال: قلت يا رسول 1. وسائل الشيعة، ج1، ص55. [ 253 ] الله: الرّجل يعملُ العمل لنفسه و يحبّه الناس. قال(صلى الله عليه وآله): "تِلكَ عاجِلُ بُشرى المُؤمِنِ"(1). -- ما الفرق بين الرّياء و السّمعة: هذا سؤال يفرض نفسه أيضاً، فهل يوجد فرق بين الرّياء و السّمعة؟، و هل أنّهما يتنافيان مع إخلاص النيّة، و يوجبان بطلان العمل؟. الجواب: الرّياء: هو فعل الخير أمام مرآى و مسمع من النّاس، لكسب الوجاهة لديهم، و ليشار إليه بالبنان من موقع المدح و الثّناء. و أمّا السّمعة، فهي أداء أفعال الخير بعيداً عن أنظار النّاس، ولكن لِيُفهمَهم لاحقاً أنّه هو الذي فعل هذه الاُمور، ليكتسب بذلك و جاهةً لديهم، والحقيقة أن الدّافع لِكِلا الإثنين غير إلهي، فالأوّل يؤدّي عمل الخير أمام مرآى الناس، و الثّاني بصورة غير مُباشرة و عن طريق السّماع، ولا فرق بينهما في دائرة فساد النيّة، و بطلان العمل و فقدان قصد القربة. ولكن إذا فسّرنا السمعة بأنّها أداء الفعل بقصد القُربّة، ولكن إذا علم النّاس في الآجل و مدحوه و أثنوا عليه، فإنّه يفرح بذلك، فلا شكَّ بأنّ هذه الحالة لا توجب بُطلان العمل. و يمكن أن يتحرك الإنسان في سلوكيّاته و أعماله، بقصد القُربة المطلقة، ولكنّه يرويها للناس بعد ذلك ليحتل مكانةً بينهم، "و هذا العمل يُسمى بالرّياء اللاّحق"، فهذا السّلوك أيضاً لا يُبطل العمل، لكنّه يُقِّلل من قيمته إلى أدنى حدّ، وخصوصاً من النّاحية الأخلاقيّة. و قد تحدّث بعض من كبار الفُقهاء، عن كيفيّة نفوذ و توغّل الرّياء في أعمال الإنسان، و قالوا أنّها على عَشرِ صُوَر: الصّورة الاُولى: أن يكون قصده من الفعل: مشاهدة النّاس له، و لا شكّ ببطلانها. 1. وسائل الشيعة، ج 1، ص 55. [ 254 ] الصورة الثّانية: أن يكون الهدف فيها الباري تعالى، و الرّياء مَعاً، و هذه الحالة أيضاً موجِبةُ: للبطلان و الإحباط. الثّالثة: أن يُرائي في جزء من الأعمال الواجبة، كما لو مارس الرّياء في الرّكوع، أو السّجود وحده في الصّلاة الواجبة، و لا شك في كونه يستوجب البُطلان، حتى لو كان هناك مجالاً للإستدراك، و حاله حالَ ما لو فقد وضوءه وهو في أثناء الصّلاة، و إن كان الأحوط أن يأتي بالجزء الذي وقع فيه الرّياء، ثم إعادة الصّلاة بعد الإنتهاء. الصّورة الرّابعة: الرّياء في الجزء المستحب، كما في القُنوت، فهو أيضاً من دواعي البُطلان. الخامسة: أصلُ العمل و القَصد، يكون الله تعالى، ولكنّه يؤدّيه في مكان عام: (كالمسجد)، من دون قصد ربّاني فيه، وهو باطلٌ أيضاً. السّادسة: أن يُرائي في وقت العمل، فأصل الصّلاة لله تعالى، و لكنّه يُرائي في أدائها في أوّل وقتها، فعمله باطلٌ أيضاً. السّابعة: أن يُرائي في بعض خُصوصيات و أوصاف العمل، كما لو صلّى الجماعة، و هو في حالة من الخشوع والخضوع المُفتعلة، وهو باطلٌ أيضاً، فالموصوف يتبع الأوصاف في هذه الحالة. الثّامنة: أن تأتي بالعمل قربةً إلى الله، ولكنّه يرائي في مقدّمات العمل، فيذهب إلى المسجد بقصد الصّلاة و الثّواب، ولكنّ حركته نحو المسجد بقصد الرّياء. فالكثير من الفُقهاء لا يرون بُطلان العمل لمثل هذا النوع من الرّياء، لأنّ مقدّمات الرّياء حدثت بعيداً عن العمل، وهو ما تقتضيه القاعدة الفِقهيّة. التّاسعة: أن يُؤدّي بعض الأوصاف الخارجيّة بنيّة الرّياء، كما لو صلّى للهِ تعالى، ولكنّه يحنّك نفسه رياءً، فالبِّرغم من قبح هذا العمل، ولكنّه لا يُبطل الصلاة.(1) عاشراً و أخيراً: أن يتحرّك في إتيانه بالعمل، من موقع القربة المطلقة لله تعالى، ولكن إذا 1. نَسترعي الانتباه: إلى أنّ التّحنيك في الصّلاة لم يثبت استحبابه، وما ورد في الرّوايات فهو يشمل كلّ الحالات والأوقات، وفي وقتنا الحاضر يحتمل أن يكون من لِباس الشّهرة. [ 255 ] شاهده الناس، فإنّه يشعر في قرارة نفسه بالفرح، من دون أن يؤثّر ذلك على كيفيّة العمل، فهذا القسم لا يوجب البُطلان أيضاً، لأنّه لا يعدّ من الرّياء. و نصل هنا إلى نهاية بحثنا حول الرّياء، و إن كنّا قد أعرضنا عن كثير من الاُمور، إجتناباً للتّطويل. -- الخطوة السّابعة: السّكوت و إصلاح اللّسان تناولت الرّوايات الإسلاميّة هاتين المسألتين، بمزيد من الإهتمام، و كذلك علماء الأخلاق، أكّدوا عليهما في أبحاثهم التّربوية، لإعتقادهم أنّ السّير و السّلوك إلى الله تعالى، لنْ يتحقّق في واقع الإنسان إلاّ بالسّكوت، و حفظ اللّسان من الذنوب التي قد يقع الإنسان فيها من خلال الكلام، و إن كان، قد أتعب نفسه في الرياضات الرّوحيّة و أنواع العبادات. أو بتعبير أدَقْ: إنّ مفتاح مسيرة التهذيب والسّلوك إلى الله تعالى هو الإلتزام بِذَينك الأمرين، ومن لم يستطع السّيطرة على لسانه، فلن يُفلح في الوصول، إلى الأهداف السّامية و المقاصد العالية. و بعد هذه الإشارة نعود إلى بحثنا الأساسي، و دراسة الآيات و الرّوايات التي وَرَدت في هذا المِضمار. السّكوت في الآيات القرآنيّة الكريمة: في كِلا المَوردين، إعتبر القرآن الكريم، هذه المسألة من القيم السّامية، في خطّ الإيمان و الأخلاق، ففي بادِىء الأمرِ، إستعرض قصّة مريم(عليها السلام)، فعندما كانَت في وضعها المُتأزّم، و تفكيرها في حملها و حالة الطلق التي أصابتها، و وحدتها في تلك الصّحراء المريعة، و قد هوّمت نحوها الهُموم من كلِّ جانب، و أشدّها إفتراءات بني إسرائيل عليها، فتمنّت الموت في تلك السّاعة من بارِئها، ولكن جاءها النّداء، أن لا تحزن و لا تغتم، فإنّ الله معها و هو الذي يتكفّل [ 256 ] أمرها، وهذا ما تُحدِّثنا به الآيات التالية: (فَأَجَاءَهَا الْمخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَني مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَني قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْعَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَ اشْرَبي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولي إِنّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً )(1). و إختلف المفسّرون في الذي نادى مريم(عليها السلام)، فقال بعضهم: إنّه جِبرائيل(عليه السلام)، و سياق الآية قرينةٌ على هذا المعنى، و قال البَعض الآخر، كالعلاّمة الطّباطبائي(رحمه الله)، إنّه إبنها عيسى(عليه السلام)، و كلمة: "من تحتها"، تناسب هذا المعنى، لأنّه كان بين أقدامها، علاوة على أنّ أغلب الضّمائر في الآية الشّريفة، تعود على المسيح(عليه السلام)، و تَتَناسب أيضاً مع كلمة "نادى"، و على كلٍّ فإنّ مَحَطَّ نظرنا، هو الأمرُ بنذر السّكوت، فأيّاً كان المُنادي، جبرائيل (عليه السلام)، أو المسيح(عليه السلام)، فإنّ المهم هو، أنّ ذلك النّذر، يفضله ويرجحّه الباري تعالى، و خصوصاً أنّ ذلك الأمر، كان سائداً في وقتها، و هو من الأعمال التي يُتقرّب بها إلى الله سبحانه وتعالى، فلذلك لم يعترض على مريم(عليها السلام) أحد، بالنّسبة إلى هذا العمل بالذّات. و يوجد إحتمالٌ آخرٌ لصوم مريم(عليها السلام)، و هو الصّوم عن الطّعام و الشّراب، بالإضافة لصوم السّكوت. أمّا في الشّريعة الإسلاميّة، فإنّ صوم السّكوت حرام، لتغيّر الظّروف المكانيّة و الزمانيّة، و قد وَرد عن الإمام علي بن الحسين السّجاد(عليه السلام)، أنّه قال: "وَصَومُ الصَّمتِ حَرامٌ"(2). وَ وَرد في نفس هذا المعنى في حديث آخر، في وصايا النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، إلى الإمام علي(عليه السلام)(3). وَ وَرد عن الإمام الصّادق(عليه السلام)، أنّه قال: "وَ لا صَمْتَ يَوماً إِلَى اللّيلِ"(4). و الطّبع، فإنّ من آداب الصّوم عندنا، هو المحافظة على اللّسان و باقي الجوارح من الذّنوب، قال الإمام الصادق(عليه السلام) في هذا الصّدد: "إِنّ الصّومَ لَيسَ مِنْ الطّعامِ و الشَّرابِ وَحْدَهُ إِنَّ مَريَمَ 1. سورة مريم، الآية 23 إلى 26. 2. وسائل الشيعة، ج7، ص390، باب تحريم صوم الصّمت. 3. المصدر السابق. 4. المصدر السابق. [ 257 ] قَالتْ إِنّي نَذَرتُ لِلرَّحمانِ صَوماً أي صمْتاً فَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُم وَغُضُّوا أَبْصارَكُم"(1). و من هذه الآية و الرّوايات الشّريفة، التي وردت في تفسيرها، تتبيّن أهميّة و قيمة السّكوت، في خطّ التّربية و التّهذيب. و في الآية (10) من نفس السورة، توجد إشارةٌ اُخرى لفضيلة السّكوت، و ذلك عندما وهب الباري تعالى يحيى(عليه السلام)، لنبيّه الكريم زكريّا(عليه السلام)، فخاطب الباري تعالى، و قال: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لي آيَةً )، فقال له: (قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَال سَوِيّاً )، ولا تحركه إلاّ بذكر الله. و صحيح أنّ هذه الآية لم تَحمد ولم تَذم السّكوت، ولكن قيمة السّكوت تتّضح، من جعله: آيةَ النّبي زكريا(عليه السلام). وورد نفس هذا المعنى، في الآية (41) من سورة آل عمران، فبعد تلقّيه البشارة من الباري تعالى، طلب أن يجعل له آيةً في دائرة تقديم الشّكر للباري تعالى، فقال له: (قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّام إِلاَّ رَمْزاً ). و إحتمل بعض المفسّرين، أنّ إمتناع زكريا(عليه السلام) عن الكلام، كان بإختياره ولم يكن مجبوراً عليه، والحقيقة أنّه كان مأموراً بالسّكوت لمدّة ثلاثة أيّام. يقول الفَخر الرّازي، نقلاً عن "أبي مسلم": أنّ هذا النحو من التّفسير جميلٌ و معقولٌ، لكنّه مخالفٌ لسياق الآية، فزكريّا(عليه السلام) طلب آيةً لمّا بُشّر بيحيى، و السّكوت الإختياري لا يكون دليلاً على هذا المعنى، إلاّ بتكلّف وتحميل على المفهوم من الآية الشّريفة. و على أيّةِ حال فإنّ هذا الاختلاف في تفسير الآية، لا يُؤثّر على ما نحن فيه، لأنّ غرضنا من إيراد هذه الآيات، هو التّنويه بقيمة السّكوت في القرآن الكريم، بإعتباره آيةً من الآيات الإلهيّة. -- 1. نور الثّقلين، ج3، ص332. [ 258 ] السّكوت في الروايات الإسلاميّة: ما ورد عن: "الصّمت"، في الروايات الإسلاميّة، أكثر من أن يُحصى، فقد أشارت الروايات إلى عدّة نقاط وملاحظات دقيقة وهامة جدّاً في هذا الصّدد، و بيّنت ثمرات جميلةً للصّمت، و منها: 1 ـ دَور السّكوت في تعميق التّفكير، و ثبات العقل، فقد قال الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "إِذا رَأَيْتُمْ المُؤمِنَ صَمُوتاً فَآدْنُوا مِنْهِ فَإِنَّهُ يُلْقي الحِكْمَةَ، وَالمُؤمِنُ قَليلُ الكَلامِ كَثِيرٌ العَمَلِ وَالمُنـافِقُ كَثِيرُ الكَلامِ قَلِيلُ العَمَلِ"(1). 2 ـ و جاء عن الإمام الصّادق(عليه السلام)، أنّه قال: "دَلِيلُ العاقِلِ التَّفَكُّرُ وَدَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمتُ"(2). 3 ـ ما ورد عن الإمام علي(عليه السلام)، أنّه قال: "أَكْثِرْ صَمْتَكَ يَتَوفَر فِكْرُكَ و يَستَنيرُ قَلْبُكَ وَ يَسلَم النّاسُ مِنْ يَدِكَ"(3). فيظهر من هذه الرّوايات، العلاقة الوثيقة الدقيقة، التي تربط التّفكر بالسّكوت، و دليله واضح، لأنّ القوى الفكريّة سوف تفقد التوحّد و الإنسجام، و تصيبها حالةٌ من التّشتت و الإنفلات، في حالات الكلام الزّائد، و عندما يتخذ الإنسان السّكوت جِلباباً له، فستَتَمَركز قِواه الفكريّة، ممّا يعينه على التّفكير الصّحيح، و بالتّالي إنفتاح أبواب الحِكمة بِوَجهه، ولا يُلّقى الحكمة إلاّ ذو حَظٍّ عظيم. 4 ـ يُستَشفّ من بعض الأخبار، أنّ السكوت هو أهمّ العبادات، فنقرأ في مواعظ الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، لأبي ذر(رحمه الله)، قال: "أَرْبَعَ لا يُصِيبَهُنَّ إلاّ مُؤمِنْ، الصَّمْتُ وَهُوَ أَوَّلَ العِبادَةِ"(4). 1. بحار الأنوار، ج75، ص312. 2. المصدر السابق، ص300. 3. ميزان الحكمة، ج2، ص1667، الرقم 10825. 4. المصدر السابق، مادة الصّمت، ح10805. [ 259 ] 5 ـ و يُستفاد من الرّوايات الواردة، أنّ كثرة الكلام تزرع القساوة في القلب، فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام)، حديثٌ يقول فيه: "كانَ المَسِيحُ(عليه السلام) يَقُولُ لاتكثروا الكَلامَ في غَيرِ ذِكْرِ اللهِ فَإنَّ الَّذِينَ يكْثِرُونَ الكَلامَ في غَيرِ ذِكْرِ اللهِ قاسِيَةٌ قُلُوبُهُم وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ"(1). 6 ـ ما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، أنّه قال: "إِنَّ الصَّمْتَ بابٌ مِنْ أَبوابِ الحِكْمَةِ، إِنَّ الصَّمْتَ يَكْسِبُ الَمحَبَّةَ إِنَّهُ دَليلٌ عَلَى كُلِّ خَير"(2). فقوله إنّ السّكوت يكسب المحبّة، لأنّ أكثر المشاحنات و الملاحاة، تصدر عن اللّسان، و السّكوت يسدّ أبواب الشّر. 7 ـ السّكوت نجاةٌ من الذّنوب، و مفتاح دخول الجنة، فقد ورد في حديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، قَالَ لِرَجُل أَتاهُ: أَلا أَدُلُّكَ عَلى أَمْر يُدخِلُكَ اللهُ بِهِ الجَنَّةَ؟، قَالَ: بَلى يا رَسُولَ الله، قال(صلى الله عليه وآله): "....فاصْمُتْ لِسانَكَ إلاّ مِنْ خَير، أَما يَسُرُّكَ أَنْ تَكُونَ فِيكَ خِصلَةٌ مِنْ هُذِهِ الخِصال تَجُرُّكَ إِلى الجَنَّةِ"(3). 8 ـ و السّكوت علامةُ الوقار، فقد ورد عن الإمام علي(عليه السلام): "الصَّمْتُ يَكْسِبُكَ الوِقارُ، وَيَكْفِيكَ مَؤُونَةَ الإِعتِذارِ"(4). فالثّرثار كثير الخطأ، كثير الإعتذار و النّدم، لما يصدر منه مِنْ شطحات، من موقع الغفلة و الإندفاع العاطفي و الإنفعال النّفسي. 9 ـ و عنه(عليه السلام)، في حديث أوضح وأجلى، فقال: "إِنْ كانَ في الكَلامِ بَلاغَةٌ فَفي الصَّمْتِ سَلامَةٌ مِنَ العِثارِ"(5). فالصّمت قد يكون، أبلغ من أيّ كلام في بعض الموارد!. 10 ـ ما ورد عن الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام)، أنّه قال: "نِعْمَ العَونُ الصَّمْتُ في مَواطِن كَثِيرة وَ إِنْ كُنْتَ فَصِيحاً"(6). 1. اُصول الكافي، ج2، ص114، (باب الصّمت و حفظ اللسان، ح 11). 2. المصدر السابق، ص113. 3. اُصول الكافى، ج 2، ص 113. 4. غرُر الحِكم، الرقم 1827. 5. المصدر السابق، الرقم 3714. 6. ميزان الحِكمة، مادّة صمت، ح10826. [ 260 ] و هناك رواياتٌ كثيرةٌ في هذا المجال، لم نذكرها هنا، خوفاً من الإطالة و الخروج عن مِحَور البحث. -- إزالة وَهم: إنّ كلّ ما ورد في الآيات و الأحاديث الشّريفة، من معطيات الصّمت الإيجابيّة في حياة الإنسان وواقعه، من قَبيل تعميق الفكر ومنع الإنسان من الوقوع في الخطأ، و صيانته من كثير من الذّنوب، و حفظ وَ قاره و شَخصيّته، و عدم الحاجة إلى الإعتذار المُكَرّر، و أمثالُ ذلك، كِلّ هذا لا يعني أن السكوت، يمكن أن يتخذه الإنسان قاعدةً على الدّوام، فالسّكوت المَطلق مذمومٌ بدوره، و خسارةٌ اُخرى لا تُعوّض. و الغاية ممّا تقدم، في مَدح السّكوت و الصّمت في الآيات و الرّوايات الإسلامية، هي منع اللّسان عن الثّرثرة و فضول الكلام، في خط التّربية و مصداق، أن: "قلْ خيراً وإلاّ فاسْكت"، و إلاّ فالسّكوت في كثير من الاُمور، حَرامٌ مَسلّمٌ. ألم يذكر القرآن الكريم في سورة الرحمن نعمة البيان باعتبارها من أسمى إفتخارات البشر؟ ألا تقام أكثر وأغلب العبادات كالصلاة وتلاوة القرآن الكريم ومراسم الحج والذكر باللسان؟ ولولا اللسان، فكيف سيتمكن المؤمن من إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيف سيكون دور الإرشاد والتربية والتعليم، وكيف سيتمكن العلماء والمصلحين من أداء دورهم في عملية هداية الناس وإرشادهم إلى طريق الحق والسعادة؟! فالمذموم هو الافراط والتفريط والطريق الوسطى هي الجادّة! وما صدر من إمامنا السجاد(عليه السلام) في هذا المضمار هو خير مرشد ودليل في هذا المجال، حيث سأله شخص عن أيهما الأفضل: الكلام أو السكوت؟ فقال(عليه السلام): "لِكُلِّ وَاحد مِنْهُمـا آفـاتٌ فَإذا سَلِمـا مَنَ الآفـاتِ فَالكَلامُ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ، قِيلَ [ 261 ] كَيفَ ذَلِكَ يـا بنَ رَسُولِ الله(صلى الله عليه وآله)؟ قَالَ: لاَِنّ اللهَ عَزَّوَجَلَّ مـا بَعَثَ الأَنْبِيـاءَ وَالأَوصيـاءَ بِالسُّكُوتِ، إِنَّمـا بَعَثَهُم بِالكِلامِ، وَلا اسْتَحَقَّتِ الجَنَّةُ بِالسُّكُوتِ وَلا اسْتَوجَبَتْ وِلايَةً بِالسُّكُوتِ وِلا تِوَقِّيتِ النّارُ بِالسُّكُوتِ إِنَّمـا ذَلِكَ كُلُّهُ بِالكَلامِ، وَمـا كُنْتُ لاِعدِلَ القَمَرَ بِالشَّمْسِ إِنَّكَ تَصِفُ فَضْلَ السُّكُوتِ بِالكَلامِ وَلَسْتَ تَصِفُ فَضْلَ الكَلامِ بِالسُّكُوتِ"(1). أجل لا شك أنّ لكلٍّ من الصّمت و الكلام، محاسنه و مَساويه، و الحقّ أنّ إيجابيات الكلام أكثر، ولكن متى؟، فقط: عندما يصل الإنسان، إلى مراحل سامية من التّهذيب للنفس، في معراج الكمال المعنوي، وأمّا من كان في بداية الطّريق، فعليه التّحلي بالسّكوت رَيْثَما تتعمق في نفسه تلك الملكات الرّوحانية، التي يكتسبها الإنسان في حركة الانفتاح على الله، أو كما يُقال، ريثما يملك السّالك لسانه عن ممارسة اللّغو و الكلام الباطل، و بعدها يجلس لِلوَعظ والإرشاد. و بالإمكان بيان معيار جيّد لهذه الحالة، فنحن إذا أردنا في يوم من الأيّام، تسجيل ما يصدر منّا من كلمات و ألفاظ على آلة التسجيل، ثم أصغينا لهذه الأحاديث و الكلمات، منِ موقع الإنصاف و بعيداً عن التّعصب، فَسَنرى الشّريط ملىءٌ بالتّفاهات و التّرّهات، ولن يبقى من الكلام المفيد إلاّ كلماتً أو جملا قليلةً، تتعلق بالغايات الإلهيّة و الحاجات الضرورية، في حركة الحياة والواقع العملي. ا ص262 - ص276و يبقى أمرٌ أخير، تجدر الإشارة إليه، أَلا و هو، أنّ "الصّمت" و "السّكوت" وَردا بمعنى واحد في معاجم اللّغة، ولكن بعض علماء الأخلاق ذهب إلى وجود فرق بينهما، فان السّكوت هو التّرك المُطلق للكلام، و الصّمت هو التّرك المقصود للكلام الزائد واللّغو، أي: "تركُك ما لا يُعينك"، و هدف السّالك الحقيقي في إطار تهذيب النّفس، و السّلوك المعنوي ينسجم مع: ]الصّمت[ لا ]السّكوت[. إصلاح اللّسان: ما تقدم آنفاً من أهمية السّكوت أو الصّمت، و دوره في تهذيب النّفوس، و الأخلاق في 1. بحار الانوار، ج68، ص274. [ 262 ] خطّ السّير و السّلوك إلى الله، هو في الحقيقة من الطّرق الحياتيّة للوقاية من آفات اللّسان، لأنّ اللّسان في الحقيقة، هوالمفتاح للعلوم و الثّقافة و العقيدة و الأخلاق، و إصلاحه يُعدّ أساساً لِكلّ الإصلاحات الأخلاقيّة في واقع الإنسان، و العَكس صحيح، ولأجله فإنّ الحديث عن إصلاح اللّسان، أوسع منَ مبحث السّكوت و أَشمل. و قد إكتسب مبحث إصلاح اللّسان، أهميّةً بالغةً في الأبحاث الأخلاقيّة بإعتباره، تُرجمان القلب ورَسول العَقل، و مفتاح شخصيّة الإنسان، و نافذة الرّوح على آفاق الواقع. و بعبارة اُخرى: إنّ ما يرتسم على صفحات الرّوح و النّفس، يظهر قبل كلّ شيء على فَلتات اللّسان، و اللّطيف في الأمر أنّ قُدامى الأطباء، كانوا يُشخّصون المرض، و يتعرّفون على سلامة الشّخص و مزاجه عن طريق اللّسان، فَلَم تكن عندهم هذه الإمكانيّات المعقدّة التي بأيدينا اليوم، فالطّبيب الحاذق، كان يتحرك في عمليّة تشخيصه، لأمراض الباطن عن طريق اللسان، حيث يَنكشِف له من خلال ظاهر اللّسان ولونه، الأمراض الكامنة في خَبايا جسم صاحبه. و هكذا الحال بالنّسبة لأمراض الرّوح و العقل و الأخلاق، فيمكن للّسان أن يكشف لنا المفاسد الأخلاقيّة، و السّلبيات النّفسية و التّعقيدات الرّوحية، التي تعتلج في صدر وروح الإنسان أيضاً. و عليه، فإنّ علماء الأخلاق يرون، أنّ همّهم الأول والأخير حفظ وإصلاح اللّسان، و يعتبرونها خُطوةً مهمّةً و مؤثرةً في طريق التّكامل الرّوحي و الأخلاقي، وقد عكس لنا أميرُالمؤمنين(عليه السلام)، ذلك الأمر في حديثه الذي قال فيه: "تَكَلَّمُوا تُعرَفُوا فإنّ المَرءَ مَخبُوءٌ تَحتَ لِسانِهِ"(1). وجاء في حديث آخر، عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عَبد حَتّىْ يَسْتَقِيمَ قَلْبُهَ و َلا يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ حَتّى يَستَقِيمَ لِسانْهُ"(2). 1. نهج البلاغة، الكلمة 392، من قصار كلماته(عليه السلام). 2. بحار الأنوار، ج68، ص287، المحجّة البيضاء، ج5، ص193. [ 263 ] و نعود بعد هذه الإشارة إلى أصل بحثنا، و نقسّمه إلى أربعة محاور. 1 ـ أهميّة اللّسان بإعتباره نعمة إلهية كبيرة. 2 ـ العلاقة الوثيقة بين إصلاح اللّسان، و إصلاح روح وفكر الإنسان وأخلاقه. 3 ـ آفاتُ اللّسان. 4 ـ الاُصول والأسس الكليّة، لِعلاج آفاتِ اللّسانِ. في المحور الأوّل: تحدّث القرآن الكريم، في آيتين من سورة "البلد" و "الرّحمان"، بِأبلغ الكلام. فنقرأ في سورة البَلد، الآيات (8 ـ 10): (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَينَينِ وَلِساناً وَ شَفَتَينِ وَ هِدَيناهُ النَّجْدَينِ ). فبيّنت هذه الآيات الشّريفة، النّعم و المواهب الإلهيّة الكبيرة على الإنسان في الحياة، من قَبيل نِعمة العين و اللّسان و الشفتان، كأدوات و جوارح يستخدمها الإنسان لمعرفة الخَير و الشّر. نعم، فإنّ الحقيقة، أنّ أعجب جوارح الإنسان هي اللّسان، قطعةٌ من البدن، حَمَلَتْ و حُمّلت أثقل الوظائف، فاللّسان علاوة على دوره في بلع الطّعام و مَضغِه، فإنّه يؤدي واجِبَهُ بِمهارة فائقة من دون أيّ إشتباه، في أداء هذه المهمّة الكبيرة، وَلَوْلا مهارته في تَقليب اللّقمة بين الأسنان، فماذا سيكون حالنا!، وبعد الأكل يقوم بعمليّة تنظيف الفم و الأسنان أيضاً. والأهمّ من ذلك و الأعجب، هو كيفيّة الكلام، بواسطة حركات اللّسان السّريعة، و المرتّبة و المنظّمة في جميع الجهات. و اللّطيف في الأمر، أنّ الله سبحانه و تعالى، قد سهّل عمليّة الكلام، بصورة كبيرة بحيث أنّ اللّسان لا يملّ ولا يكلّ من النّطق و التّحدث إلى هذا و ذاك، و من دون تكلفة و نفقة، و الأعجب من ذلك، قابلية الإنسان للكلام، و تكوين الجمل و الكلمات المختلفة، كموهبة إلهية، و ملكة أصليّة في روح الإنسان وفطرته، بالإضافة إلى إستعداده و قدرته، لتكوين و تأليف اللّغات المختلفة، وتعددها إلى الآلاف، و كلّما مرّ الزمان إزداد عددها و تنوّعها بتنوع الأقوام [ 264 ] والجماعات البشريّة. فليس عجيباً عندما يتحدث عنها القرآن الكريم، و يقول أنّها أعظم النعم؟ و الجدير بالذكر، أنّ الآية الكريمة ذكرت الشّفتين إلى جانب اللّسان، فهما في الحقيقة يُساعدان اللّسان في التّلفظ بالكثير من الحروف، وتنظيم الأصوات والكلمات في عمليّة التّكلم. و من جهة اُخرى فإنّ الشّفتين، أفضل وسيلة للسّيطرة على اللّسان، كما حدّثنا بذلك رسولنا الكريم(صلى الله عليه وآله)، عن الباري تعالى، أنّه قال: "يا ابنَ آدَمَ إِنْ نازَعكَ لِسانُكَ فِى ما حَرَّمَتُ عَلَيكَ فَقَدْ أَعَنْتُكَ بِطَبَقَتَينِ فأطْبِق"(1). و في بداية سورة الرّحمان: (الآيات 1 ـ 4)، يشير سُبحانه إلى نعمة البيان، التي هي ثمرة من ثمرات اللّسان، و بعد ذكر إسم "الرّحمان"، التي وسعت رحمته كلّ شيء، يشير سُبحانه إلى أهمّ و أفضلّ المواهب الإلهيّة، يعني القرآن الكريم، ثم خلقة الإنسان، ثم يعرّج على موهبة البيان لدى الإنسان: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الاِْنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ). و بناءاً عليه فإنّ نعمة البيان، هي أهمّ موهبة أعطاها الله سبحانه، لعباده بعد خلقهم. و إذا ما أردنا أن نستعرض دور البيان، في تكامل ورُقي الإنسان، ودوره الفاعل في بناء الحضارة الإنسانيّة، عندها سنكون على يقينِ بأنّه لولا تلك النّعمة الإلهيّة، و الموهبة الربّانية، لما إستطاع الإنسان أن ينقل خبراته وتجاربه للأجيال المتعاقبة، ولما تقدّم العِلم، ولما إنتشر الدّين والأخلاق والحضارات بين الاُمم السّابقة و اللاّحقة. ولنتصور أنّ الإنسان، في يوم من الأيّام، سيفقد هذه الموهبة، فممّا لا شك فيه أنّ المجتمع البشري، سيعود في ذلك اليوم إلى أجواء التّخلف الحضاري، و الإنحطاط في جميع الصُّعد. عُنصر "البيان"، تتوفر فيه أداةٌ و نتيجةٌ، و بما أنّنا إعتدنا عليه، فلذلك نتعامل مع هذه الظّاهرة من موقع اللاّمبالاة وعدم الإهتمام، لكنّ الحقيقة هي غير ذلك، فهو عملٌ دقيقٌ معقّدٌ فنّيٌ لا مثيل له ولا نظير. لأنّه من جهة، تتعاون الأجهزة الصوتيّة فيما بينها، من الرئة إلى الهواء الداخل إلى الأوتار الصوتيّة، و التي بدورها تتعاون، مع: اللّسان و الشّفتان و الأسنان و الحلق 1. مجمع البيان، ج10، ص494، ذيل الآية المبحوثة، نور الثقلين، ج5، ص518. [ 265 ] و الفم، لتكوين و تأليف الأصوات بسرعة فائقةِ دقيقة جدّاً، حتى يصل إلى الحُنجرة، التي تقوم بتقطيعه وتقسيمه حسب الحاجة. ثم إنّ قصّة وضع اللّغات البشريّة، و تعدّدها و تنوّعها هي قصةٌ عجيبةٌ و معقدةٌ، و تزيد من أهميّة الموضوع، "يقول بعض العلماء: أنّ عددَ لُغات العالم، وصل إلى حوالي (3000) لغة". و نحن نعلم أنّ هذا العدد لن يتوقف عند هذا الحد، و أنّ عدد اللّغات في تزايد مُستمر. فهذه النّعمة الإلهيّة، هي من أهم و أغرب و ألطف النّعم، و التي لها دورٌ فاعلٌ في حياة الإنسان وتكامله ورقيّه، و هي الوسيلة، لتقارب البشر وتوطيد العلاقات فيما بينهم، على جميع المستويات. و قد إنعكست هذه المسألة، في الرّوايات بصورة واسعة، و منها ما وَرد عن أمير المؤمنين(عليه السلام): "ما الإِنسانَ لَولا اللّسانُ إِلاّ صُورَةٌ مُمَثَّلَةٌ أَو بَهَيمَةٌ مُهمَلَةٌ"(1). والحقُّ ما قاله الإمام(عليه السلام)، لأنّه لولا اللسان فعلاً لَما إمتاز الإنسان عن الحيوان، وَ وَرد في حديث آخر، عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "الجَمالُ فِي اللّسانِ"(2). و نقل هذا الحديث بصورة اُخرى، عن أميرالمؤمنين(عليه السلام): "الجَمالُ في اللّسانِ والكَمالِ في العَقلِ"(3). و نختم بحديث آخر عن عن الإمام علي(عليه السلام)، فقال: "إِنّ فِي الإِنسانِ عَشَرَ خِصَال يُظْهِرُها لِسانُهُ، شاهِدٌ يُخْبِرُ عَنِ الضَّميرِ، وَ حاكِمٌ يَفْصِلْ بَينَ الخِطابِ، وَ ناطِقٌ يَرُدُّ بِهِ الجَوابَ، وَ شافِعٌ يُدْرِكُ بِهِ الحاجَةَ، وَواصِفٌ يَعْرِفُ بِهِ الأشياءَ، وَأَمِيرٌ يأمُرُ بِالحَسَنِ، وَ وَاعِظٌ يَنهى عَنِ القَبِيحِ، وَمُعَزٍّ تَسْكُنُ بِهِ الأحزانُ، وَ حاضِرٌ (حامِدٌ) تُجْلى بِهِ الضَّغائِنُ، وَ مُونِقٌ تَلَذُّ بِهِ الأَسماعُ"(4). ولحسن الختام، نعرج على كتاب: "المحجّة البيضاء" في "تهذيب الأحياء". 1. غُرر الحِكم، الرقم (9644). 2. بحار الأنوار، ج74، ص141، ح24. 3. المصدر السّابق، ج75، ص80، ح64. 4. الكافي، ج8، ص20، ح4. [ 266 ] ففي بداية الكلام، و تحت عنوان: "كتاب آفات اللّسان"، يقول: (فإنّ اللّسان من نعم الله العظيمة، و من لطائف صُنعه الغريبة ،فإنّه صغيرٌ جرمه، عظيمٌ طاعته وجرمه، إذ لا يستبين الكفر و الإيمان، إلاّ بشهادة اللّسان، وهما غاية الطّاعة و الطغّيان، ثمّ إنّه ما من موجود أو معدوم، خالق أو مخلوق، متخيّل أو معلوم، مظنون أو موهوم إلاّ و اللّسان يتناوله، و يتعرّض له بإثبات أو نفي، فإنّ كلّ ما يتناوله العلم، يُعرب عنه اللّسان، إمّا بحقّ أو باطل، ولا شيء إلاّ و العلم متناول له، وهذه خاصيّة لا توجد في سائر الأعضاء، فإنّ العين لا تصل إلى غير الألوان و الصّور، و الأذن لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل إلى غير الأجسام، وكذا سائر الأعضاء، واللّسان رَحب الميدان، ليس له مردّ ولا لمجاله مُنتهى ولا حدّ، فله في الخير مجال رَحب، و له في الشرّ مجرى سحب، فمن أطلق عذبة اللّسان وأهمله مرخى العِنان، سَلك به الشّيطان في كلّ ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار).(1) علاقة اللّسان بالفكر والأخلاق: لا شك أنّ اللّسان هو نافذة الرّوح، و هو يعني أنّ شخصيّة الإنسان مخبوءةٌ تحت لِسانِه، و بالعكس فإنّ كلمات كلّ إنسان لها دورٌ في بلورة وصياغة روحه ونفسيّته، فالتّأثير بين الكلام و شخصيّة المتكلم، هو تأثيرٌ مُتقابلٌ. و الآية الوحيدة التي تناولت، علاقة اللّسان بالفكر والأخلاق، هي الآية (30) من سورة محمد(صلى الله عليه وآله)، بالشّكل الذي يشخّص معها الإنسان، ما يدور في خُلد طَرفه المقابل، عن طريق حديثه وكلامه معه، ولذلك فإنّ الإنسان، سعى قديماً و حديثاً للتّركيز على هذا الأمر، لمعرفة خبايا و بواطن الرّجال عن طريق المحادثة و الطّب النّفسي، فنقرأ في هذه الآية، التي نزلت لتفضح المنافقين، قوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لاََرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيَماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ). و على حدّ تعريف الرّاغب، في: "مفردات القرآن"، أنّ معنى "اللّحن"، هو الخطأ في الإعراب، أو الانحراف عن قواعد اللّغة، أو قلب الكلام من الصّراحة إلى الكناية، و 1. المحجّة البيضاء، ج5، ص190. [ 267 ] الإشارات، "ولحن القول" المقصود في الآية، هو المعنى الأخير، وهي الكنايات و التّعبيرات ذات المعاني المتعدّدة، و الحّمالة لوجوه. ففي حديث عن أبي سعيد الخدُري قال: (لَحْنُ القَولِ بُغْضُهُم عَلي بنَ أَبي طالب، وَكُنَّا نَعْرِفُ المُنافِقِينَ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ بِبُغْضِهِم عَلي بنَ أَبي طالِب)(1). ولم تنسَ الروايات حظها في هذا المجال، فقد وَرد: 1 ـ "ما أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيئَاً إلاّ ظَهَرَ فِي فَلَتاتِ لِسانِهِ وَ صَفَحاتِ وَجِهِهِ"(2). فهذا الحديث يمكن أن يكون أساس الطبّ والعلوم النّفسية، و الحقيقة أنّ اللّسان هو مرآة الرّوح. 2 ـ و عنه(عليه السلام) أيضاً: "الإِنسانُ لُبُّهُ لِسانُهُ"(3). 3 ـ و عنه(عليه السلام) أيضاً: "قُلْتُ أَربَعاً، أَنْزَلَ اللهُ تَصدِيقي بِها في كِتابِهِ، قُلْتُ المَرءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسانِهِ فإذا تَكَلَّمَ ظَهَرَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعالى (وَلَتَعْرِفَنَّهُم فِي لَحْنِ القَولِ)(4)، قُلْتُ فَمَنْ جَهِلَ شَيئَاً عاداهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ; (بَلْ كَذَّبُوا بِمـا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)(5)، وَ قُلْتُ قِيمَةُ كُلُّ اِمرِء ما يُحْسِنُ، فَأَنْزَلَ اللهُ، فِي قِصَّةِ طالُوتَ (إِنَّ اللهَ اصطفَاهُ عَلَيكُم وَزَادهُ بَسْطَةً في العِلْمِ و الجِسمِ)(6)، وَ قُلْتُ القَتلُ يُقِلُّ القَتلَ، فَأَنْزَلَ اللهُ، وَلَكُم فِي القِصاصِ حياةٌ يـا اُولِي الأَلبابِ)(7)"(8). 4 ـ و في حديث آخر عنه(عليه السلام) أيضاً قال: "يُسْتَدَلُّ عَلى عَقْلِ كُلِّ اُمرِء بِما يَجرِي عَلَى لِسانِهِ"(9). 1. مجمع البيان، ج6، ص106، ونقل كثير من أهل الحديث هذه القصة، كأحمد بن حنبل في الفضائل، و إبن عبدالبر في "الإستيعاب" والذهبي في "تاريخ أوّل الإسلام" و إبن الأثير في "جامع الاُصول"، و غيرها. 2. نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 26. 3. بحار الأنوار، ج78، ص56. 4. سورة محمد، الآية 30. 5. سورة يونس، الآية 39. 6. سورة البقرة، الآية 247. 7. سورة البقرة، الآية 179. 8. بحار الأنوار، ج68، ص283. 9. غرر الحكم. [ 268 ] و قال(عليه السلام) أيضاً: "إِياكَ و الكَلامَ في ما لا تَعْرِفُ طَرِيقَتَهُ وَلا تَعْلَمَ حَقِيقَتَهُ فَأنَّ قَولَكَ يَدُلُّ عَلى عَقْلِكَ وَ عِبادَتِكَ تُنْبَؤُ عَنْ مَعْرِفَتِكَ"(1). و الحقيقة أنّ اللّسان له دور حيوي و فعّال، في حياة الإنسان وبناء شخصيته، وهو أمرٌ لا يخفى على أحد، وله أصداءٌ واسعةٌ في الرّوايات الإسلاميّة، و ما ورد آنفاً ليس إلاّ نَزَرٌ قليلٌ من ذاك الكمّ الكثير. و بالطّبع فإنّ النّعم الإلهيّة العظيمة، هي رأسمالٌ عظيمٌ لبناء الذّات في طريق التّكامل المعنوي، وكلمّا إزدادت النعم الإلهيّة، و توسّعت، إزداد الأمر خطورةً، للحفاظ عليه من الآفات و الأخطار في دائرة التّحديات الصعبة، التي تحاول القضاء على شخصيّة الإنسان. و المعروف: "أنّه إلى جانبِ كلِّ جبل عظيم واد سحيق"، ففي جانب كلّ نعمة و موهبة، هناك خطرٌ محدقٌ، فالطّاقة الذريّة مثلاً إذا اُستعملت في الأغراض السلميّة، و الإعمار، فستبني و تُعمّر دنيا الإنسان، وإذا ما استعملت في الشر فستفني العالم في دقائق معددوة. و منها نفتح باب الحديث، على آفات اللّسان. -- آفات اللّسان: كما أشرنا أنّ فوائد اللّسان و بركاته البنّاءة عديدةٌ، و كذلك آثاره السلبيّة، و ما يترتب عليه من ذنوب و آثام، و نتائج مخرّبة على مستوى الفرد والمجتمع، وقد ذكر العلاّمة المرحوم الفيض الكاشاني(رحمه الله)، في كتابه: "المحجّة البيضاء"، والغزالي في كتابه: "إحياء العلوم"، بحوثاً مطوّلة، فذكر الغزالي عشرين نوعاً من أنواع الإنحرافات و الأخطار للّسان: 1 ـ الكلام في ما لا يعني الإنسان، "وليس له أثر مادّي و لا معنوي في حياة الإنسان". 2 ـ الثّرثرة والكلام اللّغو. 1. غرر الحكم. [ 269 ] 3 ـ الجدال و المراء. 4 ـ الخصومة و النّزاع و اللّجاج في الكلام. 5 ـ التّكلم حول المنكرات، مثل الشّراب و القمار و ما شابهه. 6 ـ التكلّف في الكلام، و التّصنع في السّجع و القافية. 7 ـ البَذاءة 8 ـ اللّعن لغير مستحقّيه. 9 ـ الغِناء. 10 ـ المِزاح الرّكيك. 11 ـ السّخرية و الإستهزاء بالآخرين. 12 ـ إفشاء أسرار الناس. 13 ـ الوعود الكاذبة. 14 ـ الكذب والأخبار الكاذبة. 15 ـ الغيّبة. 16 ـ النمَّيمة. 17 ـ النّفاق في اللّسان، "أو كما يقال ذواللّسانين". 18 ـ المدح لِغَير مُستَحقّيه. 19 ـ الكلام و التّحدث بدون تفكّر و تدبّر، حيث يُصاحبه الوقوع في الخطأ والاشتباه عادة. 20 ـ التّساؤل عن الاُمور المعقدّة و الغّامضة، التي تخرج عن قُدرة المسؤول، هذا و إنّ الدّقة في البحث، أثبتت لنا أنّ الآفات لا تَنحصر بهذه الاُمور فقط، فالمرحوم الكاشاني و الغزالي، ربّما لم يكن قَصدهما، إحصاء جميع عناصر الخلل و الزّيغ في اللّسان، ولذلك فإنّنا نضيف إلى هذه الموارد العشرين، موارد اُخرى، و هي: 1 ـ التّهمة. [ 270 ] 2 ـ الشّهادة بالباطِل. 3 ـ مدح النّفس. 4 ـ نشر الشّائعات و الأكاذيب، التي لا تعتمد على أساس، و إشاعة الفَحشاء و المُنكر، و إن كان من باب الإحتمال. 5 ـ البذاءَة و الخُشونة في الكلام. 6 ـ الإصرار العَقيم: (كما أصرّ أصحاب بقرة بني إسرائيل). 7 ـ ايذاء الآخرين بالكلام الجارِح. 8 ـ المذمّة لغير مُستحقيها. 9 ـ الكُفران و عدم الشّكر باللّسان. 10 ـ الدّعاية لِلباطِل، و التّرغيب على الذَنب، و الأمر بالمُنكر، و النّهي عن المعروف. و غَنيٌّ عن البيان، أنّ ما تقدّم آنفاً لا يشكل جميع خطايا اللّسان، بل يمكن القول أنّ هذه الموارد الثّلاثين، من اُمهّات المِوارد في هذا الصّدد. و الجدير بالذّكر، أنّ البَعضِ أفرطوا في هذا المجال، و نسبوا إلى اللّسان ذُنوباً هو بَريءٌ منها، كَإظهار الفقر والمَسكنة و البدعة في الدّين، و التّفسير بالرّأي و الجاسوسيّة ما شابَهها، فكلٌّ منها يعتبر ذنباً مُستقلاًّ، فربما إرتكبت باللّسان أو بالقلم، أو بوسائل اُخرى، و تصنيفها في عداد ذنوب اللّسان، ليس بالشّيء المُناسب، لأنّه على هذا الأساس، يمكن تصنيف جميع الذّنوب في قائمة ذنوب اللّسان، حيث إنّها ترتكب بنوع ما، بواسطة اللّسان، أو أنّ لها علاقة به، كالرّياء والحسد والتكبر و القتل و الزّنا. و البعض أَقَدم على كلّ خطيئة من خَطايا اللّسان، و قسّمها إلى أقسام عديدة، و جعل كلّ قسم منها، في فرع خاصٍّ و عنوان مستقل، مثل الجَسارة مع الأستاذ أو الوالدين، أو تلقيبّهم بألقاب نابية. و على كلّ حال، علينا إتخاذ جانب الإعتدال في كلّ شيء، و إن كانت هذه التّقسيمات، في الحقيقة لا تؤثّر في أصلِ البحث. -- [ 271 ] الاُسس الكليّة للوقاية من أخطار اللّسان: تبيّن ممّا سَبق، أنّ اللّسان في الوقت الذي يعدّ فيه نعمةً إلهيةً عظميةً، هو في نفس الوقت، خطرٌ جدّاً إلى درجة أنّ بإمكانه، أن يكون مصدرَ الخطايا و الذّنوب، و أن يَهبُط بالإنسان في خطّ الباطل، إلى أسفل السّافلين و يجره إلى الحَضيض. و لأجله علينا التّفكير، في الاُصول التي تُعيننا في تجنّب أخطاره الكبيرة، أو تقليلها إلى أقصى حد. و نستعين في دائرة الكشف عن أخطار اللّسان، بتوجيهات أئمّتنا العظام(عليهم السلام)و رواياتهم، وكذلك نَستعين بِبَعض من كلمات علماء الأخلاق، حيث وضعوا لنا اُصولاً و اُسساً و خطوطاً عامةً، عليها التَّعويل في حركتنا المعنويّة المتجهة نحو الله تعالى، و منها: 1 ـ الإنتباه الحَقيقي لأخطار اللّسان للوقاية من أخطار أيّ موجود خطر علينا، في البِداية نَلتَزِم حالة الإنتباه و التّوجه الّتام، لما يترتب عليه من أخطار، فعندما يستيقظ الإنسان كلّ يوم صباحاً، عليه أن يُوصي نفسه و معها على مستوى الحَذر، من شطَحات لسانه وأفكاره، لأنّ هذا العضو من البدن إذا تعامل معه الإنسان، من موقع الإنضباط في خطّ المسؤوليّة، فسوف يصعد به إلى أوج السّعادة و الكَمال، و إذا أطلق له العِنان، فسيورد صاحبه في المهالك، فهو وَحشٌ ضارَي لا همّ له إلاّ التّدمير و التّخريب، وقد ورد هذا المعنى بصورة جملية وتعبيرات مؤثّرة في رواياتنا الشّريفة، منها ما ورد عن سعيد بن جُبير، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، حيث قال: "إذا أَصبَحَ إبنُ آدَمَ أَصْبَحَتْ الأَعْضاءُ كُلُّها تَشْتَكِي اللِّسانَ أَي تَقُولُ إِتَّقِ اللهَ فِينا فَإِنَّكَ إِنْ اسْتَقَمْتَ إِسْتَقَمنا وَإِنْ إِعوَجَجْتَ إِعوَجَجنا"(1). و جاء عن إمامنا السّجاد(عليه السلام): "إِنَّ لِسان إبنِ آدَمَ يُشْرِفُ عَلى جَمِيعِ جَوارِحِهِ كُلَّ صَباحُ فَيَقُولُ كَيفَ أَصْبَحْتُم؟! 1. المحجّة البيضاء، ج5، ص193. [ 272 ] فَيَقُولُونَ بِخَير إِنْ تَرَكْتَنا وَيَقُولُونَ اللهَ اللهَ فِينا، وَيُناشِدُونَهُ وَيَقُولُونَ إِنَّما نُثابُ وَنُعاقَبُ بكَ".(1) 2 ـ السّكوت تطرّقنا سابقاً لمباحث السّكوت، بصورة وافية، و نقلنا آيات وروايات كثيرة في هذا الصّدد، فكلّما كانَ الكلام أقل، كان الزّلل كذلك، وكلّما كان السّكوت أكثر، كانتْ السّلامة تحيط بالإنسان في حركة الحياة والواقع، عِلاوةً على ذلك فإنّ إلتزام السّكوت في أغلب الحالات، يعوّد الإنسان السّيطرة على لسانه والحدّ من جموحه، و الوصول في هذه الحالة النّفسية، إلى درجة لا يقول إلاّ الحقّ، و لا يتكلّم إلاّ بما يُرضي الله تعالى. و يجب الإنتباه إلى أنّ المراد من السّكوت، ليس هو السكوت المطلق، فكثيرٌ من اُمورنا الحياتيّة لا يتحقّق إلاّ بالكلام، من قبيل كثير من الطّاعاتِ و العبادات، و نشر العلوم و الفَضائل، و إصلاح ذاتِ البَين، و أمثال ذلك، فالمقصود قلّة الكلام و الإجتناب عن فُضوله، فقد قال الإمام علي(عليه السلام): "مَنْ كَثُرَ كَلامُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ، مَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَياؤُهُ، وَ مَنْ قَلَّ حَياؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَ مَنْ قَلَّ وَرَعَهُ ماتَ قَلْبُهُ، وَ مَنْ ماتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النّارَ"(2). و نقل هذا التّعبير، بصورة اُخرى عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)(3). و في حديث آخر عن الإمام علي(عليه السلام)، أنّه قال: "الكَلامُ كَالدَّواءِ قَلِيلُهُ يَنْفَعُ وَكَثِيرهُ قاتِلٌ"(4). 3 ـ حِفظ اللّسان: "التفكّر أولاً ثّم الكَلام" إذا فكّر الإنسان في مضمون كلامه، و دوافعه و نتائجه، فسيكون بإمكانه أن يَتجنّب كثيراً من الشّطحات، و الذّنوب التي تنطلق من موقع الغفلة، نعم فإنّ إطلاق العِنان لِلّسان من موقع اللاّمبالاة و الإستهانة، بإمكانه أن يوقعه في أنواع الذّنوب و المَهالك في حركةِ الحياة. 1. الكافي، ج2، ص15، ح13. 2. نهج البلاغة، الكلمات القِصار، الكلمة 349. 3. النحجّة البيضاء، ج5، ص196. 4. غُرر الحِكم، الرقم 2182. [ 273 ] وَ وَرد في حديث عن الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "إِنَّ لِسانَ المُؤمِنِ وَراءَ قَلْبِهِ، فَإِذا أَرادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشيء تَدَبِّرَهُ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ أَمضاهُ بِلِسانِهِ و إنَّ لِسانَ المُنافِقِ أَمامَ قَلْبِهِ، فَإِذا هَمَّ بِشيء أَمضاهُ بِلِسانِهِ وَلَم يَتَدَبَّرْهُ بِقَلْبِهِ"(1). وَ وَرد نفسُ هذا المعنى، مع بعض الإختلاف في كلمات أميرالمؤمنين(عليه السلام)، في الخُطبة (176) من نهج البلاغة. و نقرأ في تعبير آخر ورد عن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام)، أنّه قال: "قَلْبُ الأَحْمَقِ في فَمِهِ، وَفَمُ الحَكِيمِ فِي قَلْبِهِ"(2). فَمن البَديهي، أنّ المراد من القلب هُنا هو العقل والفكر، وَ وُجود اللّسان في موقع الأمام أو الخلف، هو كنايةٌ عن التدبّر والتفكّر في محتوى الكلمات و الألفاظ، قبل النّطق بها، و بالفِعل كم يكون جميلاً، لو أنّنا حسبنا لكلامنا حسابه، و فكّرنا في كلّ كلمة نريد أن نقولها، و الدّوافع و النّتائج التي ستعقبها، و هل أنّها من اللّغو أو ممّا يفضي إلى إيذاء مؤمن، أو إلى تأييد ظالم وأمثال ذلك، أو أنّها تنطلق من موقع الدّوافع الإلهيّة، و لغرض حماية المظلوم، و في طريقٌ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و كسب مَرضاة الله تعالى؟!. ونَختم هذا الكلام، بحديث جامع لجميع الموارد المذكورة آنفاً، يمنح قلب الإنسان نوراً و صفاءً، و قد ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: "إِنْ أَحبَبتَ سَلامَةَ نَفْسِكَ وَسَترَ مَعايبِكَ، فَاقْلِل كَلامَكَ وَأَكْثِر صَمْتَكَ، يَتَوفَّرْ فِكْرُكَ وَيَستَنِرُ قَلْبُكَ".(3) هذه هي خلاصة دور اللّسان في تهذيب النّفس، وطهارة الأخلاق و الاُصول الكلّية لحفظ اللّسان، و بالطّبع سوف نقدم شرحاً وافياً، لتفاصيل أهمّ الإنحرافات و الذّنوب اللّسانيّة، كالغيبة و التّهمة والكَذب والَنميمة ونشر الأكاذيب و إشاعة الفحشاء، وذلك في المجلّد الثاني من الكتاب، إن شاء الله تعالى، بعد الإنتهاء من بيان الاُصول الكلّية لِلقيم الأخلاقيّة. -- 1. المحجّة البيضاء، ج5، ص195. 2. بحار الأنوار، ج75، ص374. 3. غُرر الحكم، ص216، ص4252. [ 274 ] الخُطوة الثّامنة: معرفة الله تعالى و معرفة النّفس من الخَطوات الاُولى في طريق إصلاح النّفس، و التّهذيب الرّوحي، و بلورة الأخلاق و الملكات الأخلاقية السّامية، في واقع الإنسان هي: "معرفة النّفس". فكيف يمكن للإنسان أن يرقى في درجات الكمال الرّوحي و يتحرك على مُستوى إصلاح عُيوبه، و التّخلص من رذائله الأخلاقيّة، والحال أنّه لا يعرف نفسه من موقع الوعي لذاته؟ و هل للمريض أن يذهب إلى الطّبيب، و لمّا يعرف أنّه مُصابٌ بالمرض؟ و هل لِلتائه الضّال عن الطّريق، أن يعرف وجهته، و يتحرك في طريق العثور على الجادة الصّحيحة، قبل أن يعرف أنّه ضالٌ عن الطريق؟ و هل للإنسان أن يُهيّىء أسباب و وسائل الدّفاع عن نفسه، و هو لا يعرف أنّ العدوّ قد كَمَن له على باب داره؟ من الطّبيعي، أنّ الإجابة عن هذه الأسئلة هو بالنّفي، فكَذلك من لا يعرف نفسه ولا عيوبه فإنّه لن يستطيع أن يتحرّك في عملّية إصلاح نفسه، ولن يستفيد من أطبّاء الرّوح، في خطّ التّربية و التّهذيب. و بهذه الإشارة نعود إلى صُلب الموضوع، لنبيّن علاقة معرفة النّفس بِتهذيبها، و كذلك العلاقة بين: معرفة الله وتهذيب النّفس. -- 1 ـ علاقة معرفة النّفس بتهذيبها كيف يُمكن لمعرفة النّفس أن تكون سبباً في تهذيب النّفس؟ دليلُهُ واضحٌ و بَيّنٌ، لأنّه: أولاً: إنّ الإنسان عن طريق معرفة نفسه، سوفَ يعَي كرامةَ نفسه، و شرفَ ذاتِه، و عظمةَ الصّنع الإلهي في هذه الخِلقة، و بالتّالي سَيُدرِك، أهميّة الرّوح الإنسانيّة، التي هي نفحةٌ من نفحات قُدسه، نعم فإنّه سَيُدْرِك أنّ الجوهَرة الّثمينة، التي منحه الله تعالى إيّاها، عليه ألاّ يُضيّعها و لا يَبيعها بأبخسِ الأثمان، فلن يُضيّعها إلاّ من كانَ يعيش الرّذائل الأخلاقيّة، و من غَرِق [ 275 ] بِوحل الذّنوب، و مستنقع الخَطيئة. ثانياً: الإنسان بمعرفته لنفسه، سيطّلع على الأخطار التي تحدق به، جرّاء مِيوله النّفسية، وعنصر الهَوى و دوافع الشّهوة، التي تقع في خطّ التّقابل، مع سعادته و تكامله المعنوي في حركة الواقع النّفساني، و سيكون بإمكانه التّحرك في دائرة المُواجهة الواعية، للوقوف بوجهها و التّصدي لها. و من البديهي، أنّ الإنسان الذي لا يَخبُر نفسه لن يكون على إحاطة بوجود تلك الدوافع، ويبقى كالغافل عمّا يدور حواليه، بينما يكون الأعداء قد إحتوشوه من كلّ جانب، و هو لا يُحرّك ساكناً، و بالطّبع فإنّ هذا الشّخص، سيتلقّى ضربات قاصمة من عدوّه، وبعدها يخضع لواقع السّيطرة من قِبل العدو، و أنّى له ساعتها، التّدبير و التّفكير من موقع الشّعور الهادِىء، و البعيد عن الإنفعال و التّوتر!!. ثالثاً: بمعرفة النّفس، ستظهر له خَبايا نفسه، و إستِعداداتِها المختلفة، و لأجل رُقيّها و كمالها و السّير بها إلى الله، سيسعى الإنسان في خطّ التربيّة و التّهذيب، لِبلورة تلك الإستعدادات و الكَمالات، و يستخرج كُنوزها من واقعه الذّاتي، ليقترب بواسطتها من آفاق السّماء. و حال الشّخص الذي لا يتعامل مع ذاته، من موقع المعرفة و الوَعي، كحال الذي دَفَن في بيته كُنوزاً، و هو لا يعلم بها، وهو بأمسّ الحاجة إليها لفقره المُدقع، فيموت جوعاً بدون أن يجد في نفسه باعثاً على الانتفاع بها، في واقع الحياة. رابعاً: إنّ كلّ واحدة من المفاسد الأخلاقيّة، لها جذورها في النّفس الإنسانيّة، و بمعرفة النّفس، سيسعى الإنسان في عمليّة قلع تلك الجُذور، من واقع النّفس و غلق تلك الرّوافد التي تمدّها بالماء الآسن، و مُعالجة هذا الواقع السّلبي، بفتح روافد الماء الصّافي الرّقراق الذي يمدّها بالحَياة والوِصال الحقيقي المنفتح على الإيمان والصفاء النّفسي. خامساً: والأهم من هذا وذاك، فإنّ معرفة النّفس، تؤدّي إلى معرفة الربّ، و معرفة صفاته الجلاليّة و الجماليّة، و التي هي من أقوى الدّوافع الذاتيّة، لتربية المَلَكات الأخلاقيّة، و الكَمالات الإنسانيّة، و طريقٌ قويمٌ لِلنجاة من الإنحطاط و الرّذيلة، و الصّعود بها إلى أعلى [ 276 ] مراتب الكمال المعنوي، و آفاق المَثل الإنسانيّة. و إذا أضفنا إلى ذلك كلّه هذه الحقيقة، و هي أنّ الرّذائل تقلب حلاوة السعادة إلى مرارة الشّقاء، و تجرّ البشريّة إلى حيث الويلات و الدّمار، فعندها ستتّضح مدى الأهميّة القُصوى، لمعرفة النّفس في حياة الإنسان والمجتمع البشري. و قد وَرد في كتاب: "إعجاز الطبّ النّفسي"، للكاتب "كارل منينجر": (معرفة النّفس عبارة عن الإحاطة بقوى الخير والمحبّة، ومعرفة عناصر الشّر و الكراهيّة في النفس الإنسانيّة، و أيّ تجاهل و تغافل عن وجود هذه القوى و العناصر في أنفسنا، و في الغير، بإمكانه أن يُعرّض اُسس الحياة للإهتزاز والخلَل)(1). و في كتاب: "الإنسان ذلك المجهول"، وردت جملةٌ تعتبر شاهداً حيّاً على مدّعانا، فيقول: (لسوء الحظ فإنّ الإنسان المعاصر، لم يتحرّك على مستوى التّعرف على نفسه، إلى جانب التّقدم الصّناعي و التّطور العلمي، ولم يوفّق برنامج الحياة، وفق واقعه الطّبيعي، و الفِطري، لذلك فَمع ما في الحياة العصريّة من زينة و تفاخر، لكنّها لم توصل الإنسان للسّعادة المنشودة، فالتّقدم الذي حصل على مستوى العلم والتّكنولوجيا، لم يحصل بتدبير و تفكير، بل حصل عن طريق الصّدفة الَمحضة..، فلو ركّز: "غاليلو" و "نيوتن" و"لافوازيه"، وغيرهم من العلماء على جسم وروح الإنسان، لربّما تغيّرت الدنيا، ولمّا أصحبت كما هي عليه الآن"(2). و بناءاً عليه، فإنّ إحدى العقوبات التي أعدّها الباري تعالى، لِلمُعرضين عن الله من موقع الّتمرد على الحقّ، وحذّر الباري تعالى، المسلمين من الوقوع فيها، هي نسيان النّفس، و الغفلة عن الذّات: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ )(3). ا ص277 - ص2902 ـ معرفة النّفس في الرّوايات الإسلاميّة و قد أغنتنا الرّوايات الشّريفة، الواردة عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و الائمّة الهداة(عليهم السلام)، في هذا 1. إعجاز الطّب النّفسي، ص 6. 2. الإنسان ذلك المجهول، ص22. 3. سورة الحشر، الآية 19. [ 277 ] المجال، ومنحتنا زَخماً معرفيّاً كبيراً، على مستوى بيان مَعطيّات معرفة النّفس، و أثرها الإيجابي في حركة الإنسان، في خطّ التّكامل المعنوي، و الأخلاقي، و منها: 1 ـ ما ورد عن الإمام علي(عليه السلام)، أنّه قال: "نالَ الفَوزَ الأَكبَرَ، مَنْ طَفَرَ بِمَعرِفَةِ النَّفسِ"(1). 2 ـ و يقول(عليه السلام)، في النّقطة المُقابلة لِهذا: "مَنْ لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ بَعُدَ عَنْ سَبِيلِ النَّجاةِ، وَ خَبَطَ في الضَّلالِ وَ الجَهالاتِ"(2). 3 ـ وَ وَرد في حديث آخر، عن هذا الإمام الهمام(عليه السلام): "العارِفُ مَنْ عَرِفَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَها وَ نَزَّهَها عَنْ كُلِّ ما يُبَعِّدُها"(3). و يُستفاد من هذا التّعبير، أنّ معرفة النّفس سببٌ للتحرر من قيود الأهواء، و أسر الشّهوات، و تطهير النفس من الرذائل الأخلاقيّة. 4 ـ و نقرأ في حديث آخر، عن هذا الإمام الكبير(عليه السلام): "أَكْثَرُ النّاسِ مَعْرِفَةً لِنَفْسِهِ، أَخْوَفُهُم لِرَبِّهِ"(4). و نَستوحي من هذا الحديث الشّريف، العلاقة الوثيقة بين الإحساس بالمسؤوليّة، من موقع الخَوف من الله تعالى، الذي يعدّ منطلقاً لتهذيب النّفس في خطّ التّقوى، و بين معرفة النّفس. 5 ـ وَ وَرد في حديث آخر، عن الإمام نفسه، يقول: "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ جاهَدَها وَ مَنْ جَهِلَ نَفْسَهُ أَهْمَلَها"(5). فطبقاً لهذا الحديث الشريف، فإنّ الدعامة الأصلية لجهاد النفس، أو الجهاد الأكبر، كما ورد التّعبير عنه في الروايات الإسلاميّة، هي معرفة النّفس. 6 ـ وجاء في نهج البلاغة، في قصار الكلمات لأميرالمؤمنين(عليه السلام): "مَنْ كَرُمَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ 1. غُرر الحِكم، ح 9965. 2. المصدر السابق، ح 9034. 3. غُرر الحِكم، طبقاً للميزان، ج6، ص173. 4. المصدر السابق، ح 3126. 5. تفسير الميزان، نقلاً عن ميزان الحكمة، ج3، ص 1881، المادة: المعرفة. [ 278 ] هانَتْ عَلَيهِ شَهَواتُهُ"(1). فالشّخص الذي عرف نفسه، على مستوى كرامتها الذّاتية، لا يعيش الذّلة في إطار الخضوع للشّهوات، و الإستسلام للأهواء والنّوازع النّفسيّة. 7 ـ كما أنّ معرفة النّفس، تعتبر ركناً مُهمّاً في تهذيب النّفس، في خطّ التّكامل الأخلاقي و المعنوي، فالجهل بِكرامة النّفس، سبب للإبتعاد عن الله تعالى، ولِذا ورد في حديث آخر، عن الإمام العاشر: (الإمام الهادي(عليه السلام)): "مِنْ هانَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ فَلا تأَمَنْ شَرَّهُ"(2). و مِن مَضمون ما تقدّم، يتبيّن بوضوح، أنّ من الدّعامات الأساسيّة للفضائل الأخلاقية، و التّكامل المعنوي، هو معرفة النّفس، ولن يصل الإنسان إلى غايته المَنشودة، إلاّ بعد عبور ذلك الممر الصّعب، ولذلك أكّد علماء الأخلاق، كثيراً على هذه المسألة، لِكي لا يغفل عنها السّائرون في الطّريق إلى الله تعالى. 3 ـ معرفة النّفس طريقٌ لمعرفة الرّبّ يقول الباري تعالى: (سَنُرِيهِمْ آياتِنَا فِي الاْفَاقِ وَ في أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )(3). وَ وَرد في آية اُخرى، قوله تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ )(4). و إستدلّ بعض المحقّقين، بالآية الشّريفة، التي تتحدث عن عالَم الذَّرْ، على هذه الحقيقة أيضاً، و هي أنّ: "معرفة النّفس"، تعتبر الأساس والقاعدة: "لمعرفة الله تعالى" حيث تقول الآية الكريمة: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا )(5). و نقرأ في تفسير الميزان: "فالإنسان وإن بلغ من التّكبر و الخُيلاء ما بلغ، و غرّته مساعدة 1. نهج البلاغة، قصار الكلمات، الكلمة 409. 2. تُحف العقول، من قصار كلمات الإمام الهادي(عليه السلام). 3. سورة فصّلت، الآية 53. 4. سورة الذّاريات، الآية 21. 5. سورة الأعراف، الآية 172. [ 279 ] الأسباب ما غَرّتهُ و إستهوته، لا يسعه أن ينكر أنّه لا يملك وجود نفسه، و لا يستقلّ بِتدبير أمره، ولو ملك نفسه، - لوقاها ممّا يكرهه من الموت، و سائر آلام الحياة مَصائبها، و لإستقلّ بتدبير أمره، لم يفتقر إلى الخضوع، قبال الأسباب الكونيّة. فالحاجة إلى ربٍّ: ـ مَلِك مُدَبّر ـ; حقيقة الإنسان، والفقر مكتوبٌ على نفسه، و الضعف مطبوعٌ على ناصيته، لا يخفى ذلك على إنسان له أدنى الشّعور الإنساني، والعالم و الجاهل، و الصّغير و الكبير، و الشّريف و الوضيع، في ذلك سواء. فالإنسان في أيّ منزل من منازلِ الإنسانية نزل، يشاهد من نفسه أنّ له رباً يملكه و يدبّر أمره، وكيف لا يشاهد ربّه، و هو يشهد حاجته الذاتيّة؟ ولذا قيل: إنّ الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا. أنّه محتاج في جميع جهات حياته، من وُجوده وما يتعلق به وجوده من اللّوازم و الأحكام، و معنى الآية أنّا خلقنا بني آدم في الأرض، و فرّقناهم، و ميّزنا بعضهم من بعض بالتّناسل و التّوالد، وأوقفناهم على إحتياجهم ومربوبيتهم لنا، فإعترفوا بذلك قائلين، بلى شَهِدنا أنّك ربّنا"(1). و بناءاً على ذلك، يثبت لنا أنّ التّعرف على حقيقة الإنسانيّة، بخصوصياتها و صفاتها، هي السّبب و الأساس لمعرفة الباري تعالى شأنه. و الحديث المعروف، الذي يقول: "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عِرَفَ رَبَّهُ"، ناظر إلى هذه المسألة بالذات. و قد نقل هذا الحديث مرّةً عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و مرّةً اُخرى عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، و مرّةً نُقل عن صُحف إدريس(عليه السلام). فجاء في بحار الأنوار نقلاً عن صحف إدريس(عليه السلام)، في الصّحيفة الرّابعة، و التي هي صحيفة المعرفة: "مَنْ عَرَفَ الخِلْقَ عَرَفَ الخالِقَ، وَ مَنْ عَرَفَ الرِّزْقَ عَرَفَ الرَّازِقَ، وَمَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ"(2). 1. تفسير الميزان، ج8، ص307، ذيل الآية المبحوثة، (مع التلخيص). 2. بحار الأنوار، ج92، ص456; ج58، ص99; ج66، ص293، و نقل عن المعصوم(عليه السلام)، و في ج2، ص32 عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله). [ 280 ] و على كلّ حال، فإنّ مضمون هذا الحديث قد ورد بطرق متعدّدة، في كتاب بحار الأنوار، عن الرسولً الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أو أحد المعصومين(عليهم السلام)، أو إدريس النبي(عليه السلام)، وكذلك ورد عن الإمام علي(عليه السلام)، في: "غُرر الحِكَم"(1). و قال العلاّمة الطّباطبائي، في تفسيره: "أنّ الشّيعة و السّنة قد نقلوا هذا الحديث عن الرسول(صلى الله عليه وآله)، و هو حديثٌ مشهورٌ"(2). -- التّفاسير السّبعة، لحديث من عَرف نفسه: و قد وردت تفاسيرٌ عديدةٌ لهذا الحديث، و منها: 1 ـ يشير هذا الحديث إلى: "بُرهان النّظم"، فكلّ إنسان يتعرف على عجائب الخِلقة، في روحه و جِسمه، و ما تتضمّن من النّظم المعقد والمحيّر في تفاصيلها الدقيقة، فسوف ينفتح له طريق إلى الله تعالى، فإنّ هذا النّظم و الإنتِظام و الدّقة في الخلقة، لا يمكن أن ينشأ، إلاّ بتدبير عالم قادر مبدىء معيد. 2 ـ و يمكن أن يكون هذا الحديث، إشارةً إلى بُرهان: "الوجود والإمكان"، فعندما ينظر الإنسان و يُدقّق في تفاصيل وُجوده و نشأته، يرى أنّه وجودٌ مستقلٌ، من عِلمه و قُدرته و ذَكائه و سَلامته، فكلّها تحتاج إلى وجوده سُبحانه، و من دونه، فَهو لا شيء وسينتهي وجوده، وفي الحقيقة هو كالمعاني الحرفيّة، التي بدون المعاني الإسميّة، لن يكتمل لها معنى، كجملة: "ذهبتُ إلى المسجد"، فكلمة "إلى"، وحدها لا مفهوم لها إطلاقاً، من دون إرتكازها على كلمتي: "ذهبت" و "المسجد"، وكذلك الحال في وجودنا بالنّسبة إلى الله تعالى، فكلّ شخص يحسّ في نفسه هذا الإحساس، سيعرف ربّه من موقع الإعتماد و الإيمان أكثر، لأنّ وجود الممكن محال، بدون وجود الواجب. 1. غُرر الحِكم، ص7946. 2. الميزان، ج6، ص469، في البحث الرّوائي، ذيل الآية 105، من سورة المائدة. [ 281 ] 3 ـ و يمكن لهذا الحديث، أن يدلّنا على: "برهان العلّة والمعلول"، فكلّ إنسان يَتَفكر في نفسه، قليلاً فسوف يعرف أنّه معلول، لعلّة اُخرى منذ وجوده، و عندما ينظر لأبيه سيراه هو أيضاً معلولاً لعلّة اُخرى، و هكذا حتى يصلَ إلى علّةِ العلل، و إلاّ يلزم التسّلسل، و بطلان التّسلسل، أمرٌ مفروغٌ عنه لدى الحكماء(1). و عليه، يجب أن تصل العلل إلى العلّة الاُولى، التي لا تحتاج إلى عِلّة، فعلّة العِلل: وجوده في ذاته، فعندما يرى الإنسان نفسه بهذا الوصف، فإنّه سيصل إلى الباري سبحانه و تعالى، من خلال هذا القانون العقلي. 4 ـ و يمكن أن يكون هذا الحديث، إشارة إلى "بُرهان الفطرة"، فعندما يعرف الإنسان في تأمل حَنايا نفسه، و جَوانب فطرته، فسوف يتجلّى له نورُ التّوحيد، و ينفتح على الله تعالى، ويصل من "معرفة النفس"، إلى "معرفة الله"، ولن يحتاج إلى دليل آخر يقوده إلى الله تعالى. 5 ـ و يمكن أن يكون الحديث، ناظراً إلى مسألة: "صفات الله تعالى"، بمعنى أنّ الإنسان عندما يرى محدوديّته، في دائرة حالاته و صفاته في عامل الإمكان، سيصل إلى نقاطِ ضعفهُ و يُدرك من خلال محدوديّته في مجال الصّفات البشريّة، لا محدوديّة الله تعالى، لأنّه لو كان مخلوقاً مثله، لكان محدوداً أيضاً، و من فنائه إلى بَقائه تَبارك و تعالى، لأنّه لو كان مخلوقاً أيضاً لكان فانياً، و كذلك يُدرك من خلال إحتياجاته و فَقره، إستغناء الله وعدم حاجته عمّا سواه، و يُدرك قوّة الباري من خلال فَقره وحاجته هو... وهكذا، وهذا ما يشير إلى كلام أمير المؤمنين(عليه السلام)، في أوّل خطبة، حيث يقول: "وَكَمالُ الإِخلاصِ لَهُ نَفي الصِّفات عَنْهُ، لِشَهادَةِ كُلِّ صِفَة أَنَّها غَيرُ المَوصُوفِ، وَ شَهادَةِ كُلِّ مَوصُوف أَنَّهُ غَيرُ الصِّفَةِ"(2). 6 ـ و نقل العلاّمة المجلسي(رحمه الله)، تفسيراً آخر لهذا الحديث، عن بعض العلماء، أنّه قال: (الرّوح لطيفةٌ لاهوتيّة في صفة ناسوتيّةٌ: دالّةٌ من عشرة أوجه، على وحدانيّة الله وَ رَبّانِيَّتِهْ: 1 ـ لما حرّكت التهيكَل و دبّرته، علمنا أنّه لابدّ لِلعالم من مُحرّك و مُدبِّر. 1. من أراد التّوضيح، فيراجع كتاب: "نفحات القرآن ج2". 2. نهج البلاغة، الخطبة 1. [ 282 ] 2 ـ دلّت وحدتها على وحدته. 3 ـ دلّ تحريكها لِلجسد على قدرته. 4 ـ دلّ إطّلاعها على ما في الجسد على علمه. 5 ـ دلّ إستواؤها إلى الأعضاء على إستوائه إلى خلقه. 6 ـ دلّ تقدّمها عليه وبقاؤها بعده، على أزلَهِ و أَبده. 7 ـ دلّ عدم العلم بكيفيّتها، على عدم الإحاطة به. 8 ـ دلّ عدم العلم بمحلّها من الجسد، على عدم أينيتّه. 9 ـ دلّ عدم مسّها على إمتناع مسّه. 10 ـ دلّ عدم إبصارها على إستحالة رؤيته)(1). 7 ـ التّفسير الآخر لهذا الحديث، هو أنّ جملة: "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ"، هي من قَبيل التّعلّق بالمحال، يعني بما أنّ الإنسان لا يستطيع أن يعرف نفسه، فهو لن يعرف ربّه بصورة حقيقية. ولكن التّفسير الأخير هذا غير مناسب، و التّفاسير السّابقة أنسب لسياق الحديث، ولا ضَير من إحتواء ذلك الحديث الشريف، لكلّ تلك المعاني الجليلة. نعم، فإنّ كلّ إنسان يعرف نفسه، سيعرف ربّه، و معرفة النّفس هي طريقٌ لمعرفة الرّب، و هي أهمّ وسيلة لتهذيب الأخلاق، و طهارة النّفس و الرّوح، فذاته المقدسة هي مصدر لكلّ الكمالات و الفضائل، و أهمّ طريق للسّير و السّلوك في خط بناء الذات ،و تهذيب الأخلاق، هو معرفة النّفس، ولكنّ معرفة النّفس تقف دونها موانعٌ كثيرةٌ، لابدّ من إستعراضها و بحثها. موانع معرفة النّفس: أوّل خطوة تُتَّخذ، لعلاج الأمراض البدنيّة هي معرفتها، وعليه ففي وقتنا الحاضر، يمكن 1. بحار الأنوار، ج61، ص99 ـ 100. [ 283 ] تشخيص أغلب الأمراض، بالأشعّة السّينيّة، و السّونار، و المختبرات المختلفة لتحاليل الدّم والبول، وما شابهها من الاُمور، حيث يستطيع الطّبيب بمعونتها، من تشخيص مواضع الخلل البدني بدقة، و بالتالي يكون بإمكانه، وضع الأدوية والعلاجات لذلك المرض، و كذلك الحال في الأمراض الروحيّة و النفسيّة على مستوى التّشخيص والمعالجة، فإنّنا إن لم نشخّص أمراضنا الرّوحيّة، بمساعدة الطّبيب الحقيقي للنفس، ولم نتمكن من العثور على جذور الرّذائل الأخلاقيّة، في واقعنا النّفسي، فسوف لا يمكننا الوصول إلى طريقة لعلاج هذه الأمراض، و جُبران مواضع الخَلل في عالم النّفس. ولكن أغلب الناس، يتجاهلون الأعراض الخطيرة للأمراض، وذلك لِغَلبة الأنانيّة عليهم وحبّ الذات، الذي لا يسمح لهم برؤية النّقص على حقيقته، وهذا الهروب من الحقيقة، غالباً ما ينتهي إلى عواقب غير حميدة، ولا يتوجه إليها الإنسان إلاّ بعد فوات الأوان، و بعد تجاوز المرض مرحلة العلاج، ففي الأمراض الأخلاقيّة، و الإنحرافات النّفسية، غالباً ما يكون حبّ الذات و الأنانية، مانعاً قويّاً لِلناس، يحول دون معرفة صفاتهم الرّذيلة، و عيوبهم الأخلاقيّة و الإعتراف بها، بل ويتذرعون بالأعذار المختلفة، في عملية التغطية اللاّشعورية، على تشوّهات الأنا ليكون الشّخص متعالياً عن النّقد و النّقص، و بذلك يعيش مثل هذا الإنسان، حالةَ الوَهم في ثياب الواقع. و الحقيقة أنّ الأعترافَ بالخطأ فَضيلةٌ، ويحتاج إلى عزم جدّي، و إرادة راسخة، و إلاّ فان الإنسان سيتحرك على مستوى تغطية عيوبه، و يُدرجها في طيّ النسيان، ليخدع بها نفسه و من حواليه، بالظّواهر الخادعة والعناوين الزائفة. نعم فإنّ الوقوف على العيوب و النقص، في واقع الذّات أمرٌ مرعبٌ و مريعٌ، و غالبيّة النّاس يهربون من واقعهم في حركة الحياة، ولا يريدون أنّ يعترفوا بأخطائهم من موقع تحمّل المسؤوليّة، لكنّ الهروب من الحقيقة، سيعود بالضّرر الكبير على صاحبه، و سيدفع الإنسان الّثمن غالياً على المستوى البعيد، جرّاء ذلك!. و على كلّ حال، فإنّ المانع الحقيقي، و الحِجاب الأصلي لمعرفة الذّات، هو حجاب حبّ الذّات، و الأنانيّة و التّكبر، وما لم تنقشع هذه الحُجب، [ 284 ] و تلك الغَشاوات عن النّفس، فلن يستطيع الإنسان أن يعرف ذاته، و نوازعها وستغلق دونه أبواب المعرفة الاُخرى، التي تريد به النّهوض و الوصول إلى الحقّ، في خطّ التّكامل المعنوي، و التّحذيرات التي صدرت من رسولنا الكريم(صلى الله عليه وآله)، شاهدٌ حيٌّ على مدّعانا، منها: "إذا أَرادَ اللهُ بِعَبد خَيراً فَقَّهَهُ في الدِّينِ وَزَهّدَهُ في الدُّنيا وَبَصَّرَهُ عُيوبَهُ"(1). و قال أميرالمؤمنين(عليه السلام)، في حديث آخر: "جَهْلُ المَرءِ بِعُيوبِهِ مِنْ أَكبَرِ ذُنُوبِهِ"(2). و يُفرض علينا هذا السؤال نفسه، وهو أنّه كيف يستطيع الإنسان، أن يُزيل تلك الغَشاوات و الحُجب، التي ترين على نفسه و روحه؟. هنا أتحفنا الفيض الكاشاني في هذا المجال، بنصائح قيمة، فقال: (اعلم أنّ الله تعالى، إذا أراد بعبد خيراً بصّره بعيوب نفسه، فَمن كَملت بَصيرته لم تخف عليه عيوبه، و إذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكنّ أكثر الخلقِ جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القَذى في عينِ أخيه و لا يرى الجذع في عينه هو، فمن أراد أن يقف على عيب نفسه، فله أربع طُرق: الأوّل: أنّ يجلس بين يدي بصير بعيوب النّفس، مطّلعٌ على خَفايا الآفات، و يحكّمه على نفسه، و يتّبع إشارته في مجاهداته، وهذا قد عزّ في هذا الزمان وجوده. الثاني: أن يطلب: صديقاً صدوقاً بصيراً متديّناً، فينصبه رقيباً على نفسه، ليُراقب أحواله وأفعاله، فما يكرهه من أخلاقهِ و أفعاله و عيوبه الباطنة و الظّاهرة، ينبّهه عَلَيها. فهكذا كان يفعل الأكابر من أئمّة الدّين، كان بعضهم يقول: "رحم الله إمرءً أهدى إليّ عيوبي"(3)، وكلّ من كان أوفر عقلاً و أعلى منصباً، كان أقلّ إعجاباً و أعظم اتّهاماً لنفسه، إلاّ أنّ هذا أيضاً قد عزّ، فقلّ في الأصدقاء من يترك المُداهنة، فيخبر بالعَيب، أو يترك الحسد فلا يزيد على القدر الواجب، فلا يَخلو أصدقاؤك عن حَسود، أو صاحب غرض، يرى ما ليس بعيب عيباً، أو عن 1. نهج الفصاحة، ص26، وورد نفس هذا المعنى عن الإمام الصّادق(عليه السلام)، في اُصول الكافي، ج2، ص130. 2. بحار الأنوار، ج74، ص419. 3. تُحف العقول، ص366. [ 285 ] مُداهن يُخفي عنك بعض عُيوبك، لهذا كان داوود الطائي قد إعتزل عن النّاس، فقيل له: لِمَ لا تُخالط النّاس؟، قال: ماذا أصنع بأقوام يخفون عنّي ذُنوبي. ان أهل الدين يحبون أن يُنبّهوا على عُيوبهم، بنصيحة غيرهم، و قد آلَ الأُمر إلى أمثالنا، بأن وأبغضُ الخلق إلينا من يَنصحنا، و يُعرّفنا عيوبنا، و يكاد أن يكون هذا مُفصِحاً عن ضَعف الإيمان، فإنّ الأخلاق السّيئة: حيّاتٌ و عقاربٌ لدّاغةٌ، ولو نبّهنا منبّهٌ على أنّ تحت ثوبنا عقرباً، لشكرنا له ذلك و فرحنا به، و إشتغلنا بإبعاد العقرب و قتلها، و إنّما أذى العقرب على البدن، و يدوم ألمها يوماً أو بعض يوم، و نكايةُ الأخلاق الردّية على صميم القلب، وعسى أن يدوم بعد الموت، أبداً أو آلافاً من السّنين، ثمّ إنّا لا نفرح بمن ينبّهنا عليها، و لا تشتغل العداوة معه عن الإنتفاع بنصحه. الطّريق الثّالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه، من لسان أعدائه، فإنّ عين السّخط تُبدي المساوي، و لعلّ إنتفاع الإنسان بعدوٍّ مشاحن، يذكرّ عيوبه، أكثر من إنتفاعه بصديق مداهن، يُثني عليه و يمدحه، و يخفي عنه عُيوبه. الطّريق الرّابع: أن يخالط الناس، فكلّ ما يراه مذموماً، فيما بين الخَلق فيطالب نفسه بتركه، وما يراه محموداً يطالب نفسه به و ينسب نفسه، إليه، فإنّ المؤمن مرآةُ المؤمن، فيرى في عيوبِ غيره عيوبُ نفسه، و ليعلم أنّ الطّباعَ مُتقاربةٌ في إتّباع الهوى، فما يتّصف به واحد من الأقران أعظم منه، أو عن شيء منه، فيتفقّد نفسه ويطهّرها عن كلّ ما يذمّه من غيره، و ناهيكَ بهذا تأديباً، فلو ترك النّاس كلّهم ما يكرهونه من غيرهم، لإستغنوا عن المؤدّب، قيل لِعيسى(عليه السلام): من أدَّبك؟ فقال: "ما أدّبَني أحد، رأيت جهلَ الجاهل فجانبته"(1). -- 1. المحجّة البيضاء، ج5، ص112 الى 114. [ 286 ] الخُطوة التّاسعة: العبادة و الدّعاء تصقل مرآة القلب: الخُطوة الاُخرى، هي العبادة و الدّعاء، و لأجل التّعرف على دور، العِبادة و الدّعاء في بناء و تهذيب النّفوس، علينا أولاً التّعرف، على حقيقة ومفهوم العبادة و الدّعاء. الواقع أنّ الحديث عن هذا الموضوع، طويلٌ وعريضٌ، وقد تناوله العلماءُ، العظماءُ، في كتبهم الأخلاقيّة والتفسيريّة و الفقهيّة، بصورة مُفصّلة ووافية، ولكن يمكن القول و بإختصار شديد: علينا قبل معرفة حقيقة العبادةِ و مفهومها، أوّلاً أن ندرس مفهوم كلمة "عبد"، و هي الأصل و الجَذر اللّغوي، لكلمة: "العِبادة". "العبُد" لُغة تُطلق على الإنسان، الذي لا حول له ولا قوّة، في مقابِل مولاه، فإرادته تابعةٌ لإرادة مَولاه، ولا يملك شيئاً في عرضِ ما يملكه مولاه، و لا حقَّ له في التّقصير في طاعة سيّده. و عليه فإنّ العبودية، هي آخر وأقصى مراحل الخُضوع والخُشوع، في مقابل السيّد، حيث إنّ كلّ شيء في حياته يراهُ من هبته و إنعامه و إكرامه، ومن هنا يتبيّن لنا بوضوح، أنّه لا أحد يستحقّ هذه الدّرجة من العِبادة، و يكون مَعبوداً سوى الله تعالى، فهو الفَيض اللاّمتناهي الذي لا ينقطع أبداً. و من بُعد آخر، أنّ "العُبوديّة": هي قمّة و نهاية التّكامل المعنوي، للرّوح في حركة التّكامل المعنوي للإنسان، و غايةُ ما يطمح إليه الإنسان، من حالة القُرب من الله تعالى، و التّسليم المُطلق لِلذات المُقدسة، فالعبادة لا تنحصر بالرّكوع و السّجود و القيام و القُعود، بل إنّ روح العِبادة هي التّسليم المطلق لله تعالى، و لذاته المُقدسة و المَنزّهة من كلٍّ عيب و نقص. و من البديهي أنّ العبادة، هي أفضل وسيلة للرّقي المعنوي، و تحصيل الكَمال المطلق، في حركة الإنسان والحياة، وتقف حائلاً أمام كلّ رذيلة، فإنّ الإنسان يسعى لِلقُرب من معبوده، لِتَتَجلى في نفسه إشعاعاتٌ من نور قُدسه و جَلاله و جَماله، و يكون مظهراً و مرآةً لصفات الجمال و الكَمال الإلهيّة، في واقعه النّفسي و سلوكه العملي. و في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنّه قال: "العبُودِيّةُ جَوهَرَةٌ كُنْهُها الرُّبُوبِيَّةُ"(1). 1. مصباح الشّريعة، ص536، نقلاً عن ميزان الحكمة، مادة "عبد". [ 287 ] و هو إشارة لتلك الإنعكاسة الربّانية، التي تتجلّى في العبد جرّاء العِبادة الخالصةِ، المنفتحة على الله، حيث يصل بواسطتها إلى درجات من الرّقي و الكمال، بحيث يمكنه معها السّيطرة على الكَون، و يكون صاحبٌ بالولاية التَّكوينيّة، أو هو: كالحديد الأسود، الذي يحمّر جرّاء مجاورته لِلنار، وهذه الحرارة و النّورانية ليست من ذاته، لكنّها من معطيات تلك النار. و منها نعود لِلقرآن الكريم، لنستوحي ممّا فيه من آيات حول العبادة، و ما لها من دور في تنمية الفضائل الأخلاقية: 1 ـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(1). 2 ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )(2). 3 ـ (وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ )(3). 4 ـ (إِنَّ الاِْنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ )(4). 5 ـ (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا )(5). 6 ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )(6). 7 ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )(7). تفسير و إستنتاج: تتحرك الآيات الآنفة الذّكر، لتؤكّد لنا حقيقةً واحدةً، ألا و هي، أنّ كلّ إنسان يريد 1. سورة البقرة، الآية 21. 2. سورة البقرة، الآية 183. 3. سورة العنكبوت، الآية 45. 4. سورة المعارج، الآية 19 إلى 24. 5. سورة التّوبة، الآية 103. 6. سورة الرّعد، الآية 28. 7. سورة البقرة، الآية 153. [ 288 ] الوصول إلى الكمال المطلقُ و يتحرك على مستوى تهذيب النّفس، عليه أنّ يسلك طريق العبادة، فالسّائر في خطّ الإستقامة و التّربية، ولأجل أن يبني نفسه، و يحصل على ملكة التّقوى، عليه أنّ يَعبُد و يَدعو الله تعالى، من موقع العِشق و الشّوق ليوفقه في ذلك، ويطلب منه العَون، لإزالة شوائب نفسه، لِتّتصل النّقطة بالبحر، و لِتَنْدَكّ ذاته بالذّات الأزليّة، و يتحول نحاس وجوده، في بوتقة العِشق، إلى ذهب خالص. هنا تحرّكت "الآية الأُولى"، لتخاطب جميع الناس بدون إستثناء، أن يسلكوا إلى الله من موقع العِبادة، وأرشدتهم لِطريق التقوى، فقالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ). و التّأكيد على مسألة الخلقة للأوّلين، لعلها تقع في دائرة تنبيه العَرب الجاهلين، الذين كانوا يستدلون بعبادتهم للأصنام، بسنّة آباهم، فيقول الباري: إنّنا خلقناكم و الجِبلّة الأولين، نعم فهو الخالق والمالك لكلّ شيء و لا يستحق العبادة أحدٌ إلاّ هو، وإذا ما توجه الإنسان، حقيقةً نحو الباري تعالى، فستتفتح في جوانحه عناصر الخير و التّقوى، لأنّ ما يوجد من الشّوائب في النفس، إنّما هو بِسبب التّوجه لغير الله، من موقع العبادة الزّائفة. فهذه الآية تبيّن معالم الرّابطة والعلاقة الوثيقة، بين العبادة التقوى. و تطرقت "الآية الثّانية"، للحديث عن عبادة مهمّة، و هي الصّوم و علاقته بالتّقوى، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ). و من المعلوم أنّ الصّوم يُنوّر القلب و يجلوه، بحيث يحسّ معه الإنسان أنّه يعيش القُرب من الحسنات، و البُعد عن السّيئات و القَبائح، والإحصائيات التي ترد في هذا الشّهر من المصادر المختصّة عن الجرائم، تشير إلى أنّها تصل إلى أدنى مستوى، في شهر رَمضان، و أنِّ الشرّطة في هذا الشّهر المُبارك، يتفرّغون لِلأهتمام باُمور اُخرى، إداريّة عالقة بالأشهر الماضية!!. و هذا الأمر إنّ دلّ على شيء، فهوَ يدلّ على أنّ الإنسان، كلّما إقترب من الله تعالى، في خطّ العبوديّة و الطّاعة، فإنّه يبتعد عن الموبقات و الآثام، و القبائح بنفس المقدار. -- [ 289 ] و أشارت "الآية الثّالثة"، إلى علاقة الصّلاة بالنّهي عن الفَحشاء و المنكر، و خاطبت الرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله)، بإعتباره قدوة واسوة للآخرين، فقالت: (وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ). "فالفَحشاء و المنكر"، عبارةٌ عَنْ مجموعة الأفعال غير الأخلاقيّة، التي تنبع وتنشأ من الصّفات الأخلاقيّة، و النّزعات الشّريرة الموجودة في مطاوي النّفس البشرية، حيث تؤثّر بدورها في سلوك الإنسان، و تفرز الأخلاق الظاهريّة لَه، و "الصّلاة" تمثّل أَداةَ ردع لتلك الأخلاق المنحرفة، في دائرة السّلوك، لأنّ الأذكار و الأدعية، تعمل على تهذيب النّفس، و ترويضها و تطويعها في طريقِ الخَير و الصّلاح، و حالة القُرب من الباري تعالى، هذه هي التي تتولى إبعاد الإنسان عن منبع الشّر و الرّذيلة، الذي هو عبارةٌ عن هوى النّفس و حبّ الدنيا، من خلال الإنفتاح على آفاق المَلكوت، لِتَغرف نفسه من أنوار القُدس، وترتفع به إلى عالم الخلودِ و الكَمالِ المُطلق. فالمصلّي الحقيقي سيبتعد عن الفحشاء و المنكر لا مُحالة، لأنّ الصّلاة و العِبادة تَصون النّفس من المنكرات، و تحول دون إختراق الرذائل للنّفس الإنسانية، وتعمل على تَفعيل عناصر الخَير، في أعماق الوِجدان. -- و تحدّثت "الآية الرابعة" عن حالة الجَزع و البخل، اللّذان هما من السجّايا الوضيعة في واقع الإنسان، و خُصوصاً الجَزع في حالة سيطرة المشكلات و الشّرور، و البُخل في حالة إنفتاح أبواب الثّراء أمام الإنسان، و إستثنت الآية المصلّين، و قالت: (إِنَّ الاِْنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ). فهذه الآيات الكريمة، تبيّن لنا بصورِة جيدة، أنّ التّوجه لله تعالى، و السّير في خطّ العبادة و الدُّعاء و المناجات، له دورٌ هامّ في مَحو الرّذائل الأخلاقيّة، من قبيل البُخل و الجّزع من واقع النّفس. -- [ 290 ] و تشيرُ "الآية الخامسة"، إلى تطهير النّفس، بواسطة "الزّكاة"، و التي بدورها تُعتبر، من العبادات الإسلامِيَّةِ المُهِمَّةِ، في ديننا الحنيف، فتقول: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ). و جُملة: "تُزكيّهم بها"، هي دليلٌ واضحٌ على هذه الحقيقة، و هي أنّ الزّكاة تعمل على تطهير النفس، من البَخل و الحِرص و حُبِّ الدنيا، وتزرع في نفسه صفة الكرم، و حبّ الخير لِلناس، وتثير في نفسه الحركة، على مستوى حمِاية الفقراء و المحتاجين. و ما ورد من روايات في هذا الصدد، تبيّن هذه الحقيقة أيضاً، ومنها الحديث النبوي الشريف: "ما تَصَدَّقَ أَحَدُكُم بِصَدَقَة مِنْ طَيِّب ـ وَلا يَقْبَلُ اللهُ إلاّ الطّيِّبَ ـ، إلاّ أَخَذَهـا الرَّحمـانُ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كانَتْ تَمْرَةً فَتَربُو مِنْ كَفِّ الرَّحمانِ في الجِنان حَتّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الجَبَلِ"(1). هذا الحديث الشّريف يبيّن تلك العلاقة الوثيقة المباشرة، بين هذه العبادة المهمّة و بين توطيد العلاقة مع الله تعالى، و تفعيل الحالات المعنوية في واقع الإنسان ومحتواه الداخلي. و تتحرك "الآية السّادسة"، من موقع الإشارة إلى عبادة مهمّة اُخرى، و هي عبادة: "الذِّكر"، للهِ تعالى، و ما لَها من دور في بعث الطّمأنينة، في واقع الرّوح فتقول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ). فالطّمأنينة تقترنُ دائماً مع التّوكل على الباري تعالى; و عدم الوقوع في أسر الماديّات والاُمور الدنيويّة، من الإنخداع بِبَريق الدُنيا، و الطّمع و البُخل و الحَسد و ما شابهها من الاُمور، فَمع وجود هذه الحالات السّيئة في واقع النفس، فسوف لن يذوق الإنسان معها الرّاحة و الطّمأنينة. ا ص291 - ص304و عليه، فإنّ ذكر الله تعالى بإمكانه إزالة هذه الصّفات السّلبية عن القلب، و تطهير النّفس منها لِتَتَهيأ الأرضيّة المساعدة، في تَفتّح براعم السّكينة و الطّمأنينة في واقع القلب و الرّوح. أو بتعبير أدق، إنّ جميع الإضطرابات الرّوحية، و أشكال القلق النّفسي، في واقع الذّات 1. صحيح مسلم، ج2، ص702، طبع بيروت. [ 291 ] البشريّة، ناشئة من هذه الرّذائل الأخلاقيّة، وستزول وتقلع جذورها بذكر الله، الذي يعمل على تسكين روح الإنسان، و تجفيف مصادر القلق هذه، لِتحل محلّها السّكينة والهدوء النّفسي(1). -- و أخيراً تناولت "الآية السّابعة"، دور الصّلاة و الصّيام في رفع المعنويات، و تقوية عناصر الخير في وجدان الإنسان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ). و قد فسّرت بعض الرّوايات الإسلاميّة الصّبر بالصيام(2)، من حيث كون الصّوم أحد المَصاديق البارزة لِلصبر، و إلاّ فالصّبر له مفهومٌ وسيعٌ يشمل كلّ أنواع المُقاومة، و التّحدي لِلأهواء النّفسانية و الوساوس الشيطانية، في طريق طاعة الله تعالى، وكذلك تَستوعب الآية حالة الصّبر على المصائب و المحن، التي تصيب الإنسان في حركة الواقع. و قد وَرد في حديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، أنّه كلّما أهمّه شيءٌ إندفع مُسرعاً نحو الصّلاة، وبعدها يتلو هذه الآية ثلاث مرّات: "كانَ عَليٌّ(عليه السلام) إذا أَحالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ قامَ إِلى الصَّلاةِ ثُمَّ تَلا هذِهِ الآيةَ: (و اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )"(3). نعم فإنّ العبادة ترسخ في النّفس محاسنها، و تصقلها و تعمل على تفعيل عناصر الخير فيها، من: التّوكّل و الشّهامة و الصّبر و الإستقامة، و تستأصل الرّذائل الأخلاقيّة من قَبيل: الجُبن و الشّك و الإضطراب و التّوتر النّاشيء من حالات الصّراع، وحبّ الدنيا وتزيحها عن واقع النّفس، وبهذا تحيي العبادة في واقع النّفس، شطراً مُهمّاً من الفضائل الأخلاقية، وكذلك تقوم بإلغاء الكثير من عناصر الشّر، و قوى الإنحراف و الرّذيلة من وجود الإنسان. 1. للتفصيل يرجى مراجعة التفسير الأمثل، ذيل الآية الآية الشريفة المبحوثة. 2. مجمع البيان، ج1، ذيل الآية 45 من سورة البقرة، التي تشابه الآية التي نحن في صددها، وتفسير البرهان، ج1، ص166، ذيل 153، سورة البقرة، ففي حديث عن الصّادق(عليه السلام)، قال في الآية "الصّبرُ هُو الصّوم": بحار الأنوار، ج93، ص294. 3. اُصول الكافي، (طبقاً لنقل الميزان، ج1، ص154). [ 292 ] النّتيجة: نستنتج ممّا ذُكر آنفاً: أنّ العِبادة لَها دورها الفاعل، والعميق في تَهذيب الأخلاق، و يمكن تَلخيص هذا المعنى في عدّة نقاط: 1 ـ إنّ التوجه لِلمبدأ، والإحساس بحضور الله تعالى، مع الإنسان في كلّ وقت و مكان، يدفع الإنسان نحوَ المزيد من مُراقبة أعماله وحركاته وسكناته، و يُساعده على السّيطرة على ميوله الذّاتية، و أهوائه النفسيّة، لأنّ العالم محضر الله، والمعصية في حال الحضور، تمثّل الإنحراف عن خطّ الحقّ، و بالتّالي فهي عين الوقوع في لُجّة الكُفران للنعمة. 2 ـ إنّ التّوجه لصفات جَلاله و جَماله، التي وردت في العبادات و الأدعية، يثير في نفس الإنسان حالةً من لُزوم الإقتباس، من تلك الأنوار القُدسيّة، و يعيشها في واقعه الرّوحي، ليسير في طريق التّكامل الأخلاقي. 3 ـ التّوجه ِللمَعاد والمحكمة الإلهيّة العظيمة في يوم القيامة، يمثّل أداةً فاعلةً لتطهير و تزكيّة النّفس، خوفاً من العقاب و الحِساب في غد. 4 ـ العِبادة و الدّعاء، تضفي على الإنسان هالات من النّور لا توصف، فلا تستطيع معها ظُلمات الرّذيلة أن تقف أمامها، فيحسّ الإنسان بالقُرب الإلهي، و صفاء الضّمير بعد كلّ عبادة، شريطَة أن تكونَ مقرونةً بحضور القلب . 5 ـ إنّ مضامين العبادات و الأدعية، غنيٌّ جدّاً بالتّعاليم والآداب الأخلاقيّة، فهي ترسمُ الطّريق لِلسالك نحو الله تعالى، و هي في الحقيقة دروسٌ قيّمةٌ، توصل الإنسان السّالك لِهدفه السّامي، من أقصر طريق، و بدونِ العبادة و المُناجاة، و خاصّةً في حالات الخَلوة مع الله، تعالى و لا سيّما في وقت السّحر، فسوف لن يصل الإنسان إلى غايته المنشودة. -- تأثير العبادة في صقل الرّوح في الرّوايات الإسلاميّة: لهذه المسألة، صَداً وَاسعاً في الرّوايات الإسلاميّة، و نشير إلى بعض منها، تاركين التّفاصيل [ 293 ] إلى البحوث الموسّعة: 1 ـ أشارت جميع الرّوايات الإسلاميّة، التي تناولت فلسفة الأحكام، إلى دور العبادة في تَهذيب النّفوس و صفاء القلوب، فقال الإمام علي(عليه السلام)، في قِصار كلماته: "فَرَضَ اللهُ الإِيمانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّركِ، والصَّلاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الكِبْرِ وَالزَّكاةَ تَسبِيباً لِلرِّزْقِ وَالصِّيامَ إِبتِلاءً لاِِخلاصِ الخَلْقِ"(1). وَ وَرد نفس هذا المعنى، مع إختلاف بسيط في خُطبة الزّهراء(عليها السلام) فإنّها تقول: "فَجَعَلَ اللهُ الإِيمانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّركِ، والصَّلاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الكِبْرِ وَالزَّكاةَ تَزكِيَّةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْقِ وَالصِّيامَ تَثبيتاً لِلإِخلاصِ"(2). 2 ـ و يشبّه الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) الصّلاة بنهر جاري، يتولى تطهير البدن كلّ يوم خمس مرّات، حيث يقول: "إِنّما مَثلُ الصَّلاةِ فِيكُم كَمَثلَ السّري ـ وهو النهر ـ عَلى بابِ أَحَدِكُم يَخرُجُ إِلَيهِ في اليَومِ وَاللَّيلَةُ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ خَمسُ مرّات، فَلا يَبْقى الدَّرنُ عَلَى الغَسلِ خَمْسُ مرّات، وَلَم تَبْقَ الذُّنُوبُ عَلى الصَّلاةِ خَمسُ مِّرات"(3). و عليه فقد ذكرت هذه الرّوايات، لكلّ عبادة: دوراً خاصّاً في عمليّة تهذيب النّفوس الإنسانيّة. 3 ـ وَ وَرد في حديث آخر عن الإمام الرضا(عليه السلام)، يشرح فيه السّبب، الذي شرّع الله تعالى بِسَببِه العبادة، فيقول: "فَإنْ قالَ فَلِمَ تَعبَّدَهُم؟ قِيلَ لِئَلا يَكُونُوا نـاسِينَ لِذِكْرِهِ وَِلا تارِكِينَ لاَِدَبِهِ وَ لا لاهِينَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيهِ إِذا كانَ فِيهِ صَلاحُهُم وَقِوامُهُم، فَلَو تُرِكُوا بِغَيرِ تَعَبُّد لَطالَ عَلَيهِم الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُم"(4). فيتّضح من ذلك أنّ العبادة، تجلو القلب و تُبلوِر الرّوح و تَحثّ على ذكر الله تعالى، الذي هو 1. نهج البلاغة، قِصار الكلمات، الكلمة 252. 2. يرجى الرجوع إلى كتاب: حياة السيدة الزهراء(عليها السلام). 3. المحجّة البيضاء، ج، ص339، كتاب أسرار الصّلاة. 4. عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، طِبقاً لنقل نور الثقلين، ج1، ص39، ح39. [ 294 ] مدعاة لإصلاح الظاهر والباطن. 4 ـ وَ وَرد في حديث آخر، عن الإمام الرّضا(عليه السلام)، و في مَعرض حديثه لإحصاء فوائد الصّلاة، أنّه قال: "مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإِيجابِ وَالمُداوَمَةِ عَلى ذِكْرِ اللهِ عَزَّوَجَلَّ بِاللَّيلِ وَالنَّهارِ لِئَلا يَنْسَى العَبْدُ سَيِّدَهُ وَمُدَبِّرَهُ وَخَالِقَهُ، فَيَبْطُرَ وَيَطْغى وَيَكُونَ فِي ذِكْرِهِ لِرَبِّهِ وَقِيامِهِ بَينَ يَدَيهِ زاجِراً لَهُ عَنِ المَعاصِي وَ مانِعاً لَهُ عَنْ أَنْواعِ الفَسادِ"(1). 5 ـ وَ وَرد عن الإمام الصادق(عليه السلام)، في دور الصّلاة و ميزان قبولها، أنّه قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ قُبِلَتْ صَلاتُهُ أَمْ لَم تُقْبَلْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ مَنَعَتْ صَلاتُهُ عِنَ الفَحشاءِ وَالمُنْكَرِ، فَبِقَدَرِ ما مَنَعَتْهُ قُبِلَتْ"(2). فهذا الحديث يُبيّن بوضوح، أنّ صحّة الصّلاة و قبولها، لها علاقةٌ طرديّةٌ بالأخلاق و الدّعوة إلى الخير و ترك الشّر، و من لم تؤثّر صلاته، في تفعيل عناصر الخير و الصّلاح في وجدانه، فعليه أن يعيد النّظر فيها حتماً، لأنّها وإن كانت مسقطة للتكليف، إلاّ أنّها غير مقبولة لدى الباري تعالى. 6 ـ و في فلسفة الصّيام، قال الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "إِنَّ الصَّومَ يُمِيتُ مُرادَ النَّفْسِ وَشَهْوَةَ الطَّبْعِ الحَيوانِي، وَ فِيهِ صَفاءُ القَلْبِ وَطَهارَةِ الجَواِحِ وَ عَمارَةُ الظَّاهِر وَ الباطِنِ، وَالشُّكْرُ عَلَى النِّعَمِ، وَالإِحْسانِ إِلى الفُقَراءِ، وَزِيادَةُ التَّضَرُّعِ وَالخُشُوعِ، وَالبُكَاءِ وَجَعَلَ الإِلتِجاءِ إِلى اللهِ، وَسَبَبُ إِنْكِسارِ الهِمَّةِ، وَتَخْفِيفِ السَّيِّئاتِ، وَتَضعِيفِ الحَسَناِتِ وَ فِيهِ مِنَ الفَوائِدِ ما لا يُحْصى"(3). فقد ذكر هذا الحديث الشّريف، أربعة عشر صفةً إيجابيةً للصّوم في واقع النّفس، و هي مجموعةٌ من الفضائل و الأفعال الأخلاقيّة، تصعد بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي و الإلهي. 1. وسائل الشيعة، ج3، ص4. 2. مجمع البيان، ج8، ص285، ذيل الآية 45 من سورة العنكبوت. 3. بحار الأنوار، ج93، ص254. [ 295 ] 7 ـ و نختم هذا البحث الواسع، بحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال: "دَوامُ العِبادَةِ بُرهانُ الظَّفَرِ بِالسَّعادَةِ"(1). و من أراد التّفصيل أكثر فليراجع: "وسائل الشّيعة"، الأبواب الاُولى من العِبادات، و كذلك ما ورد في: "بحار الأنوار". نعم فإنّ كلّ من يطلب السّعادة، عليه أن يتحرك بإتّجاه توثيق العلاقة مع الله تعالى، من موقع الدّعاء و العبادة. -- النّتيجة: نستنتج من هذه الرّوايات الشّريفة التي أوردناها، و الاُخرى التي أَعْرضنا عنها لِلإختصار، أنّ علاقة العبادة بصفاء الرّوح، و تهذيب النّفوس، و تفعيل القيم الأخلاقيّة في واقع الإنسان، علاقةٌ طرديّةٌ، و كلّما تحرّك الإنسان في عبادته، من موقع الإخلاص لله تعالى، كان أثرها في نفسه أقوى وأشدّ. و هذا الأمر محسوس جدّاً، فالمخلص الذي يؤدي عبادته بحضور قلب، فإنّه يحسُ بالنّور والصفاء في قلبه، و الميل إلى الخير و النّزوع عن الشّر، ويجد في روحه العبوديّة والخشوع والخضوع الحقيقي، بإتجاه خالقه وبارئه. و هذا الأخير في الحقيقة هو العامل المشترك بين جميع العبادات، و إن كان لكلّ منها تأثير خاص على النفس، فالصّلاة تنهى عن الفَحشاء و المنكر، و الصّيام يقوّي الإرادة و ينشط العقل، لِيْسيطر على جميع نوازع النّفس، والحج يمنح الإنسان بُعداً معنوياً، يجعله بعيداً عن زخارف الدّنيا و زبرجها، و الزّكاة تقمع البخل في واقع النّفس، و تقضي على أشكال الطّمع والحرص على الدنيا. و ذِكر الله يَهدىء الرّوح، و يمنحها الطّمأنينة والرّاحة، و كلّ ذكر من الأذكار، تتجلّى فيه 1. غُرر الحِكم، الرقم 4147. [ 296 ] صفةٌ من صفاتِ جَلاله و جَماله سبحانه و تعالى، التي تتولّى ترغيب الإنسان في السّلوك إلى الله، و الإنسجام مع خطّ الرّسالة. و عليه فإنّ الشّخص الذي يؤدّي العبادة على أتمّ وجه، سينتفع من فوائدها في دائرة المعطيات العامة، وكذلك تمنحه العبادات آثارها الإيجابيّة الخاصّة، بما يحقّق له بلورة فضائله الأخلاقيّة، و ملكاته النفسانيّة في واقع وجوده، فالعِبادة تشكّل الخطوة والحجر الأساس، لبناء النّفس، في خطّ التّقوى و الإيمان، و الإنفتاح على الله، شَريطة الاُنس بمثل هذه المعاني الروحيّة، و التّعرف على فلسفة العبادة، فلا ينبغي أن نقنع بالمحافظة على قوى الجسم وحده، و لأهميّة مَبحث الذّكر خصّصنا له بَحثاً مُستقلاًّ عن باقي البحوث. -- ذِكر الله و تربية الرّوح: أعطى علماء الأخلاق، الأهميّة القُصوى لِلذكر، و ذلك تبعاً لما ورد، في الرّوايات الإسلاميّة و القرآن الكريم، و اعتبروه من العناصر المهمّة في خطّ العبادة، و تطهير النّفس و تهذيبها، و ذكروا لكلّ مرحلة من مراحل السّير و السّلوك، الذّكر الخاص بها. فمثلاً في مرحلة التّوبة، ينبغي للسالك في طريق الحقّ، الإهتمام بِذِكر: "ياغَفّار"، و في مرحلة محاسبة النّفس: "ياحَسيب"، و في مرحلة إستنزال الرّحمة: "يا رحمان" و "يا رَحيم" ... وَ هَلُمَّ جرّا. و هذه الأذكار تتناسب و حالات الإنسان، و السّلوك الذي يسلكه الإنسان في خطّ الإستقامة، و الإلتزام بها على كلّ حال حسن، و لا تختص بعنوان: قصد الوُرود إلى ساحة الرّحمة الإلهيّة. نعم فإنّ ذكر الله تعالى، من أكبر العبادات وأفضل الحسنات، في عمليّة التّصدي للتحديات النّفسية الصّعبة، و تحقيق الصّيانة من الوساوس الشّيطانية. ذكرُ الله، يخرق حُجب الأنانيّة والغرور و النّوازع النّفسانية، التي تُعدّ من أَقوى العوامل، لِهَدم سعادة الإنسان، ويمنح الإنسان وعياً في أجواء السّلوك إلى الله تعالى، من الأخطار التي [ 297 ] تهدّد سعادته، ويرسم له معالم مسيرته في حركة الحياة والواقع. ذكر الله تعالى: هو المطر الذي ينزل على أرض القَلب، لِيسقي بذور التّقوى و الفضيلة، و يعمل على تقويتها و تنميتها. و الحقيقة أنّ المحاولة للإحاطة بعظمة هذه العبادة، و إحصاء معطيّاتها على مستوى تهذيب النّفس، لا تفي بالغرض، و لا تحيط بأهميتها في خطّ السّلوك المعنوي للإنسان. بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم، لنستوحي من آياته، أهميّة ذكر الله تعالى: 1 ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )(1). 2 ـ (وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ )(2). 3 ـ (إِنَّني أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَآعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي )(3) 4 ـ (إذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتي وَلاَ تَنِيَا في ذِكْرِي )(4). 5 ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً )(5). 6 ـ (وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً )(6). 7 ـ (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )(7). 8 ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى آلنُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً )(8). 1. سورة الرّعد، الآية 28. 2. سورة العنكبوت، الآية 45. 3. سورة طه الآية 14. 4. سورة طه، الآية 42. 5. سورة طه، الآية 124. 6. سورة الكهف، الآية 28. 7. سورة النّجم، الآية 29. 8. سورة الأحزاب، الآية 41 إلى 43. [ 298 ] 9 ـ (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ )(1). 10 ـ (رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ )(2). تفسير و إستنتاج: "الآية الاُولى": تطرّقت للحديث عن دور ذكر الله تعالى، في خلق حالة الطّمأنينة في القلوب; لِتتولّى إنقاذ الإنسان من حالات الزلّل و التّوتر، وتوجهه فيها إلى تحقيق الفضائل الأخلاقية في واقع النّفس، فيقول تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ). ثمّ يبيّن قاعدةً كليّةً، تقول: (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ). فما يجول في خاطر الإنسان و خُلدِه، من الحُزن من المستقبل و التّفكير بالرّزق، و الموت و الحياة و المرض و ما شابهها من اُمور الدنيا، كلّها تدفع الإنسان للتّفكير الجاد في مصيره، وتسلب منه الرّاحة النّفسية، و تَورثه القلق الحقيقي نحو المستقبل المجهول. و كذلك عناصر: البخل و الطّمع، و الحرص، هي أيضاً من الاُمور التي تزرع القلق و التّوتر في نفس الإنسان، ولكن عندما يتجسّد ذِكر الله الكريم، الغني القوي، الرّحمن الرّحيم، الرزّاق في وعي الإنسان، ويعيش الإيمان بأنّ الله تعالى، هو الواهب والمانع الحقيقي، فعندما تَتَجسّد هذه المعاني و المفاهيم، و تتفاعل مع بعضها في واقع الإنسان في حركة الحياة، فسوف يعيش الإطمئنان، و السّكينة أمام تحدّيات الواقع، فكلّ شيء يراه مسيّراً لقدرة الله تعالى وإرادته المطلقة، و ما شاء كانَ و ما لَمْ يَشأ لم يكن. و بهذا سيطمئن الإنسان، و يسلّم أمره إلى بارئِه، و ستزرع في نفسه حالة التّقوى و حبّ الفضائل، و هو ما نَقرأه في الآية الشّريفة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَ ادْخُلِي جَنَّتِي )(3). 1. سورة المائدة، الآية 91. 2. سورة النّور، الآية 37. 3. سورة الفجر، الآية 27 إلى 30. [ 299 ] و تحركت "الآية الثّانية"، بعد ذكرها لمعطيات الصّلاة، على مستوى النّهي عن الفحشاء والمُنكر: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ )، إلى تقرير هذه الحقيقة و هي: (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ). نعم، فإنّ ذكر الله هو روح الصّلاة، والرّوح أشرف شيء في عالم الوجود، فإذا ما منَعت الصّلاة عن الفحشاء و المُنكر، فإنّما ذلك بسبب تضمّنها لذكر الله، لأنّ ذكر الله هو الذي يذكّر الإنسان بالنّعم، التي غرق بها الإنسان في واقع الحياة، و تذكّر نِعم الله، بِدوره يمنع الإنسان من العصيان و الطّغيان، و سيخجل من إرتكاب الذّنوب، هذا من جهة. و من جهة اُخرى، سيدعو الإنسان للتّفكير بيوم القيامة، الذي لا ينفع فيه مالٌ و لا بنون، و يوم تنشر الصّحف و تَتطاير الكُتب، و يعيش المُسيئون الفضيحة و العار، في إنتظار ملائكة العذاب التي تأخذهم إلى الجحيم، و يكتب الفوز و النّصر للمحسنين، و سيكون في إستقبالهم ملائكة الرّحمة الذين يقولون لهم، اُدخلوها بسلام آمِنين، فذِكر هذه الاُمور، و تجَسيدها في وعي الإنسان، سيدفع إلى التّوجه نحو الفضائل، و يمنعه من مُمارسة الرّذيلة و الإثم. و قال بعض المفسّرين، إنّ جُملة: (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ )، إشارةً إلى أنّ ذِكر الله تعالى، هو أسمى و أرقى العبادات، في مسيرة الإنسان المعنويّة. و يوجد إحتمالٌ آخرٌ، و هو أنّ المقصود من: (وَلَذِكْرُ اللهِ )، هو ذِكر الله لِعبده، (و ذلك في مقابل ذكر العبد لله تعالى)(1). حيث يصعد ذكر الله تعالى به، إلى أسمى و أعلى درجات العبوديّة، في آفاقها الواسعة، ولا شيء أفضل من هذه الحالة المعنويّة للإنسان، ولكنّ الإحتمال الأوّل، يتناسب مع معنى الآية أكثر. -- "الآية الثّالثة": ذكرت أوّل كلام لله تعالى، مع نبيّه موسى(عليه السلام)، في وادي الطّور الأيمَنِ، في البُقعة المباركة عند الشّجرة، فسمع موسى(عليه السلام) النداء قائلاً: (إِنَّني أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاٌعْبُدْني 1. المحجّة البيضاء، ج2، ص266. [ 300 ] وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي ). و الحقيقة أنّ الآية ذكرت، أنّ الهدف والفلسفة الأصليّة للصّلاة، هي ذكر الله تعالى، و ما ذلك إلاّ لأهميّة الذّكر، في حركة الإنسان المنفتحة على الله تعالى، و خُصوصاً أنّها ذكرت مسألة الصّلاة، و ذكر الله بعد بحث التّوحيد مباشرةً. -- "الآية الرابعة" خاطبت الأخوين موسى و هارون(عليهما السلام)، من موقع نَصبهما لِمقُام النّبوة و السّفارة الإلهيّة، وأمرتهما بمحاربة قوى الإنحراف و الزّيغ، و التّصدي لفرعون و أعوانه: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ). فالأمر بذكر الله تعالى و عدم التّواني فيه، لِلوقوف بوجه طاغية: مثلَ فِرعون، هو أمرٌ يحكي عن دور الذّكر و أبعاده الوسيعة، و أهميّته الكبيرة في عمليّة السّلوك إلى الله تعالى، فذِكر الله يمنح الإنسان عناصر القّوة و الشّجاعة، في عمليّة مواجهة التّحديات الصّعبة، لِلواقع المُنحرف. وَ وَرد في تفسير: "في ظِلال القرآن"، في مَعرض تفسيره لهذه الآية، قوله: (إنّ الله تعالى أمر موسى و هارون(عليهما السلام)، أن اُذكروني، فإنّ ذِكري، هو سِلاحكم و وسيلتكم لِلنجاة"(1). و بعض المفسّرين فسّروا كلمة "الذّكر"، الواردة في الآية، بإبلاغ الرّسالة، و قال البعض الآخر، أنّها مطلق الأمر بالذّكر، و قال آخرون: إنّها ذِكر الله تعالى خاصّةً، و الحقيقة أنّه لا فرق بين التّفسيرات الثّلاثة، و يمكن أن تجتمع كلّها في مفهوم الآية. و من المعلوم أنّ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و لاِجل أن يستمر في إبلاغ الرّسالة، و التّحرك في خطّ الطّاعة و التّصدي لقوى الباطل و الإنحراف، عليه أن يستمد القوّة و القدرة من ذكر الله تعالى، و التّوجه إليه في واقع النّفس والقلب. -- 1. في ظِلال القرآن، ج5، ص474. [ 301 ] و تناولت "الآية الخامسة"، إفرازات و نتائج، الإعراض عن ذكر الله تعالى في حركة الإنسان، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ أَعمى ). فعذابهم بالدّنيا أنّهم يعيشون ضنك العيش، وفي الآخرة العمى، و فَقد البَصر!. فضنك العيش، ربّما يكون بتضييق الرّزق على من يعيش الغفلة عن ذكر الله تعالى، أو ربّما بإلقاء الحرص على قلب الغني، فيتحرك في تعامله مع الآخرين، من مَوقع الطّمع و البُخل، فلا يكاد يُنفق درهماً في سبيل الله، ولا يعين فقيراً ولو بشقّ تَمرة، فيكون مِصداق حديث أميرالمؤمنين(عليه السلام)، حيث يقول: "يَعِيشُ فِي الدُّنيـا عَيْشَ الفُقَراءَ وَيُحاسَبُ فِي الآخِرَةِ حِسابَ الأَغِنياء"(1). ففي الحقيقة أنّ أغلب الأغنياء وبسبب حرصهم الشّديد على النّفع المادي، يعيشون في حالة قلق دائمة، و لا ينتفعون من أموالهم بالقدر الكافي، وتكون عليهم حسرات في الدّنيا و الآخرة. ولكن لماذا يُحشر أعمى؟ وَ لَربّما لِتشابُه الأحداث هناك، مع الأحداث في الدنيا، فالغافل عن ذكر الله تعالى في الدنيا، و لإعراضه عن الحقيقة و آيات الله تعالى، و تَجاهله لدواعي الحقّ و الخير في باطنه، فإنّه لا يرى الحقّ بعين البصيرة، في حركة الحياة والواقع، و لذلك سوف يُحشر أعمى في عَرصات القِيامة. كيف يكون ذِكر الله؟ فسّرت الكثير من الرّوايات الإسلاميّة، ذِكر الباري تعالى: "بالحج"، وَ وَرد في البعض الآخر، أنّ الذّكر هنا: بمعنى الولاية لأمير المؤمنين(عليه السلام). و الحق أنّ الإثنين هما مِصداقان من مَصاديق ذكر الله تعالى، فالحجّ هو مجموعةٌ من 1. بحار الأنوار، ج69، ص119. [ 302 ] الأعمال و السّلوكيات، تذكّر بالله تعالى، و كذلك علي(عليه السلام)، فذِكره و النّظر إليه عبادةٌ، تُعمّق في الإنسان روح الإيمان، و تُذكّره بالله تعالى. -- "الآية السّادسة": خاطبت الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، من موقع النّهي عن طاعة الأشخاص الذين يعيشون في غفلة، وحثّته على معاشرة الّذين يذكرون ربّهم، صباحاً و بِالغَداة و العَشِي، ولا يريدون إلاّ الله تعالى، فقال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ). و من المعلوم أنّ الله سبحانه و تعالى، ما كان ليعذّب أحداً بالغفلة عن ذكره، بل لأنّ مثل هؤلاء الأشخاص، ينطلقون في تعاملهم مع الحقّ، من موقع العناد و الّتمرد و التّكَبّر و التعصّب لِلباطل. و بناءاً عليه، فإنّ القصد من الإغفال هو سلب نعمة الذّكر منه، لِيلاقي جزاءه في الدّنيا قبل الآخرة، و لهذا، فإنّ ذلك لا يستلزم الجَبر. و لا نرى أحداً من هذه الجماعة، إلاّ مُتّبعاً لِهواه، مُتّخذاً سبيل الإفراط و التَّفريط في كلّ فعاله، لذلك تعقّب الآية قائلةً: (وَآتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ). و يُستفاد من هذه الآية، أنّ الغفلة عن ذِكر الله تعالى، تؤثّر سلباً في أخلاق وروح الإنسان، و تُؤدّي به إلى وادي الأهواء، و تجرّه إلى منحدرِ الأنانية. نعم، فإنّ روح و قلبَ الإنسان، لا يسع إثنان، فإمّا "الله تعالى"، و إمّا "هوى النّفس"، و لا يمكن الجمع بينهما. فالهَوى هو مصدر الغَفلة عن الله تعالى، و خلقه، و سَحق جميع القِيم و الاُصول الأخلاقية، و بالتّالي فإنّ هَوى النّفس، يغرق الإنسان في عُتمة ذاته الضّيقة، و يُعمي بصره عن كلِّ شيء يدور حوله في واقع الحياة، والإنسان الذي يتحرّك من موقع الهَوى، لا يرى إلاّ إشباع شَهواته، [ 303 ] ولا مفهوم عنده لمفاهيم أخلاقيّة، مِثلَ: صلة الرحم وَ المُروّة والإيثار. -- "الآية السابعة": خاطبت الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) أيضاً، من موقع التّحذير، عن مُخالطة المُعْرِض عن ذِكر الله تعالى، فقالت: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ). في تفسير "ذِكر الله"، قال البعض: أنّ المراد منها في هذه الآية، هو القرآن الكريم، و إعتبرها البعض الآخر، إشارةً لِلأدلّة العقليّة و المنطقيّة، و قال آخرون، أنّها الإيمان، و الظّاهر أنّ ذكر الله تعالى، له مفهومٌ واسعٌ يشمل كلّ ما ذُكر آنفاً. و ذَكر آخرون، أنّ هذه الآية تدعو لترك جهاد هؤلاء، و لهذا السّبب، نُسخت بآيات الجهاد التي نزلت بعدها، و الحقّ أنّه لا نَسخ في البَيّن، و كلّ ما في الأمرِ، أنّها تمنع من مُجالسة الغافلين عن ذِكر الله تعالى، ولا مُنافاة بينها وبين مسألة الجهاد بشرائطها الخاصة. و أخيراً تبيّن هذه الآية، العلاقة و الرّابطة الوثيقة بين: "حبّ الدنيا" و"الغفلة عن ذِكر الله"، فكَما أنّ ذِكر الله تعالى له خصائصه، و معطياته الإيجابية على الإنسان، على مستوى تَقوية عناصر الفضيلة و ترشيد القيم الأخلاقيّة، فكذلك الغفلة لها آثارها، و نتائجها السلبيّة على روح الإنسان، على مستوى تقوية عناصر الشّر و الرذيلة فيها. "الآية الثّامنة": خاطبت جميع المؤمنين، ودعتهم إلى ذِكر الله تعالى، و الخروج من دائرة الظّلمات إلى دائرة النّور، فتقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا * هُوَ الَّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ). و الجدير بالذّكر في هذا الأمر، أنّ الآية الكريمة، بعد الأمر بالذّكر الكثير، و التّسبيح له بكرةً و أصيلاً، تخبرنا عن أنّ الله تعالى، سيصلّي هو و ملائكته علينا، و يخرجنا من الظّلمات إلى النّور، ألَيسَ ذلك هو هدفنا في حركة الحياة، أَلَيس ذلك هو مُبتغانا من الإلتزام في خطّ الرّسالة، و كلّ ما نريده هو، أنّ الذّكر و صلاة الربّ و الملائكة علينا، سيزرع فينا روح التّوفيق [ 304 ] لِلطاعة و السّير في طريق الخَير، و يقلع من واقعنا بذور الشرّ، و جذور الفساد، ولتحل محلّها عناصر الفَضيلة و النّسك والأخلاق الحميدة؟!. و قد وَرد في تفسير الميزان، أنّ ذيل الآية الكريمة، هو بِمنزلة التبيّن لعلّة الأمر، بـ: "الذّكر الكثير"، و هو يؤيّد ما أشرنا إليه آنفاً(1). و قد وَردت تفاسيرٌ مختلفةٌ، و آراءٌ مُتغايرةٌ لعبارة: "الذّكر الكثير"، فقال بعضهم، أن لا يُنسى الله تعالى في كلّ وقت و مكان. و قال بعضٌ آخرٌ أنّه الذّكر و التّسبيح، بأسماء وصفات الله الحُسنى. و ذكرت روايات اُخرى، أن المقصود به، هو التّسبيحات الأربعة، أو تسبيح الزّهراء(عليها السلام). و قال إبن عباس: كلّ أوامر الله تعالى تنتهي إلى غاية ما، إلاّ الذّكر فلا حدّ له أبداً، و لا عُذر لتاركه أبداً. و على كلّ حال، فإنّ "الذّكر الكثير"، له مفهومٌ واسعٌ، و يمكن أن يجمع بين طيّاته كلّ ما ذكر آنفاً. ا ص291 - ص304و عليه، فإنّ ذكر الله تعالى بإمكانه إزالة هذه الصّفات السّلبية عن القلب، و تطهير النّفس منها لِتَتَهيأ الأرضيّة المساعدة، في تَفتّح براعم السّكينة و الطّمأنينة في واقع القلب و الرّوح. أو بتعبير أدق، إنّ جميع الإضطرابات الرّوحية، و أشكال القلق النّفسي، في واقع الذّات 1. صحيح مسلم، ج2، ص702، طبع بيروت. [ 291 ] البشريّة، ناشئة من هذه الرّذائل الأخلاقيّة، وستزول وتقلع جذورها بذكر الله، الذي يعمل على تسكين روح الإنسان، و تجفيف مصادر القلق هذه، لِتحل محلّها السّكينة والهدوء النّفسي(1). -- و أخيراً تناولت "الآية السّابعة"، دور الصّلاة و الصّيام في رفع المعنويات، و تقوية عناصر الخير في وجدان الإنسان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ). و قد فسّرت بعض الرّوايات الإسلاميّة الصّبر بالصيام(2)، من حيث كون الصّوم أحد المَصاديق البارزة لِلصبر، و إلاّ فالصّبر له مفهومٌ وسيعٌ يشمل كلّ أنواع المُقاومة، و التّحدي لِلأهواء النّفسانية و الوساوس الشيطانية، في طريق طاعة الله تعالى، وكذلك تَستوعب الآية حالة الصّبر على المصائب و المحن، التي تصيب الإنسان في حركة الواقع. و قد وَرد في حديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، أنّه كلّما أهمّه شيءٌ إندفع مُسرعاً نحو الصّلاة، وبعدها يتلو هذه الآية ثلاث مرّات: "كانَ عَليٌّ(عليه السلام) إذا أَحالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ قامَ إِلى الصَّلاةِ ثُمَّ تَلا هذِهِ الآيةَ: (و اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )"(3). نعم فإنّ العبادة ترسخ في النّفس محاسنها، و تصقلها و تعمل على تفعيل عناصر الخير فيها، من: التّوكّل و الشّهامة و الصّبر و الإستقامة، و تستأصل الرّذائل الأخلاقيّة من قَبيل: الجُبن و الشّك و الإضطراب و التّوتر النّاشيء من حالات الصّراع، وحبّ الدنيا وتزيحها عن واقع النّفس، وبهذا تحيي العبادة في واقع النّفس، شطراً مُهمّاً من الفضائل الأخلاقية، وكذلك تقوم بإلغاء الكثير من عناصر الشّر، و قوى الإنحراف و الرّذيلة من وجود الإنسان. 1. للتفصيل يرجى مراجعة التفسير الأمثل، ذيل الآية الآية الشريفة المبحوثة. 2. مجمع البيان، ج1، ذيل الآية 45 من سورة البقرة، التي تشابه الآية التي نحن في صددها، وتفسير البرهان، ج1، ص166، ذيل 153، سورة البقرة، ففي حديث عن الصّادق(عليه السلام)، قال في الآية "الصّبرُ هُو الصّوم": بحار الأنوار، ج93، ص294. 3. اُصول الكافي، (طبقاً لنقل الميزان، ج1، ص154). [ 292 ] النّتيجة: نستنتج ممّا ذُكر آنفاً: أنّ العِبادة لَها دورها الفاعل، والعميق في تَهذيب الأخلاق، و يمكن تَلخيص هذا المعنى في عدّة نقاط: 1 ـ إنّ التوجه لِلمبدأ، والإحساس بحضور الله تعالى، مع الإنسان في كلّ وقت و مكان، يدفع الإنسان نحوَ المزيد من مُراقبة أعماله وحركاته وسكناته، و يُساعده على السّيطرة على ميوله الذّاتية، و أهوائه النفسيّة، لأنّ العالم محضر الله، والمعصية في حال الحضور، تمثّل الإنحراف عن خطّ الحقّ، و بالتّالي فهي عين الوقوع في لُجّة الكُفران للنعمة. 2 ـ إنّ التّوجه لصفات جَلاله و جَماله، التي وردت في العبادات و الأدعية، يثير في نفس الإنسان حالةً من لُزوم الإقتباس، من تلك الأنوار القُدسيّة، و يعيشها في واقعه الرّوحي، ليسير في طريق التّكامل الأخلاقي. 3 ـ التّوجه ِللمَعاد والمحكمة الإلهيّة العظيمة في يوم القيامة، يمثّل أداةً فاعلةً لتطهير و تزكيّة النّفس، خوفاً من العقاب و الحِساب في غد. 4 ـ العِبادة و الدّعاء، تضفي على الإنسان هالات من النّور لا توصف، فلا تستطيع معها ظُلمات الرّذيلة أن تقف أمامها، فيحسّ الإنسان بالقُرب الإلهي، و صفاء الضّمير بعد كلّ عبادة، شريطَة أن تكونَ مقرونةً بحضور القلب . 5 ـ إنّ مضامين العبادات و الأدعية، غنيٌّ جدّاً بالتّعاليم والآداب الأخلاقيّة، فهي ترسمُ الطّريق لِلسالك نحو الله تعالى، و هي في الحقيقة دروسٌ قيّمةٌ، توصل الإنسان السّالك لِهدفه السّامي، من أقصر طريق، و بدونِ العبادة و المُناجاة، و خاصّةً في حالات الخَلوة مع الله، تعالى و لا سيّما في وقت السّحر، فسوف لن يصل الإنسان إلى غايته المنشودة. -- تأثير العبادة في صقل الرّوح في الرّوايات الإسلاميّة: لهذه المسألة، صَداً وَاسعاً في الرّوايات الإسلاميّة، و نشير إلى بعض منها، تاركين التّفاصيل [ 293 ] إلى البحوث الموسّعة: 1 ـ أشارت جميع الرّوايات الإسلاميّة، التي تناولت فلسفة الأحكام، إلى دور العبادة في تَهذيب النّفوس و صفاء القلوب، فقال الإمام علي(عليه السلام)، في قِصار كلماته: "فَرَضَ اللهُ الإِيمانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّركِ، والصَّلاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الكِبْرِ وَالزَّكاةَ تَسبِيباً لِلرِّزْقِ وَالصِّيامَ إِبتِلاءً لاِِخلاصِ الخَلْقِ"(1). وَ وَرد نفس هذا المعنى، مع إختلاف بسيط في خُطبة الزّهراء(عليها السلام) فإنّها تقول: "فَجَعَلَ اللهُ الإِيمانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّركِ، والصَّلاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الكِبْرِ وَالزَّكاةَ تَزكِيَّةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْقِ وَالصِّيامَ تَثبيتاً لِلإِخلاصِ"(2). 2 ـ و يشبّه الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) الصّلاة بنهر جاري، يتولى تطهير البدن كلّ يوم خمس مرّات، حيث يقول: "إِنّما مَثلُ الصَّلاةِ فِيكُم كَمَثلَ السّري ـ وهو النهر ـ عَلى بابِ أَحَدِكُم يَخرُجُ إِلَيهِ في اليَومِ وَاللَّيلَةُ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ خَمسُ مرّات، فَلا يَبْقى الدَّرنُ عَلَى الغَسلِ خَمْسُ مرّات، وَلَم تَبْقَ الذُّنُوبُ عَلى الصَّلاةِ خَمسُ مِّرات"(3). و عليه فقد ذكرت هذه الرّوايات، لكلّ عبادة: دوراً خاصّاً في عمليّة تهذيب النّفوس الإنسانيّة. 3 ـ وَ وَرد في حديث آخر عن الإمام الرضا(عليه السلام)، يشرح فيه السّبب، الذي شرّع الله تعالى بِسَببِه العبادة، فيقول: "فَإنْ قالَ فَلِمَ تَعبَّدَهُم؟ قِيلَ لِئَلا يَكُونُوا نـاسِينَ لِذِكْرِهِ وَِلا تارِكِينَ لاَِدَبِهِ وَ لا لاهِينَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيهِ إِذا كانَ فِيهِ صَلاحُهُم وَقِوامُهُم، فَلَو تُرِكُوا بِغَيرِ تَعَبُّد لَطالَ عَلَيهِم الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُم"(4). فيتّضح من ذلك أنّ العبادة، تجلو القلب و تُبلوِر الرّوح و تَحثّ على ذكر الله تعالى، الذي هو 1. نهج البلاغة، قِصار الكلمات، الكلمة 252. 2. يرجى الرجوع إلى كتاب: حياة السيدة الزهراء(عليها السلام). 3. المحجّة البيضاء، ج، ص339، كتاب أسرار الصّلاة. 4. عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، طِبقاً لنقل نور الثقلين، ج1، ص39، ح39. [ 294 ] مدعاة لإصلاح الظاهر والباطن. 4 ـ وَ وَرد في حديث آخر، عن الإمام الرّضا(عليه السلام)، و في مَعرض حديثه لإحصاء فوائد الصّلاة، أنّه قال: "مَعَ ما فِيهِ مِنَ الإِيجابِ وَالمُداوَمَةِ عَلى ذِكْرِ اللهِ عَزَّوَجَلَّ بِاللَّيلِ وَالنَّهارِ لِئَلا يَنْسَى العَبْدُ سَيِّدَهُ وَمُدَبِّرَهُ وَخَالِقَهُ، فَيَبْطُرَ وَيَطْغى وَيَكُونَ فِي ذِكْرِهِ لِرَبِّهِ وَقِيامِهِ بَينَ يَدَيهِ زاجِراً لَهُ عَنِ المَعاصِي وَ مانِعاً لَهُ عَنْ أَنْواعِ الفَسادِ"(1). 5 ـ وَ وَرد عن الإمام الصادق(عليه السلام)، في دور الصّلاة و ميزان قبولها، أنّه قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنْ قُبِلَتْ صَلاتُهُ أَمْ لَم تُقْبَلْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ مَنَعَتْ صَلاتُهُ عِنَ الفَحشاءِ وَالمُنْكَرِ، فَبِقَدَرِ ما مَنَعَتْهُ قُبِلَتْ"(2). فهذا الحديث يُبيّن بوضوح، أنّ صحّة الصّلاة و قبولها، لها علاقةٌ طرديّةٌ بالأخلاق و الدّعوة إلى الخير و ترك الشّر، و من لم تؤثّر صلاته، في تفعيل عناصر الخير و الصّلاح في وجدانه، فعليه أن يعيد النّظر فيها حتماً، لأنّها وإن كانت مسقطة للتكليف، إلاّ أنّها غير مقبولة لدى الباري تعالى. 6 ـ و في فلسفة الصّيام، قال الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "إِنَّ الصَّومَ يُمِيتُ مُرادَ النَّفْسِ وَشَهْوَةَ الطَّبْعِ الحَيوانِي، وَ فِيهِ صَفاءُ القَلْبِ وَطَهارَةِ الجَواِحِ وَ عَمارَةُ الظَّاهِر وَ الباطِنِ، وَالشُّكْرُ عَلَى النِّعَمِ، وَالإِحْسانِ إِلى الفُقَراءِ، وَزِيادَةُ التَّضَرُّعِ وَالخُشُوعِ، وَالبُكَاءِ وَجَعَلَ الإِلتِجاءِ إِلى اللهِ، وَسَبَبُ إِنْكِسارِ الهِمَّةِ، وَتَخْفِيفِ السَّيِّئاتِ، وَتَضعِيفِ الحَسَناِتِ وَ فِيهِ مِنَ الفَوائِدِ ما لا يُحْصى"(3). فقد ذكر هذا الحديث الشّريف، أربعة عشر صفةً إيجابيةً للصّوم في واقع النّفس، و هي مجموعةٌ من الفضائل و الأفعال الأخلاقيّة، تصعد بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي و الإلهي. 1. وسائل الشيعة، ج3، ص4. 2. مجمع البيان، ج8، ص285، ذيل الآية 45 من سورة العنكبوت. 3. بحار الأنوار، ج93، ص254. [ 295 ] 7 ـ و نختم هذا البحث الواسع، بحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال: "دَوامُ العِبادَةِ بُرهانُ الظَّفَرِ بِالسَّعادَةِ"(1). و من أراد التّفصيل أكثر فليراجع: "وسائل الشّيعة"، الأبواب الاُولى من العِبادات، و كذلك ما ورد في: "بحار الأنوار". نعم فإنّ كلّ من يطلب السّعادة، عليه أن يتحرك بإتّجاه توثيق العلاقة مع الله تعالى، من موقع الدّعاء و العبادة. -- النّتيجة: نستنتج من هذه الرّوايات الشّريفة التي أوردناها، و الاُخرى التي أَعْرضنا عنها لِلإختصار، أنّ علاقة العبادة بصفاء الرّوح، و تهذيب النّفوس، و تفعيل القيم الأخلاقيّة في واقع الإنسان، علاقةٌ طرديّةٌ، و كلّما تحرّك الإنسان في عبادته، من موقع الإخلاص لله تعالى، كان أثرها في نفسه أقوى وأشدّ. و هذا الأمر محسوس جدّاً، فالمخلص الذي يؤدي عبادته بحضور قلب، فإنّه يحسُ بالنّور والصفاء في قلبه، و الميل إلى الخير و النّزوع عن الشّر، ويجد في روحه العبوديّة والخشوع والخضوع الحقيقي، بإتجاه خالقه وبارئه. و هذا الأخير في الحقيقة هو العامل المشترك بين جميع العبادات، و إن كان لكلّ منها تأثير خاص على النفس، فالصّلاة تنهى عن الفَحشاء و المنكر، و الصّيام يقوّي الإرادة و ينشط العقل، لِيْسيطر على جميع نوازع النّفس، والحج يمنح الإنسان بُعداً معنوياً، يجعله بعيداً عن زخارف الدّنيا و زبرجها، و الزّكاة تقمع البخل في واقع النّفس، و تقضي على أشكال الطّمع والحرص على الدنيا. و ذِكر الله يَهدىء الرّوح، و يمنحها الطّمأنينة والرّاحة، و كلّ ذكر من الأذكار، تتجلّى فيه 1. غُرر الحِكم، الرقم 4147. [ 296 ] صفةٌ من صفاتِ جَلاله و جَماله سبحانه و تعالى، التي تتولّى ترغيب الإنسان في السّلوك إلى الله، و الإنسجام مع خطّ الرّسالة. و عليه فإنّ الشّخص الذي يؤدّي العبادة على أتمّ وجه، سينتفع من فوائدها في دائرة المعطيات العامة، وكذلك تمنحه العبادات آثارها الإيجابيّة الخاصّة، بما يحقّق له بلورة فضائله الأخلاقيّة، و ملكاته النفسانيّة في واقع وجوده، فالعِبادة تشكّل الخطوة والحجر الأساس، لبناء النّفس، في خطّ التّقوى و الإيمان، و الإنفتاح على الله، شَريطة الاُنس بمثل هذه المعاني الروحيّة، و التّعرف على فلسفة العبادة، فلا ينبغي أن نقنع بالمحافظة على قوى الجسم وحده، و لأهميّة مَبحث الذّكر خصّصنا له بَحثاً مُستقلاًّ عن باقي البحوث. -- ذِكر الله و تربية الرّوح: أعطى علماء الأخلاق، الأهميّة القُصوى لِلذكر، و ذلك تبعاً لما ورد، في الرّوايات الإسلاميّة و القرآن الكريم، و اعتبروه من العناصر المهمّة في خطّ العبادة، و تطهير النّفس و تهذيبها، و ذكروا لكلّ مرحلة من مراحل السّير و السّلوك، الذّكر الخاص بها. فمثلاً في مرحلة التّوبة، ينبغي للسالك في طريق الحقّ، الإهتمام بِذِكر: "ياغَفّار"، و في مرحلة محاسبة النّفس: "ياحَسيب"، و في مرحلة إستنزال الرّحمة: "يا رحمان" و "يا رَحيم" ... وَ هَلُمَّ جرّا. و هذه الأذكار تتناسب و حالات الإنسان، و السّلوك الذي يسلكه الإنسان في خطّ الإستقامة، و الإلتزام بها على كلّ حال حسن، و لا تختص بعنوان: قصد الوُرود إلى ساحة الرّحمة الإلهيّة. نعم فإنّ ذكر الله تعالى، من أكبر العبادات وأفضل الحسنات، في عمليّة التّصدي للتحديات النّفسية الصّعبة، و تحقيق الصّيانة من الوساوس الشّيطانية. ذكرُ الله، يخرق حُجب الأنانيّة والغرور و النّوازع النّفسانية، التي تُعدّ من أَقوى العوامل، لِهَدم سعادة الإنسان، ويمنح الإنسان وعياً في أجواء السّلوك إلى الله تعالى، من الأخطار التي [ 297 ] تهدّد سعادته، ويرسم له معالم مسيرته في حركة الحياة والواقع. ذكر الله تعالى: هو المطر الذي ينزل على أرض القَلب، لِيسقي بذور التّقوى و الفضيلة، و يعمل على تقويتها و تنميتها. و الحقيقة أنّ المحاولة للإحاطة بعظمة هذه العبادة، و إحصاء معطيّاتها على مستوى تهذيب النّفس، لا تفي بالغرض، و لا تحيط بأهميتها في خطّ السّلوك المعنوي للإنسان. بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم، لنستوحي من آياته، أهميّة ذكر الله تعالى: 1 ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )(1). 2 ـ (وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ )(2). 3 ـ (إِنَّني أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَآعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي )(3) 4 ـ (إذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتي وَلاَ تَنِيَا في ذِكْرِي )(4). 5 ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً )(5). 6 ـ (وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً )(6). 7 ـ (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )(7). 8 ـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى آلنُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً )(8). 1. سورة الرّعد، الآية 28. 2. سورة العنكبوت، الآية 45. 3. سورة طه الآية 14. 4. سورة طه، الآية 42. 5. سورة طه، الآية 124. 6. سورة الكهف، الآية 28. 7. سورة النّجم، الآية 29. 8. سورة الأحزاب، الآية 41 إلى 43. [ 298 ] 9 ـ (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ )(1). 10 ـ (رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ )(2). تفسير و إستنتاج: "الآية الاُولى": تطرّقت للحديث عن دور ذكر الله تعالى، في خلق حالة الطّمأنينة في القلوب; لِتتولّى إنقاذ الإنسان من حالات الزلّل و التّوتر، وتوجهه فيها إلى تحقيق الفضائل الأخلاقية في واقع النّفس، فيقول تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ). ثمّ يبيّن قاعدةً كليّةً، تقول: (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ). فما يجول في خاطر الإنسان و خُلدِه، من الحُزن من المستقبل و التّفكير بالرّزق، و الموت و الحياة و المرض و ما شابهها من اُمور الدنيا، كلّها تدفع الإنسان للتّفكير الجاد في مصيره، وتسلب منه الرّاحة النّفسية، و تَورثه القلق الحقيقي نحو المستقبل المجهول. و كذلك عناصر: البخل و الطّمع، و الحرص، هي أيضاً من الاُمور التي تزرع القلق و التّوتر في نفس الإنسان، ولكن عندما يتجسّد ذِكر الله الكريم، الغني القوي، الرّحمن الرّحيم، الرزّاق في وعي الإنسان، ويعيش الإيمان بأنّ الله تعالى، هو الواهب والمانع الحقيقي، فعندما تَتَجسّد هذه المعاني و المفاهيم، و تتفاعل مع بعضها في واقع الإنسان في حركة الحياة، فسوف يعيش الإطمئنان، و السّكينة أمام تحدّيات الواقع، فكلّ شيء يراه مسيّراً لقدرة الله تعالى وإرادته المطلقة، و ما شاء كانَ و ما لَمْ يَشأ لم يكن. و بهذا سيطمئن الإنسان، و يسلّم أمره إلى بارئِه، و ستزرع في نفسه حالة التّقوى و حبّ الفضائل، و هو ما نَقرأه في الآية الشّريفة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَ ادْخُلِي جَنَّتِي )(3). 1. سورة المائدة، الآية 91. 2. سورة النّور، الآية 37. 3. سورة الفجر، الآية 27 إلى 30. [ 299 ] و تحركت "الآية الثّانية"، بعد ذكرها لمعطيات الصّلاة، على مستوى النّهي عن الفحشاء والمُنكر: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ )، إلى تقرير هذه الحقيقة و هي: (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ). نعم، فإنّ ذكر الله هو روح الصّلاة، والرّوح أشرف شيء في عالم الوجود، فإذا ما منَعت الصّلاة عن الفحشاء و المُنكر، فإنّما ذلك بسبب تضمّنها لذكر الله، لأنّ ذكر الله هو الذي يذكّر الإنسان بالنّعم، التي غرق بها الإنسان في واقع الحياة، و تذكّر نِعم الله، بِدوره يمنع الإنسان من العصيان و الطّغيان، و سيخجل من إرتكاب الذّنوب، هذا من جهة. و من جهة اُخرى، سيدعو الإنسان للتّفكير بيوم القيامة، الذي لا ينفع فيه مالٌ و لا بنون، و يوم تنشر الصّحف و تَتطاير الكُتب، و يعيش المُسيئون الفضيحة و العار، في إنتظار ملائكة العذاب التي تأخذهم إلى الجحيم، و يكتب الفوز و النّصر للمحسنين، و سيكون في إستقبالهم ملائكة الرّحمة الذين يقولون لهم، اُدخلوها بسلام آمِنين، فذِكر هذه الاُمور، و تجَسيدها في وعي الإنسان، سيدفع إلى التّوجه نحو الفضائل، و يمنعه من مُمارسة الرّذيلة و الإثم. و قال بعض المفسّرين، إنّ جُملة: (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ )، إشارةً إلى أنّ ذِكر الله تعالى، هو أسمى و أرقى العبادات، في مسيرة الإنسان المعنويّة. و يوجد إحتمالٌ آخرٌ، و هو أنّ المقصود من: (وَلَذِكْرُ اللهِ )، هو ذِكر الله لِعبده، (و ذلك في مقابل ذكر العبد لله تعالى)(1). حيث يصعد ذكر الله تعالى به، إلى أسمى و أعلى درجات العبوديّة، في آفاقها الواسعة، ولا شيء أفضل من هذه الحالة المعنويّة للإنسان، ولكنّ الإحتمال الأوّل، يتناسب مع معنى الآية أكثر. -- "الآية الثّالثة": ذكرت أوّل كلام لله تعالى، مع نبيّه موسى(عليه السلام)، في وادي الطّور الأيمَنِ، في البُقعة المباركة عند الشّجرة، فسمع موسى(عليه السلام) النداء قائلاً: (إِنَّني أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاٌعْبُدْني 1. المحجّة البيضاء، ج2، ص266. [ 300 ] وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي ). و الحقيقة أنّ الآية ذكرت، أنّ الهدف والفلسفة الأصليّة للصّلاة، هي ذكر الله تعالى، و ما ذلك إلاّ لأهميّة الذّكر، في حركة الإنسان المنفتحة على الله تعالى، و خُصوصاً أنّها ذكرت مسألة الصّلاة، و ذكر الله بعد بحث التّوحيد مباشرةً. -- "الآية الرابعة" خاطبت الأخوين موسى و هارون(عليهما السلام)، من موقع نَصبهما لِمقُام النّبوة و السّفارة الإلهيّة، وأمرتهما بمحاربة قوى الإنحراف و الزّيغ، و التّصدي لفرعون و أعوانه: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ). فالأمر بذكر الله تعالى و عدم التّواني فيه، لِلوقوف بوجه طاغية: مثلَ فِرعون، هو أمرٌ يحكي عن دور الذّكر و أبعاده الوسيعة، و أهميّته الكبيرة في عمليّة السّلوك إلى الله تعالى، فذِكر الله يمنح الإنسان عناصر القّوة و الشّجاعة، في عمليّة مواجهة التّحديات الصّعبة، لِلواقع المُنحرف. وَ وَرد في تفسير: "في ظِلال القرآن"، في مَعرض تفسيره لهذه الآية، قوله: (إنّ الله تعالى أمر موسى و هارون(عليهما السلام)، أن اُذكروني، فإنّ ذِكري، هو سِلاحكم و وسيلتكم لِلنجاة"(1). و بعض المفسّرين فسّروا كلمة "الذّكر"، الواردة في الآية، بإبلاغ الرّسالة، و قال البعض الآخر، أنّها مطلق الأمر بالذّكر، و قال آخرون: إنّها ذِكر الله تعالى خاصّةً، و الحقيقة أنّه لا فرق بين التّفسيرات الثّلاثة، و يمكن أن تجتمع كلّها في مفهوم الآية. و من المعلوم أنّ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و لاِجل أن يستمر في إبلاغ الرّسالة، و التّحرك في خطّ الطّاعة و التّصدي لقوى الباطل و الإنحراف، عليه أن يستمد القوّة و القدرة من ذكر الله تعالى، و التّوجه إليه في واقع النّفس والقلب. -- 1. في ظِلال القرآن، ج5، ص474. [ 301 ] و تناولت "الآية الخامسة"، إفرازات و نتائج، الإعراض عن ذكر الله تعالى في حركة الإنسان، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ أَعمى ). فعذابهم بالدّنيا أنّهم يعيشون ضنك العيش، وفي الآخرة العمى، و فَقد البَصر!. فضنك العيش، ربّما يكون بتضييق الرّزق على من يعيش الغفلة عن ذكر الله تعالى، أو ربّما بإلقاء الحرص على قلب الغني، فيتحرك في تعامله مع الآخرين، من مَوقع الطّمع و البُخل، فلا يكاد يُنفق درهماً في سبيل الله، ولا يعين فقيراً ولو بشقّ تَمرة، فيكون مِصداق حديث أميرالمؤمنين(عليه السلام)، حيث يقول: "يَعِيشُ فِي الدُّنيـا عَيْشَ الفُقَراءَ وَيُحاسَبُ فِي الآخِرَةِ حِسابَ الأَغِنياء"(1). ففي الحقيقة أنّ أغلب الأغنياء وبسبب حرصهم الشّديد على النّفع المادي، يعيشون في حالة قلق دائمة، و لا ينتفعون من أموالهم بالقدر الكافي، وتكون عليهم حسرات في الدّنيا و الآخرة. ولكن لماذا يُحشر أعمى؟ وَ لَربّما لِتشابُه الأحداث هناك، مع الأحداث في الدنيا، فالغافل عن ذكر الله تعالى في الدنيا، و لإعراضه عن الحقيقة و آيات الله تعالى، و تَجاهله لدواعي الحقّ و الخير في باطنه، فإنّه لا يرى الحقّ بعين البصيرة، في حركة الحياة والواقع، و لذلك سوف يُحشر أعمى في عَرصات القِيامة. كيف يكون ذِكر الله؟ فسّرت الكثير من الرّوايات الإسلاميّة، ذِكر الباري تعالى: "بالحج"، وَ وَرد في البعض الآخر، أنّ الذّكر هنا: بمعنى الولاية لأمير المؤمنين(عليه السلام). و الحق أنّ الإثنين هما مِصداقان من مَصاديق ذكر الله تعالى، فالحجّ هو مجموعةٌ من 1. بحار الأنوار، ج69، ص119. [ 302 ] الأعمال و السّلوكيات، تذكّر بالله تعالى، و كذلك علي(عليه السلام)، فذِكره و النّظر إليه عبادةٌ، تُعمّق في الإنسان روح الإيمان، و تُذكّره بالله تعالى. -- "الآية السّادسة": خاطبت الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، من موقع النّهي عن طاعة الأشخاص الذين يعيشون في غفلة، وحثّته على معاشرة الّذين يذكرون ربّهم، صباحاً و بِالغَداة و العَشِي، ولا يريدون إلاّ الله تعالى، فقال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ). و من المعلوم أنّ الله سبحانه و تعالى، ما كان ليعذّب أحداً بالغفلة عن ذكره، بل لأنّ مثل هؤلاء الأشخاص، ينطلقون في تعاملهم مع الحقّ، من موقع العناد و الّتمرد و التّكَبّر و التعصّب لِلباطل. و بناءاً عليه، فإنّ القصد من الإغفال هو سلب نعمة الذّكر منه، لِيلاقي جزاءه في الدّنيا قبل الآخرة، و لهذا، فإنّ ذلك لا يستلزم الجَبر. و لا نرى أحداً من هذه الجماعة، إلاّ مُتّبعاً لِهواه، مُتّخذاً سبيل الإفراط و التَّفريط في كلّ فعاله، لذلك تعقّب الآية قائلةً: (وَآتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ). و يُستفاد من هذه الآية، أنّ الغفلة عن ذِكر الله تعالى، تؤثّر سلباً في أخلاق وروح الإنسان، و تُؤدّي به إلى وادي الأهواء، و تجرّه إلى منحدرِ الأنانية. نعم، فإنّ روح و قلبَ الإنسان، لا يسع إثنان، فإمّا "الله تعالى"، و إمّا "هوى النّفس"، و لا يمكن الجمع بينهما. فالهَوى هو مصدر الغَفلة عن الله تعالى، و خلقه، و سَحق جميع القِيم و الاُصول الأخلاقية، و بالتّالي فإنّ هَوى النّفس، يغرق الإنسان في عُتمة ذاته الضّيقة، و يُعمي بصره عن كلِّ شيء يدور حوله في واقع الحياة، والإنسان الذي يتحرّك من موقع الهَوى، لا يرى إلاّ إشباع شَهواته، [ 303 ] ولا مفهوم عنده لمفاهيم أخلاقيّة، مِثلَ: صلة الرحم وَ المُروّة والإيثار. -- "الآية السابعة": خاطبت الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) أيضاً، من موقع التّحذير، عن مُخالطة المُعْرِض عن ذِكر الله تعالى، فقالت: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ). في تفسير "ذِكر الله"، قال البعض: أنّ المراد منها في هذه الآية، هو القرآن الكريم، و إعتبرها البعض الآخر، إشارةً لِلأدلّة العقليّة و المنطقيّة، و قال آخرون، أنّها الإيمان، و الظّاهر أنّ ذكر الله تعالى، له مفهومٌ واسعٌ يشمل كلّ ما ذُكر آنفاً. و ذَكر آخرون، أنّ هذه الآية تدعو لترك جهاد هؤلاء، و لهذا السّبب، نُسخت بآيات الجهاد التي نزلت بعدها، و الحقّ أنّه لا نَسخ في البَيّن، و كلّ ما في الأمرِ، أنّها تمنع من مُجالسة الغافلين عن ذِكر الله تعالى، ولا مُنافاة بينها وبين مسألة الجهاد بشرائطها الخاصة. و أخيراً تبيّن هذه الآية، العلاقة و الرّابطة الوثيقة بين: "حبّ الدنيا" و"الغفلة عن ذِكر الله"، فكَما أنّ ذِكر الله تعالى له خصائصه، و معطياته الإيجابية على الإنسان، على مستوى تَقوية عناصر الفضيلة و ترشيد القيم الأخلاقيّة، فكذلك الغفلة لها آثارها، و نتائجها السلبيّة على روح الإنسان، على مستوى تقوية عناصر الشّر و الرذيلة فيها. "الآية الثّامنة": خاطبت جميع المؤمنين، ودعتهم إلى ذِكر الله تعالى، و الخروج من دائرة الظّلمات إلى دائرة النّور، فتقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا * هُوَ الَّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ). و الجدير بالذّكر في هذا الأمر، أنّ الآية الكريمة، بعد الأمر بالذّكر الكثير، و التّسبيح له بكرةً و أصيلاً، تخبرنا عن أنّ الله تعالى، سيصلّي هو و ملائكته علينا، و يخرجنا من الظّلمات إلى النّور، ألَيسَ ذلك هو هدفنا في حركة الحياة، أَلَيس ذلك هو مُبتغانا من الإلتزام في خطّ الرّسالة، و كلّ ما نريده هو، أنّ الذّكر و صلاة الربّ و الملائكة علينا، سيزرع فينا روح التّوفيق [ 304 ] لِلطاعة و السّير في طريق الخَير، و يقلع من واقعنا بذور الشرّ، و جذور الفساد، ولتحل محلّها عناصر الفَضيلة و النّسك والأخلاق الحميدة؟!. و قد وَرد في تفسير الميزان، أنّ ذيل الآية الكريمة، هو بِمنزلة التبيّن لعلّة الأمر، بـ: "الذّكر الكثير"، و هو يؤيّد ما أشرنا إليه آنفاً(1). و قد وَردت تفاسيرٌ مختلفةٌ، و آراءٌ مُتغايرةٌ لعبارة: "الذّكر الكثير"، فقال بعضهم، أن لا يُنسى الله تعالى في كلّ وقت و مكان. و قال بعضٌ آخرٌ أنّه الذّكر و التّسبيح، بأسماء وصفات الله الحُسنى. و ذكرت روايات اُخرى، أن المقصود به، هو التّسبيحات الأربعة، أو تسبيح الزّهراء(عليها السلام). و قال إبن عباس: كلّ أوامر الله تعالى تنتهي إلى غاية ما، إلاّ الذّكر فلا حدّ له أبداً، و لا عُذر لتاركه أبداً. و على كلّ حال، فإنّ "الذّكر الكثير"، له مفهومٌ واسعٌ، و يمكن أن يجمع بين طيّاته كلّ ما ذكر آنفاً. ا ص319 - ص332 و الجدير بالذّكر، أنّ هذه الآية، علاوةً على ذكرها لِمسألة الإيمان بالله و اليوم الآخر: (لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ... )، أكّدت على ذِكر الله تعالى بجملة: (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ). فهم يقتدون بقائدهم الربّاني و يستلهمون منه الإيمان، و ذِكر الله كثيراً حيث يحرك فيهم الذّكرُ [ 319 ] الكثيرِ، عنصر الإهتمام للمسؤوليات التي اُلقيت على عاتقهم، وَ مَنْ أَفضل من الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، لِيكون لهم اُسوةً و قدوةً، في خطّ الإلتزام الدّيني و الأخلاقي و الإنفتاح على الله؟ -- "الآية الرابعة": نوهت إلى النّقطة المقابلة، ألا وَ هَي: البُغض في الله تعالى في خطّ الحقّ، فتقول: (لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمْ الاِْيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ). فهذه الآية الشريفة، صرّحت و أرشدت، إلى الطريق التي يجب على المؤمن سلوكها، عند تقاطع الطّرق، و تضارب "العلاقة الإلهيّة" مع "العلاقات الاُسريّة"، فلو أنّ الآباء و الإخوة و الأقرباء، تحرّكوا في خطّ الباطل و الإنحراف و الكُفر، فإنّ طريق الله هي الجادّة الحقيقيّة، لِلإلتحاق بالرّكب الإلهي المقدس. و ما ورد في هذه الآية، من قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمْ الاِْيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ ). ليس إلاّ تأكيداً على المعنى المتقدم، و تشجيعاً لذلك الأمرالمهم الحياتي، أي أنّ "الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ"، نابعٌ من الإيمان، و طريق التّكامل الحقيقي في خطّ الإيمان، السّلوك المعنوي، و بعبارة اُخرى: إنّ هذين الأمرين، يؤثّر أحدهما في الآخر بصورة مُتقابلة، مع فارق واحد، و هو أنّه يجب الإبتداء في عمليّة السّلوك المعنوي، بالإيمان بالمبدأ و المعاد، و التّكامل المعنوي يكون، من حصّة: "الحُبُّ في اللهِ وَالبُغْضُ في اللهِ". -- "الآية السّادسة": تطرّقت لأواصر المحبّة المعنويّة بين المؤمنين، و قالت: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ [ 320 ] وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). فهذا الرّباط المعنوي، يتّخذ من الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، و إقام الصّلاة و إِيتاء الزّكاة، و طاعة الله و رسوله، أساساً و دَعامةً في صياغة السّلوك، حيث يعين الفرد، على إستلهام الأخلاق الحَسنة و الأعمال النّافعة، من الآخرين، فيكون كلّ واحد منهم اُسوةً للآخر، و من أراد الإلتحاق بهذه الجماعة، عليه أن يكون مُشابهاً لها في دائرة الفكر و السّلوك، دون الجماعات المنحرفة الضّالة المضلّة، التي يجب عليه البَراءة منها و الإبتعاد عنها. و في الحقيقة، فإنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الذي يُعدّ عاملاً مُساعداً و فَعّالاً، في عمليّة تهذيب وتربية النّفوس، يدعوهم إلى الإلتزام بالإنضباط الدّيني و الأخلاقي، من موقع النّصيحة و التّواصي بالحقّ. -- "الآية السّابعة": فرّقت بين المؤمنين و الكافرين، على مستوى السّلوك في واقع الحياة، فالمؤمنون يتّخذون من صفات جَماله و جَلاله، اُسوةً لهم في مسيرتهم المعنويّة و الأخلاقيّة، و الكافرون اُسوتهم الطّاغوت، حيث تكون أعمالهم و صفاتهم إنعكاس لأِعمال وَ صفات الطّاغوت، فقالت: (اللهُ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ). فالخروج من الظّلمات إلى النّور، يعتبر نتيجةً و ثمرةً لِلإيمان بالله تعالى و ولايته، و الخروج من النّور إلى الظّلمات، هو من معطيات الطّاغوت و ولايته. و النّور و الظّلمة هنا، لهما مفهومٌ واسعٌ جِدّاً، بحيث يستوعبان، جميع الفضائل و القبائح و الحسنات و السّيئات. نَعم، فإنّ الشّخص الذي يعيش في أجواء المَلكوت، و في ظلّ ولاية "الله"، فإنّه سيبدأ رِحلته و هِجرته، من الرّذائل إلى الفضائل و من القبائح إلى الجَمال الرّوحي، و من السّيئات إلى الحسنات، لأنّ صِفات جَماله و جَلاله، هي اُسوته الحقّة في رحلته المعنويّة. [ 321 ] فذاته المُقدّسة، منزّهةٌ عن كلِّ عيب و نقص، و هو الرّؤوف الرّحيم، الجَواد الكَريم، و هكذا يتحرّك نحو التّحلي بالفضائل الأخلاقية الاُخرى، لأنّ هدفه هو وِصال الَمحبوب و المَعبود. و العَكس صحيحٌ، فإنّ الحركة من الفَضائل إلى الرّذائل هي من شأن عَبدَةِ الطّاغوت و الأَوثان، التي لا تنفع في شيء أبداً. -- "الآية الثّامنة": خاطبت المؤمنين من موقع النّصيحة، بإلتزام طريق التّقوى و صحبة المؤمنين، و قالت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ). في الحقيقة أنّ الجملة الثّانية، في الآية الشّريفة: (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )، هي إكمال لِلجملة الاُولى: (اتَّقُوا اللهَ... ). نعم، فإنّه يتوجب على السّالك لِطريق التّقوى و الزّهد و الطهّارة، أن يكون مع الصّادقين و تحت ظلّهم، و قد وَرد في الرّوايات من الطّرفين: السنّة و الشّيعة، و في الكُتب المُعتبرة، أنّ المِصداق الأكمل لهذه الآية، هو الإمام علي(عليه السلام)، أو أهلَ بيته(عليهم السلام). و هذه الرّوايات، موجودةٌ في كتب، مثل: "الدّر المَنثور لِلسَيوطي" و "المَناقب لِلخَوارِزمي" و "دُرَر السّمطين لِلزرندي" و "شَواهد التّنزيل للحَسَكاني"، و غيرها من الكُتب الاُخرى(1). و كِذلك أوردها: "الحافظ سُليمان القُندوزي" في "يَنابيع المَودّة"، و "العلاّمة الحمويني" في "فَرائد السّمطين"، و "الشّيخ ابو الحَسن الكازروني" في "شَرف النّبي"(2). و قد وَرد في بعض الأحاديث، و بعد نزول الآية الآنفة الذّكر، أنّ سلمان الفارسي(رحمه الله)، سأل الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و قال له: هل أنّ هذه الآية عامّةٌ أو خاصّةٌ؟، فأجاب النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله): "أَمّا المَأمُورُونَ فَعامَّةُ المُؤمِنِينَ وَأَمَّا الصَّادِقُونَ فَخَاصَّةُ أَخِي عَلِيٌّ وَ أَوصِيائُهُ مِنْ بَعْدِهِ إِلى يَومِ القِيامَةِ"(3). 1. لِلتفصيل يرجى الرجوع إلى كتب: "نفحات القرآن"، ج 9. 2. المصدر السابق. 3. ينابيع المودة، ص115. [ 322 ] و من الطّبيعي فإنّ إتّباع الإمام علي(عليه السلام) و أوصياءه، جاريةٌ و مستمرةٌ إلى يومِ القيامة، للإهتداء بِهَديِهِم، و الإقتداء بفعالهم و أخلاقهم في حركة الحياة. -- النّتيجة: يُستفاد ممّا ذكر آنفاً، من الآيات التي إستعرضت مسألة "التّولّي و التّبرّي"، أنّ مسألة الوُصول إلى مرتبة القُرب من الذّات المقدّسة، و تولّي أولياءه من عباده الصّالحين، و التّبرّي من الظّالمين و الغاوين، و في كلمة واحدة: "الحُبُّ في اللهِ وَالبُغْضُ في اللهِ"، تعدّ من أهمِّ المسائل و المفاهيم، في دائرة التّعليمات القُرآنية، ولها دورها الكبير و أثرها العميق، في مُجمل المسائل الأخلاقيّة، في حركة الإنسان المعنويّة. و هذا الأساس القرآني و المفهوم الإسلامي، له دورُه المُباشر في جميع المَسائل الحياتيّة، إن على المستوى الفَردي أو الاجتماعي، الدنيوي أو الاُخروي، لا سِيّما في المسائل الأخلاقيّة و السّلوك الأخلاقي لِلأفراد، في تعاملهم و تَفاعلهم مع الآخرين، في حركة الحَياة و الُمجتمع. فهذه المفردة العقائديّة، في دائرة المفاهيم الإسلاميّة، بإمكانها أن تبني نفوس المؤمنين على إتّباع الصّالحين و الطّاهرين، و إتخاذهم اُسوة حسنة، خُصوصاً الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) و أهل بيته(عليهم السلام)، في كلّ خطوة يخطوها الإنسان المُؤمن في خطّ الإيمان، و بذلك تكون من العوامل المهمّة، للوصول إلى الهدف الحقيقي من وراء خلقة الإنسان، ألا وَ هِيَ تهذيب النّفوس و تربية الفَضائل الأخلاقية في واقع النّفس البشريّة. -- التولّي و التبرّي في الرّوايات الإسلاميّة: وَردت أحاديثٌ مستفيضةٌ في هذا الصّدد، سواء عن طريق أهلِ السُّنة أو الشّيعة، و طَرحت موضوع التبرّي والتولّي بقوّة، و أكّدت عليه بصورة شديدة، قلّما نَجِدُ لها نظيراً، بالنّسبة إلى المواضيع الاُخرى. [ 323 ] ولا شَكَّ أنّ هذه الأهميّة، نابعةٌ من المعطيات الإيجابيّة الكِثيرة، لِمسألة التّولي لأِولياء الله، والبراءة من أَعداءِه تعالى، حيث توثّق عُرى الإيمان و أواصِر المحبّة و الصّداقة، مع أولياء الله تعالى، و تُعمّق حالةَ الإبتعاد و النّفور من الظّالمين الفاسقين، و تنعكس هذه النّتائج على إيمان الشّخص و أَخلاقه و تَقواه، من موقع القوّة و الصّفاء و الإمتداد في واقع الإنسان و محتواه الداخلي، و تحثّ هذه الأحاديث النّاس، على إختيار القُدوة الصّالحة في عمليّة السّير و السّلوك، في طريق الله سبحانه وتعالى. و نُشير هنا إلى مجموعة من الأحاديث الشّريفة، في هذا المجال، جمعت من كُتب مُختلفة: 1 ـ قال عليٌّ(عليه السلام) في خطبته القاصعة، و في وصفه للرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله): "وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ مِنْ لَدُنْ أَنْ كانَ فَطِيماً أَعَظَمَ مَلَك مِنْ مَلائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طِرِيقَ الَمكارِمِ وَمَحـاسِنَ أَخلاقِ العالَمِ، لَيلَهُ وَ نَهارَهُ وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ إِتِّباعَ الفَصِيلِ أَثَرَ اُمِّهِ يَرْفَعُ لي في كُلِّ يِوم مِنْ أَخلاقِهِ عَلَماً وَ يَأَمُرُني بِالإِقتِداءِ بِهِ"(1). و يبيّن هذا الحديث، أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) نفسهُ كان له من يرشده و يهديه، ولديه القدوة الحسنة على شكل ملك من ملائكة الله العِظام. و كذلك الإمام علي(عليه السلام)، جعل من الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) قدوةً له، فكان يتبعه في كلّ اُموره وحركاته وسكناته، فيتعلم منه كلّ يوم أمراً جديداً، عِلماً مفيداً، و أخلاقاً نبيلةً. فلّما كان كُلٌّ من الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) و علي(عليه السلام)، يحتاجان إلى القُدوة الحسنة، في بداية المسير إلى الله، فكيف بحال الباقين؟ 2 ـ الحديث المعروف: "بْنِىَ الإسلام..."، الذي وَرد من طُرق متعدّدة عن المَعصومين، و منها ما ورد عن زُرارة عن الباقر(عليه السلام)، أنّه قال: "بُني الإِسلامُ عِلى خَمْسَةِ: عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكاةِ والحَجِّ وَالصِّومِ وَالولايَةِ"، قَالَ زُرارَةُ، فَقُلتُ: وَأَيُّ شَيء مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟، فَقالَ: الوَلايَةُ أَفْضَلُ لاَنّهـا مِفتاحُهُنَّ وَالوالي هُوَ الدَّلِيلُ عَليهِنَّ"(2). 1. نهج البلاغة، الخطبة 192. 2. أصول الكافي، ج2، ص18. [ 324 ] و من هذا الحديث يُستفاد، أنّ الإقتِداء بالقُدوة الصّالحة، يعين الإنسان على إحياء سائر البرامج، الدينية و المسائل العباديّة الفردية و الإجتماعيّة، و هي إشادةٌ واضحةٌ بدور الولاية، في مسألة تهذيب النّفوس و تحصيل مكارم الأخلاق. 3 ـ عن الإمام الصّادق(عليه السلام): قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأصحابه: "أيُّ عُرَى الإِيمانِ أَوثَقُ؟، فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، وَ قَالَ بَعْضُهُم الصَّلاةِ، وَ قَالَ بَعْضُهُم الزَّكاةُ، وَقَالَ بَعْضُهُم الصِّيامُ، وَقَالَ بَعْضُهُم الحجُّ والعُمْرَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُم الجِهادُ. فَقالَ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله): لَكُلِّ ما قُلْتُم فَضْلٌ وَلَيسَ بِهِ، وَلَكِنْ أَوثَقُ عُرَى الإِيمانِ الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ وَتَوَلِّي أَولِياءِ اللهِ وَالتَّبَرِّي مِنْ أَعداءِ اللهِ"(1). و قد حرّك الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أذهان أصحابه بهذا السّؤال. و هكذا كانت سيرة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، عندما كان يريد أن يطرح موضوعاً مهمّاً، فبعض منهم أبدى جهله، وبعض منهم قال الصّيام و... ولكن في نفس الوقت، الذي أكّد رسول الله على أهميّة تلك الاُمور في الإسلام، قال: "الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ". و التّعبير بكلمة: "عُرى" جَمع "عُروة"، هي بمثابة حلقة الوصل لِلقرب من الله تعالى، و إشارةٌ إلى أنّ السّلوك إلى الله، لا يتمّ إلاّ من خلال التمسّك بهذه العروة، و الصّعود بواسطتها إلى مراتب سامية من الكمال المعنوي، وليس ذلك إلاّ لأنّ الحبّ في الله و الإقتداء بأولياء الله، عاملٌ مهمٌّ في تسهيل الحركة في جميع إتّجاهات الخير و الصّلاح. و بإحياء هذا الأصل، سوف تنتعش بقيّة الاُصول الدّينيّة، ولكن مع إهماله وترك العمل به، فإنّ سائر الاُصول ستَضعف و تَموت. 4 ـ و في حديث آخر عن الإمام الصّادق(عليه السلام)، أنّه قال لجابر الجُعفي(رحمه الله): "إِذا أَرَدتَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ فِيكَ خَيراً فَانظُرْ إِلى قَلْبِكَ فَإنْ كانَ يُحِبُّ أَهْلَ طاعَةِ اللهِ وَ يُبْغِضُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، فَفِيكَ خَيرٌ وَاللهُ يُحِبُّكَ، وَإِنْ كانَ يُبْغِضُ أَهْلَ طاعَةِ اللهِ وَ يُحِبُّ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ، 1. أصول الكافي، ج2، ص125، ح6. [ 325 ] فَليسَ فَيكَ خَيرٌ، وَاللهُ يُبْغِضُكَ وَالمَرءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"(1). وَ جُملة: "والمَرء معَ من أحبّ"، هي إشارةٌ جميلةً و لطيفةً إلى هذه الحقيقة، و هي أنّ هذه العِلاقة ستمتد وتستمر إلى يوم القيامة، وهي دليلٌ واضحٌ على أهميّة مسألة "الوِلاية"، في المباحث الأخلاقيّة. 5 ـ في حديث آخر عن الإمام الباقر(عليه السلام)، قال: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: "وُدُّ المُؤمِنِ لِلمُومِنِ فِي اللهِ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِ الإِيمانِ، أَلا وَمَنْ أَحَبَّ فِي اللهِ وَأَبْغَضَ فِي اللهِ وَأَعطى فِي اللهِ وَمنَعَ فِي اللهِ فَهُوَ مِنْ أَصفِياءِ اللهِ"(2). 6 ـ في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين(عليه السلام)، أنّه قال: "إِذا جَمَعَ اللهِ عَزَّوَجَلَّ الأَوَّلِينَ وَ الآخَرِينَ، قامَ مُناد فَنادى يُسْمِعُ النّاسَ، فَيَقُولُ: أَينَ المُتَحابُّونَ في اللهِ، قالَ: فَيَقُومُ عُنُقٌ مِنْ النّاسِ، فَيُقالُ لَهُم إِذْهَبُوا إِلَى الجَنَّةِ بِغَيرِ حِساب، قَالَ: فَتَلَقَّاهُم المَلائِكَةُ فَيَقُولُونَ إِلى أَينَ؟ فَيَقُولُونَ إِلى الجَنَّةِ بِغَيرِ حِساب!، قَالَ: فَيَقُولُونَ فَأَيُّ ضَرْب أَنْتُم مِنْ النّاسِ؟، فَيَقُولُونَ نَحْنُ المُتَحابُونَ فِي اللهِ، قَالَ: فَيَقُولُونَ وَ أَيُّ شَيء كـانَتْ أَعمالُكُم؟، قَالُوا كُنّا نُحِبُّ في اللهِ وَ نُبْغِضُ فِي اللهِ، قَالَ فَيَقُولُونَ، نِعْمَ أَجرُ العامِلِينَ"(3). و تعبير "نِعْمَ أَجرُ العـامِلِينَ" يبيّن أنّ المحبّة لأولياء الله والبغض لأعداء الله هو أكبر مصدر للخير في واقع الإنسان والحياة والمانع عن الشر والانحراف في مسيرة التكامل الأخلاقي. 7 ـ وَرد في حديث عن الرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله): "إنَّ حَولَ العَرشِ مَنابِرٌ مِنْ نُور، عَلَيها قَومٌ لِباسُهُم وَ وُجُوهُهُم نُورٌ، ليسُوا بِأَنْبِياء يَغْبِطَهُمُ الأَنْبِياءُ وَ الشُّهَداءُ، قالُوا يا رَسُولَ اللهِ حَلِّ لَنا، قَالَ: هُم المُتَحابُّونَ في اللهِ وَالمُتَجالِسُونَ فِي اللهِ وَالمُتَزاوِرُونَ في اللهِ"(4). 1. اُصول الكافى، ج2، ص126. 2. بحار الأنوار، ج66، ص240، ح14. 3. بحارالأنوار، ج 66، ص 245، ح 19، اُصول الكافي، ج 2، ص 126. 4. بحار الأنوار، ج66، ص352، ح32. [ 326 ] 8 ـ و إكمالاً للحديث أعلاه، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "لَو أَنَّ عَبدَينِ تَحابا فِي اللهِ أَحَدُهُما بِالمِشْرِقِ وَالآخرُ بِالمَغْرِبِ لَجَمَعَ اللهُ بَينَهُما يَومَ القِيامَةِ وَ قَالَ النَّبِيُّ(صلى الله عليه وآله): أَفْضَلُ الأَعْمالِ الحِبُّ في اللهِ والبُغْضُ في اللهِ"(1). و يبيّن هذا الحديث، أنّ أوثق العُرى والأواصر في دائرة العلاقات الإجتماعيّة، هي آصرة الدّين التي تُحقّق التّوافق و الوئام بين الأفراد، وتدفعهم لِلمحبّة لله وفي الله، وهذه الحالة تؤثّر في النّفوس، من موقع التّزكية و التّهذيب. 9 ـ نقرأ في الحديث القُدسي، قال الله تعالى لموسى(عليه السلام): "هَلْ عَمِلْتَ لي عَمَالاً؟!، قالَ صَلَّيتُ لَكَ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ لَكَ، قَالَ اللهُ تَبارَكَ وَ تَعالى، وَ أَمّا الصّلاةَ فَلَكَ بُرهانٌ، والصَّومَ جُنَّةٌ والصَّدَقَةُ ظِلُّ، والذِّكْرُ نُورٌ، فَأَيُّ عَمَل عَمِلْتَ لِي؟!، قَالَ مُوسى: دُلَّني عَلى العَمَلِ الِّذى هُوَ لَكَ، قَالَ يا مُوسى هَلْ وَالَيتَ لي وَلِيّاً وَ هَلْ عادَيتَ لِي عَدُوّاً قطُّ، فَعَلِمَ مُوسى إِنَّ أَفْضَلَ الأَعمالِ، الحُبِّ في اللهِ والبُغْضُ في اللهِ"(2). 10 ـ ونختم هذا البحث، بحديث آخر عن الإمام الصّادق(عليه السلام)، (رغم وجود الكثير من الأحاديث الشّريفة في هذا الموضوع، أنّه قال: "مَنْ أَحَبَّ للهِ وَأَبْغَضَ للهِ وَأَعْطىْ للهِ وَمَنَعَ للهِ فَهُوَ مِمَّنْ كَمُلَ إِيمانُهُ"(3). -- و نَستوحي من الأحاديث العشرة الآنفة الذّكر، أنّ الإسلام قد أعطى الأهميّة القُصوى، لمسألة الحُبّ في الله والبغض في الله، و إعتبرها أفضل الأعمال، وعلامة كمال الدّين، و أسمى من: الصّلاة و الزّكاة و الصّيام والحج والإنفاق في سبيل الله تعالى، ومن يَتَحلّى بهذه الصّفة، يكون مع الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في الجنّة، بحيث يغبطه فيها الأنبياء و الشّهداء و الصّديقين. 1. بحارالأنوار، ج 66، ص 352، ح 32. 2. بحارالأنوار، ج 66، ص 352، ح 32. 3. المصدر السّابق، ص8، ح10.23 [ 327 ] فهذه التّعبيرات و غيرها، تبيّن لنا دور و فعّاليّة مسألة التبرّي و التّولّي، في جميع البرامج الدّينية و الإلهيّة، ودليل هذا الأمر واضحٌ جدّاً، لأنّ الإنسان المؤمن، عندما يُحِبّ القُدوة الإلهيّةُ و الإنسان الكامل، لتقواه وإيمانه وفضائله الأخلاقية، فإنّ ذلك من شأنه، أن ينعكس على روحه و سُلوكه صفاتِ و سلوك هذه القدوة، و يدفعه لِلتأسّي بها في أعماله و حركاته و سَكناته! و هذا هو بالفعل، ما يَصبو وَيدعو إليه علماء الأخلاق، بإعتباره أصلاً أساسياً في تهذيب و تربية النّفوس، و أنّ الإقتداء بالقُدوة الصّالحة، من شأنه أن يكون شرطاً أساسياً، لأن يسلك بالإنسان طريق الهداية و الصّلاح، في خطّ الإيمان و الإنفتاح على الله تعالى. و من الأدلّة المهمّة، التي أوردها القرآن الكريم، و أكّد عليها رسوله الكريم(صلى الله عليه وآله)، هو التّذكير بأَنبياء الله تعالى و أفعالهم و تأريخهم و حياتهم، و الغَرض من ذلك كُلّه، الإقتداء بهم و إتّباع سيرتهم. جديرٌ بالذّكر، أنّ كلّ إنسان يحبُّ البطولات و الأبطال، و يحبُّ أن يَقتدي بأحد الأبطال، ليجعله اُسوةً و قدوةً في حياته في جميع أبعاده المختلفة. عمليّة إنتخاب مثل هؤلاء الأبطال، يؤثر على حياة الإنسان، من موقع صياغة الشّخصية و كيفيّة السّلوك، و على فرض حدوثِ تغيّر في نظرة الإنسان نحو القُدوة، فَستتغير حياتُه بالكامل، تَبعاً لها. و الكثير من الأفراد أو الشعوب، لمّا لم يُسعفهم الحظّ في إتخاذ القُدوة الصّالحة، تَوسّلوا بأبطال مزيّفين، كَي يُعوّضوا النّقص الحاصل لديهم في هذا المجال، و أدخلوهم في ثقافتهم و تأريخهم، وألّفوا في سيرتهم الأساطير و الحكايات، و البطولات الخياليّة. و البيئة و الدّعاية السّليمة أو المغرضة، لَها دورها في إختيار اُولئك الأبطال، فيُمكن أن يكونوا من رجال الدّين، و السّياسة، أو وجوهٌ رياضيّةٌ أو تمثيليّةٌ. و هذا الميل البَشري لِلأبطال، و القُدوات الإنسانية، يمكن أن يوجّه بالصّورة الصّحيحة، و يفعّل دوره في تربية الفضائل الأخلاقيّة و السّلوكيات الحسنة، في الحياة الفرديّة و الإجتماعيّة. [ 328 ] و بناءً على ذلك، فإنّ الآيات و الرّوايات أكّدت على هذه الضّرورة، و هي مسألة التولّي و التّبرّي، و إتّخاذ أولياء الله قدوةً و اُسوةً حسنةً، و بدونها ستبقى برامج التّربية و التّهذيب، ناقصةُ الُمحتوى و المُضمون. قصّة موسى و الخَضر (عليهما السلام) : إتّخاذُ المعلّم و الدّليل، في طريق السّير و السّلوك إلى الله تعالى، من الأهميّة بمكان، بحيث أُمِرَ بَعض الأنبياء، في بُرهة من الزّمن، للحُضورَ عند الاُستاذ أو المُرشد. و من ذلك قصّة موسى(عليهما السلام) و الخضر، المليئة بالمفاهيم والمضامين العميقة، و التي وَردت في سَورة الكهف، من القرآن المجيد. فقد اُمِرَ موسى(عليه السلام)، لأجل إسترفاد بعض العلوم، التي تحمل الجانب العملي و الأخلاقي أكثر من الجانب النّظري، أُمِرَ بالذّهاب إلى عالم زمانه، لِيَستقي منه العِلم، و قد عرّفه القرآن الكريم، بأنّه: (عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ). فشدّ موسى(عليه السلام)، الرّحال فعلاً مع أحد أصحابه، متّجهاً نحو المكان الذي يتواجد فيه الخِضر(عليه السلام)، و مع غَضّ النّظر عَمّا صادفاه في الطّريق إليه، وَصل مُوسى(عليه السلام) إلى المكان الموعود، فقال له الخِضر(عليه السلام)،: (إِنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعي صَبراً )، ولكنّ موسى(عليه السلام)وعده بالصّبر. توالت الأحداث الثّلاثة، واحدة بعد الاُخرى، المعروفة و الواردة في القرآن الكريم: أولها خَرق السّفينة الّتي كانوا عليها، فإعترض موسى(عليه السلام)، و ذكّره بخَطر الغَرق لِلسفينة بِمن فيها، فقال له الخِضر: (ألم أَقُل لَكَ إِنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعي صَبراً ) فندم و إختار(عليه السلام)السّكوت، حتى يوضّح له ملابسات الأمر. ولَم يَمض قليلاً، حتى صادفوا صَبيّاً فقتله، الخِضر(عليه السلام) مباشرةً من دونِ توضيح و دليل، فهذا الأمرُ المُريع أثارَ موسى(عليه السلام) مرّةً اُخرى، و نسِيَ ما تَعهّد به، و إعترض على اُستاذه بأشدّ من الّتي قَبلها، فقال: (أَقَتَلْتَ نَفساً بِغَيرِ نَفْس لَقَد جِئتَ شَيئاً إمراً ). و لِلمرّة الثّانية، ذكّر الخِضر موسى(عليه السلام) بالعهد الذي قطعه على نفسه، و قال له: إذا تكرّر [ 329 ] منك هذا العمل لِلمرّة الثّالثة، فسوف تَنقطع العلاقة بيني و بينك، و ننفصل في هذا السّفر، فعلم موسى(عليه السلام)، أنّ في قَتل الغلام سِرّاً مُهمّاً، فآثر السّكوت، ليتّضح له السرّ فيما بعد. و تَلَتها الحادثة الثّالثة، و قد وردوا في قَرية، فلم يُضيفوهما ولم يعبؤوا بِهما، فَوجد الخِضر(عليه السلام) جداراً يُريد أن يَنقضّ، فَأقامَه(عليه السلام)، و طلب العَون من موسى(عليه السلام) في هذا الأمر، فَرمَّم الجِدار، فضاق موسى ذَرعاً بالأمر، فَصاح: (لَو شِئتَ لَتَّخَذْتَ عَلِيهِ أَجراً ). فأين يكون موضع التّعامل مع هؤلاء من موقع الرّحمة، مع كلّ تلك القساوة التي واجهوها من أهل تلك القرية؟. و هنا أعلن الخِضر(عليه السلام) إنفصاله عن موسى(عليه السلام)، لأنّه نقض العَهد ثلاثَ مرّات، ولكنّه و قبل الفِراق، أعلمه بالأسرار لتلك الحوادث الثّلاثة، فقال له: إنّ السّفينة كانت لِمساكين، و كان عندهم ملكٌ يأخذ كلّ سفينة سَليمة غَصباً، فَأعَبْتُها كَيْ لا يأخذها منهم، و الشّاب المقتول، كان يستحق الإعدام، لأنّه كافرٌ و مرّتدٌ، و كان الخوف على أبويه من موقع التّأثير عليهما، ولئّلا يحملهما على الكفر. و الجِدار كان ليتيمين في المدينة، و كان تَحته كنزٌ لَهُما، وكان أبوهما صالحاً، فأراد ربّك أن يستخرجا كنزهماِ فيما بَعد، ليعيشا بذلك المال، ثم أكدّ عليه أن كلّ ذلك كان بأمر الله تعالى، وليس تصرّفاً من وَحي أفكاري(1). رجع بعدها موسى(عليه السلام)، محّملاً بمعارف و علوم في غاية الأهميّة. و نحن بدورنا نستلهم من تلك القصّة، عدّة دروس، منها: 1 ـ العثور على معلّم مطّلع حكيم للتعلّم عنده، و الإستنارة من نور علمه، أمرٌ من الأهميّة بمكان، بحيث اُمِرَ رسول من رُسل اُولى العزم بذلك، وقد قطع المسافات الطويلة كي يَدرس عنده، و يقتبس من فَيض علمه. 2 ـ عَدم تعجّل الاُمور، و إنتظار الفرصة المُناسبة، أو كما يُقال: "إنّ الاُمور مرَهونةٌ بِأَوقاتها". 1. مضمون الآيات: (6 ـ 80)، من سورة الكهف، (مع التلخيص). [ 330 ] 3 ـ الحوادث الجارية حولنا، ربّما تحمل ظاهِراً و باطناً، وعلينا عدم النّظر إلى الظّاهر فقط، لِئلاّ نخطأ في الحكم على الاُمور، من موقع العجلة و عدم التّأنّي، و علينا الأخذ بنظر الإعتبار بَواطِنها. 4 ـ عدم الإنضباط و الإلتزام بالعهود، ربّما يَحرم الإنسان من بعض البركات المَعنويّة إلى الأبد. 5 ـ الدّفاع عن الأيتام و المستضعفين، و الوقوف في وجه الظّالمين و الكفار، يُعتبر واجباً على المؤمنين، الذين يتحرّكون في خطّ الرّسالة و المسؤوليّة، و قد تُدفع في سبيل ذلك الأثمان الباهظة. 6 ـ أينما وصل الإنسان في مراحل العِلم و الرّقي، عليه أن لا يتغترّ بعلمه، و لا يتصور أنّه وصل إلى حدّ الكمال، لأنّه قد يتسبب هذا التّصور، في تجميد حركة الإنسان الصّاعدة، و القناعة بما عِنده من العلم. 7 ـ إنّ للهِ تعالى جُنوداً و ألطافاً خفيّةً تنصرُ المظلوم، بِطرقه المختلفة، وكلّ إنسان مؤمن، عليه أن يتوقّعها في كلّ لحظة. و هناك نقاطٌ مفيدةٌ اُخرى أيضاً. و هذه القصّة سواء كانت تحمل أهدافاً حقيقةً لتعليم موسى(عليه السلام)، أم أنّها تحمل نِداءات للناس; لكي يتعلموا ويقتدوا بالأعاظم من البشر، لا تختلف عما نحن بصدده. والخُلاصة: أنّ القدوة و الدّليل و الاُسوة، هو أمرٌ لابدّ منه للاستزادة من العلوم، و تهذيب النّفوس في خطّ التّكامل المعنوي و بناء الذّات. -- [ 331 ] 14 / الوجه الآخر للولاية ودوره في تهذيب النفوس 14 الوجه الآخر للولاية، و دوره في تهذيب النّفوس لا ينحصر دور الإعتقاد بالولاية، في المسائل الأخلاقية و تهذيب النّفوس و السّير إلى الله تعالى، على إتّخاذ القُدوات الصّالحة و الإقتداء بكلامهم و فِعالهم، بل و بحسب إعتقاد بعض الأعاظِم و العُلماء، يوجد هناك نوعٌ آخر من الولاية، هو فرعٌ من الولاية التّكوينية، يستطيع معها القادُة الإلهِيّيون، و بواسطة نفوذهم الرّوحي المباشر، في عالم الوجود و التّكوين، من معرفة النّفوس المستعدّة للتربية و الإصلاح، و التّصرف المعنوي المَباشر، في المستوى الرّوحي لِلإنسان في خطّ التّربية. و توضيح ذلك: إنّ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) و الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)، هَمْ القلب النّابض للاُمّة الإسلاميّة، و كلّ عضو من الأعضاء، يكون له إرتباطٌ وثيقٌ بالقلب، سيتسنى لذلك العَضو أن يسترفِد من المنبع مَنافع أكثر، أو أنّهم بمنزلة الشّمس المشرقةِ، فكُلّما إنقشعت سُحب الأنانية عن القلب، فإنّ تلك الأشعّة ستتولى تربية عناصر الخير في النّفس، فَتورقُ و تثمرُ، و تنعكس آثارها على شخصيّة الإنسان، في إطار السّلوك و الفِكر. و هنا تأخذ الولاية شَكلاً آخر، و تنحى مَنْحاً يختلف عن السّابق، و سيكون الكلام فيها عن المَعطيات الخفيّة الغامضة، في دائرة التّأثير التّربوي، غير التي نعرفها سابقاً، في دائرة التّصرفات الظّاهريّة. [ 332 ] يقول القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ). فهذه الشّمس المنيرة، و هذا السّراجُ المنير، يتولّى وظيفتين، فمن جِهة أنّه يُضيء لِلإنسان الطريق إلى الله تعالى، ليعرف الطّريق الصّحيح و الجادة المؤدّية إلى الحقّ و الصّلاح، و يبتعد عن حافّة الهاوية. و من جهة اُخرى، فإنّ هذا النّور الإلهي، يؤثّر لا شعوريّاً في واقع الإنسان، و يتولى إصلاح النّفس في خطّ التّربية الأخلاقيّة، و يساعدها في عمليّة التّكامل و الرّقي. و كَنموذج على ذلك، ما نقرأه في الحديث المرفوع عن "هِشام بن الحَكم"، و مناظرته مع "عَمرو بن عُبيد"، العالم بِعلم الكلام السّني، عندما ذَهب هشام إلى البصرة، و أجبره ببيان لطيف و منطقي، على الإعتراف بِلزوم وجود الإمام في كلّ عصر و زمان. ا ص333 - ص343 قال هشام: بلغني ما فيه عَمرو بن عبيد، و جلوسه في مسجد البصرة، فعظُم ذلك عليّ، فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة، فأتَيت مَسجد البَصرة، فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عَمرو بن عبيد، و عليه شَملةٌ سوداءٌ، متّزراً بها، من صوف و شملةٌ مرتدياً بها، و النّاس يسألونه، فإستفْرَجت النّاس فأَفرَجوا لي، ثمّ قَعدت في آخر القَوم، على رَكبتي، ثم قلت: أيّها العالم، إِنّي رجلٌ غريبٌ تأذن، لي في مسألة!. فقال لي: نَعم. فقلت له: أَلك عَينٌ؟ فقال: يا بُنيّ أيّ شيء هذا السّؤال، و شيء تراه كيف تَسأل عنه. فقلت: هكذا مَسألتي. فقال: يا بُنيّ سَلُ وإن كانت مَسألتك حَمقاء. قلت: أجبني فيها. قال لي: سَلْ. قلتُ: ألكَ عينٌ؟ [ 333 ] قال: نَعم. قلت: فما تَصنع بها؟. قال: أرى بها الألوان والأشخاص. قلت: ألكَ أنفٌ؟ قال: نَعم. قلتُ: فما تصنع به؟ قال: أشمٌّ به الرّائحة. قلتُ: ألكَ فمٌ؟ قال: نَعم. قلتُ: فما تصنع به؟. قال: أذوقُ بِهِ الطّعام. قلت: ألك اذنٌ. قال: نَعم. قلتُ: فما تصنع بها؟. قال: أسمع بها الصّوت. قلت: أَلك قلب؟. قال: نعم. قلتُ: فما تصنع به؟ قال: اُميّز به كلّما ورد على هذه الجَوارح و الحَواس. قلتُ: أوَ لَيس في هذه الجَوارح غِناً عن القلب؟. فقال: لا. قلتُ: و كيف ذلك، و هي صحيحةٌ سليمةٌ؟. قال: يا بُني إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء، شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته، ردّته إلى القَلب [ 334 ] فيسْتَيقِن اليَقين و يُبطل الشّك. فقلت له: فإنّما أقام الله القلب; لِشّك الجَوارح؟. قال: نعم. قلتُ: لابدّ من القلب، و إلاّ لم تَستَيقن الجوارح؟. قال: نعم. فقلتُ له: يا أبا مَروان، فالله تَباركَ و تعالى، لم يترك جوارحك حتّى جَعل لها إماماً، يُصحِّح لها الصّحيح، و يتيقّن له ما شكّ فيه، و يترك هذا الخَلق كلّهم في حِيرتهم و شَكّهم و إختلافهم، لا يُقيم لهم إماماً يردّون إليه شَكّهم و حِيرتهم، و يُقيم لَك إماماً لِجوارحك، تردّ إليه حيرتك و شَكّك؟ قال: فَسكت ولم يقل شَيئاً، ثم إلتفتَ إليّ، فقال لي: أنتَ هُشام بن الحّكم؟، فقلتُ: لا. قال من جُلسائه؟، قلت: لا، قال: فَمن أَنتَ، فقلت: من أهلِ الكوفة. قال: فأنت إذاً هوَ، ثمّ ضمّني إليه، و أَقعدني في مَجلسه، وزالَ عن مجلسه، و ما نطَق حتّى قُمت. قال: فَضحِك أبوعبدالله(عليه السلام)، و قال: يا هُشام من عَلّمك هذا؟. قلتُ: شيءٌ أخذته منك، و ألّفته. فقال الإمام: "هذا والله مكتوبٌ في صُحف إبراهيم وَ موسى".(1) نعم، فإنّ الإمام بمنزلةِ القَلب، لِعالَم الإنسانيّة، و هذا الحديث يمكن أن يكون إشارةً، لِلولاية و الهداية التّشريعيّة أو التّكوينية، أو الإثنين معاً. و كذلك ما ورد، في حديث أبي بَصير وجاره التوّاب، هو شاهدٌ آخر على هذا المَطلب: قال أبو بَصير: كان لي جارٌ يتبعِ السّلطان، فأصابَ مالاً فإتّخذ قِياناً، و كان يجمع الجَموع و يشربُ المُسكِر و يُؤذيني، فشكوته إلى نفسه غيرَ مَرّة، فلم يَنتَهِ، فلّما ألحَحَتَ عليه، قال: يا هذا أنا رجلٌ مُبتلى، و أنت رجلٌ معافى، فلو عرّفتني لِصاحبك رَجوتُ أن يَستنقذني اللهُ بك، فوقع ذلك في قلبي، فلما صِرت إلى أبي عبدالله(عليه السلام)، ذكرتُ له حاله. 1. اُصول الكافي، ج1، ص129، ح3، باب الإضطرار إلى الحجّة، (مع التّلخيص). [ 335 ] فقال لي: "إذا رجعت إلى الكُوفة، فإنّه سيأتيك، فقل له: يقول لك جعفر بن محمد: دعْ ما أنت عليه، و أَضمِنْ لك على الله الجنّة". قال أبو بَصير: فلمّا رجعت إلى الكوفة، أتاني فيمن أتى، فاحْتبستُه حتّى خَلا منزلي. فقلت: يا هذا، إنّي ذكرتُك لأِبي عبدالله(عليه السلام)، فقال: "أَقرِأه السّلام و قل له: يترك ما هو عليه، و أَضمن له على الله الجنّةَ". فَبَكى، ثمّ قال: الله، قال لك جعفر(عليه السلام) هذا؟ قال: فحلفت له، أن قال لي ما قلت لك. فقال لي: حَسبُك وَمَضى، فلما كان بعد أيّام بعث إليّ و دعاني، فإذا هو خَلف باب داره عُريان. فقال: يا أَبا بصير، ما بقي في منزلي شيءٌ، إلاّ و خرجت عنه، و أنا كما ترى. فَمشيت إلى إخواني، فجمعت له ما كسوته به، ثمّ لم يأت عليه إلاّ أيّاماً يسيرةً، حتّى بعث إليّ: أنّي عليل فآئْتني، فجعلت أختلف إليه، و اُعالجه حتّى نزل به الموت. فكنت عِنده جالساً و هو يجود بِنفسه، ثم غُشي عليه غشيةً ثم أفاق، فقال: يا أبا بَصير، قد و فّى صاحبك لنا، ثم مات، فَحَججت فأتيت أباعبدالله(عليه السلام)، فإستأذنت عليه، فلمّا دخلت قال مبتدئاً من داخل البيت، وإحدى رجليّ في الصّحن والاُخرى في دهليز داره: "يا أبا بَصير قد وفيّنا لصاحبك".(1) بالطّبع يمكن أن يقال: إنّ هذا الحديث حمل في طيّاته، جانب التّوبة العاديّة المعروفة بين الناس، ولكنّنا نقول: إن ّ ذلك الرّجل المذنب والمليء بالمعاصي، من رأسه إلى أخُمص قدمه، لم يكنِ ليُغيّر طريقة حياته، و اتّخاذه جانب الصّلاح و الفلاح، و على حدّ إعترافه هو، بأنّه لولا الإمام(عليه السلام) و عنايته، لم يكن له أن يتحول من دائرة الظلّمة و المعصية، إلى دائرة النّور والهداية. و يوجد إحتمالٌ قويٌّ، و هو أنّ هذا الإنقلاب و التّحول، في روح و سلوك هذا الرجل المذنب المستعد لِلتوبة، كان بسبب التّدخل الرّوحي للإمام(عليه السلام)، و تصرفه في محتواه النّفسي، و 1. بحار الأنوار، ج47، 145 146، ج199. [ 336 ] ذلك لوجود نقطة مضيئة و بصيص من الأمل في أعماق قلبه، و هو تمسّكه بالولاية، حيث أدّى إلى أن يتحرّك الإمام(عليه السلام) إلى نجدته و إنقاذه، في آخر لحظات حياته و أيّام عمره. و الّنموذج الآخر لهذا التّأثير المعنوي، و الولاية التكوينيّة في تهذيب النّفوس المستعدّة، هو ما نقله العلاّمة المجلسي(رحمه الله) في بحار الأنوار، عن الإمام الكاظم(عليه السلام)، و الجارية التي أرسلها هارون إليه. فقد وَرد أنّ هارون الرّشيد، أنفذَ إلى موسى بن جعفر(عليه السلام) جاريةً خصيفةٌ، لها جمالٌ و وضاءةٌ لتخدمه في السّجن، فقال له: (بَل أَنْتُم بِهَدِيّتِكُم تَفرَحُونَ )(1)، لا حاجة لي في هذه و لا في أمثالها، قال: إستطار هارون غَضباً، و قال: إرجع إليه وقل له: ليس بِرضاك حبَسناك، و لا بِرضاك أخذناك، و إترك الجارية عنده و إنصرف. قال: فَمضى و رجع، ثم قام هارون عن مجلسه، و أنفذَ الخادم إليه ليتفحص عن حالها، فرآها ساجدةً لربّها لا ترفعُ رأسها، تقول: قُدّوسٌ سُبحانك سُبحانك. فقال هاورن: سَحرها و الله موسى بن جعفر بسحره، عليّ بها، فأتى بها و هي تَرتَعد، شاخصةً نحو السّماء بصرها، فقال: ما شأنك؟. قالت: شأني الشّأن البديع، إنّي كنت عنده واقفةً، و هو قائمٌ يصلّي ليله ونهاره، فلمّا إنصرف عن صلاته بوجهه، و هو يسبّح الله و يقدّسه، قلت: ياسيّدي هلْ لك حاجة اُعطيكها؟ قال: وما حاجتي إليك؟ قلت: إنّي اُدخلت عليك لِحوائجك. قال: ما بالُ هؤلاء؟. قالت: فآلتفتُ فإذا روضةٌ مزهرةٌ، لا أبلغ آخرها من أوّله بنظري، ولا أوّلها من آخرها، فيها مجالسُ مفروشة بالوِشيّ و الدّيباج، و عليها و صفاً وَ وَصائِف، لم أر مثل وجوههم حُسناً، و لا مِثل لباسهم لِباساً، عليهم الحَرير الأخضر، والأكليلُ و الدّر و الياقوت، و في أيديهم الأباريق و المَناديل، و من كلّ الطّعام، فخَررت ساجدةً حتّى أقامني هذا الخادم; فرأيت نفسي حيثُ كنت. 1. سورة النّمل، الآية 36. [ 337 ] فقال هارون: يا خبيثة، لعلّكِ سجدت فَنمت فرأيت هذا في مَنامك؟. قالت: لا والله ياسيّدي، إلاّ قبل سُجودي، رأيت فسجدت من أجلِ ذلك. فقال هاورن: إقبض هذه الخبيثة إليك، فلا يسمع هذا مِنها أحد، فأقبلت في الصّلاة، فإذا قيل لها في ذلك، قالت: هكذا رأيتَ العَبد الصّالح(عليه السلام)، فسئلت عن قولها، قالت: إنّي لما عَييت من الأمر نادتني الجواري، يا فلانة أبعدي عن العبد الصّالح، حتّي ندخل عليه، فنحن له دونك، فما زالت كذلك حتّى ماتت، و ذلك قبل موتِ موسى(عليه السلام)بأيّام يسيرة(1). و في هذه القصّة، نشاهد نموذجاً آخر من تأثير الإمام(عليه السلام)، في روح تلك الجارية المستعدّة للتّربية و الإصلاح الرّوحي، و الهداية في طريق الحقّ و العودة إلى الله تعالى. -- والخلاصة: أنّ تاريخ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و الأئمّة الهداة(عليهم السلام)، حافل بمثل هذه الحوادث، حيث يتّفق لبعض الأشخاص، أن يلتقوا مع النّبي أو الإمام، فينقلب مَساره في حركة الحياة و الواقع و يتغيّر كلياً، و يتحوّل إلى النّقطة المقابلة، في حين أنّ هذا التغيّر، ما كان ليحصل بواسطة الأسباب العادية، بحسب الظّاهر، و هذا الأمر يدلّ على أنّ الإنسان الكامل، هو الذي تولى هذه العمليّة التغييريّة، في هؤلاء الأشخاص من خلال التّصرف و التّدخل في النّفوس، و هو ما نسمّيه بالولاية التكوينيّة. و من المؤكّد أنّ هذه العناية، و اللّطف و التّوجه، لم يكن إعتباطاً، بل هو لوجود نقاط قوّة في شخصيّة الفرد المُعتنى به، لتشمله العناية الإلهيّة، بواسطة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، و الأئمّة الطّاهرين(عليهم السلام). كلام العلاّمة الشّهيد المطهّري: نترك الكلام و القَلم هنا، للعلاّمة الشّهيد المطهّري(قدس سره)، حيث يقول في كتابه: "ولاءها و 1. بحار الأنوار، ج48، ص239، نقلاً عن المناقب، ج3، ص414، (مع شيء من التّخليص). [ 338 ] ولايتها": (تستعمل هاتين الكلمتين عادة في أربع موارد: و لاء المحبة: (أي المحبّة لأهل البيت)(عليهم السلام)، و ولاء الإمامة، بمعنى التّأسي بالأئمّة(عليهم السلام)، و جعلهم القدوة لأعمالنا و سلوكيّاتنا، و ولاء الزّعامة، بمعنى حقّ القيادة الاجتماعيّة والسّياسية للأئمّة(عليهم السلام)، و ولاء التّصرف، أو الولاء الرّوحي و هو أسمى هذه المراحل). و بعدها يوضّح الأوّل و الثّاني و الثّالث، ثمّ يعرج على المعنى الرّابع، الذي هو مورد بحثنا و يقول: (إنّ التّصرف الرّوحي والمعنوي، هو نوعٌ من القُدرة و التّسلط الخارق للتكوين، بمعنى أنّ الإنسان و من خلال عبوديّته الحقّة لله تعالى، يحصل على مقام القُرب الإلهي المعنوي و الرّوحي، و نتيجة لهذا القُرب، يصبح إنساناً كاملاً، يتحرك في طريق هداية الناس نحو المعنويات، و يتسلط على الضّمائر، وتكون له قدرة الشّهود على الأعمال، و بالتّالي يصير حُجّة الله في زمانه! فمن وجهَة نظر الشّيعة، أنّ كلّ زمان لا يخلو من إنسان كامل، يتمتع بقدرة التّصرف الغيبي في العالم والإنسان، و ناظرٌ و شاهدٌ على الأرواح والقلوب، وهذا الإنسان هو حجّةُ الله على الأرض. و المقصود من التّصرف، أو الولاية التكوينيّة، ليس كما يعتقد بعض الجهّال، من أن يتولى الإنسان الكامل، مسألة القَيوميّة و التدبير في العالم، بحيث يكون الخالق و الرّازق و المفوض، من جانب الله تعالى. و هذا الإعتقاد، رغم أنّه لا يعتبر شركاً، بل هو كما ورد في القرآن، بالنّسبة إلى الملائكة: "المُدَبِّراتُ أَمرَاً وَالمُقَسِّماتِ أمراً"، فهو بإذن الله تعالى، والقرآن يُخبرنا أنّ لا: نَنسب مسائل الخلقة و الرّزق والموت و الحَياة، إلى غير الله تعالى. ولكن المقصود، هو أنّ الإنسان الكامل، ولقربه من الله تعالى، يصل إلى مرحلة تكون له الولاية في التّصرف في: (بعض اُمور) العالم. ثم يضيف قائلاً: ويكفي هنا أن نشير إشارةً إجماليةً إلى هذا المطلب، وتوضيح اُسسه بالإعتماد و على المفاهيم و المعاني القرآنية، لِئلاّ يعتقد البعض، أنّ هذا جزافاً من الكلام. [ 339 ] فلا شك أنّ مسألة الولاية، بمعناها الرّابع، هي من المسائل العرفانيّة، و مجرد كونها عرفانيّة، لا يعني نكرانها بالكامل. ثمّ يشرح بإسهاب، معطيات القرب من الله تعالى، و يستنتج منها، ما يلي: فعلى هذا الأساس، من المحال على الإنسان، و بعد قربه و طاَعتِه للهِ تعالى، ألاّ يصل إلى مقام الملائكة، بل وأرقى، أو على الأقل يساوي الملائكة في مقامهم، الملائكة التي تدبّر و تتصرف في عالم الوجود، بإذن الله تعالى"(1). ويمكن أن نخرج من هذا الحديث بنتيجة، و هي أنّ العلاقة المعنويّة، و الإرتباط بالإنسان الكامل، يمكن أن يساعد الإنسان في عمليّة التّصرف، و النّفوذ في حياة الاُناس المستعدّين والمتقبلين للإصلاح، وسوقهم تدريجياً في خطّ التّهذيب الأخلاقي، و إبعادهم من جو الرّذائل إلى جو الفضائل الأخلاقية والكمالات الروحيّة. الاستغلال السّيء: تتعرض المفاهيم البنّاءة و الصّحيحة، للاُمم و الشّعوب في كلّ زمان و مكان للإستغلال و التّحريف دائماً، و هذا الإستغلال في الحقيقة لا يؤثر على صحة و قداسة أصل المسألة. ولم تكن مسألة القدوة الأخلاقيّة في خطّ التربية و التّهذيب، و لزوم الإستفادة من الاُستاذ العامّ و الخاصّ، لأجل السّلوك إلى الله و تهذيب الأخلاق، مستثناة من هذا الأمر، فجماعةُ من الصّوفيّة طَرحوا أنفسهم، بعنوان: "مُرشد" أو "شيخ الطّريقة" و "القُطب"، و دعوا الناس لإتّباعهم و التّسليم المُطلق إليهم، بل و تعدّوا الحُدود، و قالوا إذا ما شاهدتم سلوكاً يصدر من الشّيخ، مخالفاً للشريعة، فلا عليك و لا ينبغي عليك الإعتراض، لأنّ ذلك يخالف روح التّسليم المُطلق للمرشد. و يُستفاد ومن كلمات "الغزالي"، المؤيد للصّوفية، في فصولِ متعددّة من كتابه "إحياء العلوم"، هذا المعنى أيضاً، حيث يُشمّ منها رائحة الصوفيّة، و الحقيقة أنّ فِرقاً من الصّوفية، 1. كتاب ولاءها و ولايتها، ص56، و ما بعدها. [ 340 ] تعتبره من كبار أعلامها، فقد قال في الفصل (51) من الجزء الخامس، الباب الخامس: (نَظَرُ الصّوفية إنّ أدب المريدين في مقابل شيوخهم هو، أن يجلس المريد مقابل الشّيخ مسلوب الإختيار، فلا يتصرف في نفسه وماله إلاّ بأمره... و أفضلُ أدب المُريد أمام الشّيخ: هو السّكوت و الخمود و الجمود، إلى أن يملي عليه شيخه، ما يراه له صلاحاً في أعماله و أفعاله... و كلّما رآى من شيخه خِلافاً، و عسُر عليه فَهمه، تذكّر حكاية مُوسى و الخِضر(عليهما السلام)، فإنّ الخضر قد عمل أعمالاً أنكرها مُوسى، ولكن عندما كشف له الخِضر أسرارها إنتبه مُوسى، وعليه فكلّما فعل الشّيخ، كان له عُذراً بلسان العِلم و الحِكمة)(1). و يقول العارف العّطار، في أحوال يوسف بن حسين الرّازي، عندما أمره ذو النّون المَصري: (مرشده)، الخُروج من بلدِه والعودة إلى دياره، طلب يوسف منه برنامجاً يعمل به، فقال له ذُو النّون: عليك بِنسيان ما قرأته، و اُمح كلّ ما كتبته، ليُزال الحِجاب!. ونقل عن أبي سعيد، قوله للمُريدين: "رَأسُ هذا الأمرِ، كَبْسُ الَمحابِرِ وَ خرَقُ الدَّفاتِر وَنِسيانِ العِلمِ"(2). ونقل عن أحوال و حالات "أبو سعيد الكندي"، أنّه كان قد نزل في الخانقاه، و إجتمع عنده جمعٌ من الدّراويش، وكان يطلب العلم سرّاً، وفي يوم من الأيّام سقطت من جيبه محبرةٌ، فإنكشف سرّه: "و هو أنّه من هواة تحصيل العلم"، فقال له أحد الصّوفيين: (اُستر عليك عَورتك)(3). ولا شك فإنّ الجو الحاكم هناك، كان نتيجةً لتعاليم مرشدهم في هذا الأمر، ولكنّ الحقيقة أنّ الاسلام قد أكّد على خلاف هذا المسلك، ففي الحديث الوارد عن الصّادق(عليه السلام)، عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: "وُزِّنَ مِدادُ العُلَماءِ بِدِماءِ الشُّهدَاءِ، فَرُجّحَ مِدادُ العُلَماءُ عَلى دِماءِ الشُّهَدَاءِ"(4). فانظر إلى الفرق بين المسلكين!!. 1. احياء العلوم، ج5، ص198 ـ 210، (مع التلخيص). 2. أسرار التّوحيد، ص32 و 33، طبعة طهران. 3. نقد العلم والعلماء، ص317. 4. بحار الأنوار، ج2، ص16، ح35. [ 341 ] و لأجل الإطّلاع على كيفيّة التّحريف و الإنزلاق في منحدر الإفراط و التّفريط، و كيف تنحرف مسألةٌ معينةٌ عن المنطق و الشّرع، لدى وقوعها بأيدي مَنْ لا أَهليّة له، على التّنظير في اُمور الدّين؟، و كيف تَتعرض للإستغلال و التّشويه، علينا إلقاء نظرة على كلام: "كيوان القِزويني المُلقّب بـ منصور علي شاه"، حيث يُعتبر من أقطاب الصّوفية، فقد بيّن حدود و صلاحيّات القُطب، و قال: "لِلقطب أن يدّعي عشرةَ خُصوصيّات: 1 ـ أنّ عندي باطنُ الولاية التي كانت عند الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)... مع فرق واحد هو، أنّه المؤسس وأنا المروّج والمدير والحارس!. 2 ـ عندي القُدرة على تربية الأفراد، و تهذيب نفوسهم، و إزالة العناصر الخبيثة و الخصائص الشّريرة، في واقعهم ونزعها ونقلها إلى الكفّار. 3 ـ أنا حرّ من قيود الطّبع و النّفس. 4 ـ يجب أن تؤدى جميع عِبادات و مُعاملات المُريدين، بإجازة و موافقة منّي. 5 ـ كلّ إسم اُلقّنه لِلمُريدين، و أجيزهم بذكره في القلب أواللّسان، يكون هو ذلك الإسم فقط هو الله، ويسقط الباقي من درجة الإعتبار. 6 ـ كلّ المعارف الدينيّة و العقائديّة، إن كانت قد حصلت بموافقتي، فهي صحيحة، وإلاّ فهي عينُ الزّيف، و مَحض الخَطأ. 7 ـ أنا مفترضُ الطّاعة، و لازمُ الخِدمة، و لازم الحفظ. 8 ـ أنا حرٌّ في عقائدي. 9 ـ أنا ناظرٌ للأحوال القَلبيّة لمريديّ دائماً. 10 ـ أنا قسيم النّار والجنّة(1). هذا الكلام أشبهُ بالهَذيان منه إلى البَحث المَنطقي، رغم أنّه قد لا يقبله أغلب الصّوفيين، ولكن مجرد أنّه يرى نفسه بِعنوان: "قُطب"، و إدّعائه أن للأقطابِ، إختياراتٌ و صلاحيّاتٌ لم 1. إستوار نامه، ص95 ـ 106، (مع التّلخيص). [ 342 ] يدّعيها حتى الأنبياء لأنفسهم، فإن ذلك يكفي، في تبيان مدى إستغلال هؤلاء المدّعين، لمثل هذه العناوين الضّبابيّة و حاجة الناس للمعلم، في أمر السّير و السّلوك إلى الله تعالى، و ما يمكن أن يترتّب على ذلك، من عواقب سلبيّة على مستوى، سَوقِ النّاس في خَطّ الباطل. فهذه الإدّعاءات، بعض منها من خواصّ الأنبياء، والاُخرى لم يجرء على ادّعائها أحد من الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)، و أيّ شخص له قليلٌ من الإلمامٌ بالدّين، سيتوجه إلى فَضاعةِ الأمرِ و خُطورته. و إذا ما رَجعنا إلى كُتب أهل التّصوف، مثل، "تَذكرة الأَولياء" لِلشيخ العَطار، و "تاريخ التّصوف"، و "نفحات الاُنس"، و بعض أبحاث "إحياء العُلوم"، نرى أنّ الإدّعاءات و الخُصوصيّات التي يضعوها لِلأقطاب، و شيخُ طريقتهم: فضيعةٌ، و لذلك فإنّ بعض مُحقّقي الشّيعة وفقهائهم، و قفوا بِشدّة و قوّة، مقابل هذه الطّائفة، حتى أنّ هذا الموقف تسبّب بإيذاء بعض الّذين يتعاملون مع المفاهيم الدينيّة، من موقع الجهل و السطحيّة، لكن الحقيقة أنّ المثقفين و المطّلعين، يعلمون أنّ إطلاق العِنان لمثل هذه الأفكار المُنحرفةُ من شأنه أن يَقضي، على فُروعِ و اُصولِ الدّين الحَنيفِ بصورة كاملة. -- نَصل هُنا و إيّاكم إلى نِهاية أبحاثنا، عن كلّيات المسائل الأخلاقيّة، في ظلّ الآيات القرآنية، أبحاثٌ تعتبر الأساس و القاعدة الّتي يقومُ عليها صَرحُ الأخلاق و تهذيب النّفوس، و تفتحُ أمامنا أبواب المباحثِ المستقبليّة، حول مصاديق الرّذائل و الفضائِل، واحدةً بعد اُخرى. إلهنا!: "إنّ الوصول إلى أوج الفضائل الأخلاقيّة و الحياة، في أجواء القُرب منك، لا تُستطاع إلاّ بتَوفيقك و تَسديدِك، فَأعنّا بعونَك، وجُد علينا بفضلك، وَ قرّبنا مِنك، و اجعلنا من أصحاب النّفوس المطمئنّة، لندخل فيمن يقعونَ مَورداً لخطابك،: (فَادْخُلي فِي عِبَادِي * وَ ادْخُلي جَنَّتي ). [ 343 ] رَبّنا!: إنّ حَبائلَ الشّيطانِ قويّةٌ، و سهامَه مَهلكةٌ، وهوى النّفس عدوٌّ لا يرحم، و رذائل - النّفس كالأشواك تُوخز الرّوحَ و تُؤذيها، و لا يُنجينا من ذلك كلّهُ إلاّ عنايتُك الخاصّة و لطفُك الخَفي. ربّنا!: إننا نُسلّمُ الأمرَ إليكَ في خِتام حديثنا، و نقرأ الدّعاء المعروفَ الواردَ عن الرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله)، و نقول: "اللَّهُمَّ لا تَكِلنِي إِلى نَفْسِي طَرفَةَ عِين أَبَداً"(1). تمّ والحمد لله الجزء الأول من كتاب الأخلاق في القرآن في 24 / 3 / 1376 هـ . ش المصادف 8 / صفر 1418 هـ . ق 1. بحار الأنوار، ج18، ص204.